شهد الإسلام على براعة مجموعة من علماء المسلمين الذي أبدعوا في تدشين مبادئ تربوية وتنويرية على منظومة التعليم والتنشئة، حيث جاءت هذه الإنجازات تأثرًا بأحكام الشريعة الإسلامية أو محاكاة للفلسفة الأوروبية، ولأن هذا الاقتباس قد يبدو مناقضًا لتعاليم الإسلام، اجتهد الفلاسفة المسلمون في تصحيح ما استنسخ من التراث الفلسفي الغربي وعدلوا فيه بما يلائم ويناسب الطبيعة الفكرية والاجتماعية للمسلمين، فبرزت أساليبهم ونظرياتهم التربوية الخاصة التي جمعت بين الجانب العقلاني والروحاني والأخلاقي والجسماني.
فلسفة ابن طفيل التربوية
تشمل العملية التربوية جميع المعارف والأنشطة (النفسية والجسدية والذهنية والاجتماعية) والخبرات التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على المتعلم، لذلك يهدف المربي إلى توجيه هذه الأساليب داخل مقررات منهجية لتحقق أهدافًا واضحة ومرسومة، وهذا ما لخصه ابن طفيل في القصة الشهيرة “حي بن يقظان” التي أضفى عليها أساليب تربوية متكاملة ومتلائمة مع احتياجات كل مرحلة وما يناسبها من نمو جسدي وعاطفي وعقلي واجتماعي، لتنمو الشخصية في الاتجاه السليم.
اختار ابن طفيل هذه القصة ليوضح لنا طرق تربية الطفل التي ستكون “تربية طبيعية” من خلال محاكاة وتقليد مكونات الطبيعة، إذ تسرد لنا أحداث القصة ولادة “حي” وتربيته من قبل ظبية أرضعته وحمته فنسجت بينهما علاقة الأم والابن، ومن خلال الملاحظة والمشاهدة، بدأ “حي” باكتشاف عالم هذه الظبية وأصبح يحاكي صوتها وأصوات الحيوانات الأخرى ليعبر عن خوفه أو جوعه، إلى أن تكيف بشكل كامل مع الطبيعة.
المنهج الثالث هو مبدأ التدرج في المعرفة من السهل إلى الصعب، والذي أكده علماء آخرون بأنه لا يمكن للطفل أن يتعلم معارف معينة ما لم يكن قد بلغ السن المناسبة لهذه المعارف
رغم الألفة التي نشأت بين حي الإنسان وسائر الحيوانات، فإن العقل الذي يتميز به الإنسان يجبره على التساؤل وطرح الأسئلة، فمثلًا كانت أول ملاحظته بشأن اختلاف مظهرهم الخارجي عنه، فمنهم من اكتسى جسده بالفرو أو الريش وهو عاري الجسد لا قوة يملكها للدفاع عن نفسه، وهذه الملاحظات أجبرته على التفكير في حل للاعتماد على نفسه وهي اتخاذ ريش النسور الميتة كلباس له وحمل أغصان الأشجار كسلاح للدفاع عن نفسه، وهذا ما يفعله الأطفال من عمر سنتين إلى سبعة، إذ يحاولوا الانفصال عن الآخرين وتحقيق احتياجاتهم البسيطة.
والأسلوب الثاني قائم على ضرورة تقدير القيم الإنسانية التي اتضحت في تعامل الظبية مع حي، كقيم المحبة والعناية والتضامن والاهتمام، ويظهر لنا كيف ترسخت هذه القيم فيه عندما تهالكت صحة الظبية وضعفت حركاتها فوصف ابن طفيل حي قائلًا: “فلما رآها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعًا شديدًا، وكادت نفسه تفيض أسفًا عليها، فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغييرًا”، وهذا درسًا آخر بالأخلاق التي تظهر محاولة حي في إظهار وحدته وتعاونه مع الظبية، لكن طبيعته الإنسانية وملاحظاته الذهنية لم توقفه عن البحث في جسدها الميت في أعضائها بغرض التعرف عن سبب موتها ومساعدة غيرها من الحيوانات.
وعندما شرح جسدها ورأى أعضائها قوية وسليمة، تعرف على الروح التي لا قيمة للجسد في غيابها وهي نتيجة للأسئلة التي أثارها عن سبب توقف حركة الجسد؟ وأين ذهب الجسد عندما تحلل؟ لينتقل بهذه الأسئلة من العالم المادي إلى الحسي.
والمنهج الثالث هو مبدأ التدرج في المعرفة من السهل إلى الصعب، وذلك بالطبع بحسب طبيعة العلوم والنضج العقلي، وهذا ما أكده علماء آخرون بأنه لا يمكن للطفل أن يتعلم معارف معينة ما لم يكن قد بلغ السن المناسبة لهذه المعارف.
ثمن ابن طفيل العودة إلى الطبيعة واعتزال المجتمع والجسد وعدم الاعتماد عليه ليحقق الإنسان ذاته وليفهم ماهية الكون وأسراره
وأخيرًا التعليم عبر منهج التصوف القائم على الجانب الحسي والروحاني، وهذا ما لجأ إليه حي عندما أراد التعرف على وجود الله، فاتبعه عن طريق الملاحظة والتأمل، ورأى أن الوصول إلى السعادة والسلام تكمن في الانعزال والانفراد، خاصة أنه رأى المجتمع غارق بالفكر المادي الذي لا يرى أبعد من القشور، ولا يجتهد في التفكير والغوص في باطن الظواهر.
ثمن ابن طفيل العودة إلى الطبيعة واعتزال المجتمع والجسد وعدم الاعتماد عليه ليحقق الإنسان ذاته وليفهم ماهية الكون وأسراره، وهذا أيضًا ما دعا إليه فلاسفة من الغرب رأوا أن العودة إلى الطبيعة تحقق غايات الإنسان القصوى.
استنبط العلماء مجموعة من الأساليب التربوية التي طبقها ابن طفيل في قصته، وأهمها اتباع أسلوب وطريقة تناسب فكر وبيئة التلميذ من ناحية، وطبيعة المعارف من ناحية أخرى، إذ لا يمكن اتباع منهجية واحدة في تعليم جميع الطلاب باختلاف قدراتهم العقلية وظروفهم الحياتية، والتركيز على الخبرة والتجربة وما يتبعها من ملاحظة واستنتاج وتحليل، واستخدام نظام الحوافز والدوافع للتشجيع السعي وراء المعارف وإثارة فضول المتعلم.
المنهج التربوي عند ابن رشد
يرى هذا الفيلسوف المسلم بأن التربية وسيلة الشريعة في ضبط توجهات الناس لضمان سلامتهم وكمالهم، وكان يعتقد بأن التربية القائمة على القهر والتخويف كوسيلة للضبط والتحكم لن توصل المتعلم إلى التفكير العقلاني الذي يسمح له برؤية ظواهر الأشياء وباطنها وأسبابها، ورفض تعليم الخرافات للأطفال لآثارها السيئة على التكوين النفسي الذي يلازمه طيلة حياته وقد يعرقل عملية إدماجه في المجتمع ويمنعه من إداء دوره لأن هذه القصص الوهمية تنمي الخوف في قلوبهم وباعتبار أن الواقع هو المرجع الأساسي للمعارف والعلوم، حيث قال: “ونحذر – كما يقول أفلاطون – من أن نعود نفوسهم سماع الأقاصيص السافلة أكثر مما نحذر من إصابة أجسامهم بالثلج”.
اتخذ ابن رشد مشروع المدينة الفاضلة التي أسسها أفلاطون كنموذج مثالي للمجتمع الذي يؤيده، فرأى ضرورة في بناء علاقات مع المجتمعات الأخرى، بحيث لا يكون هناك مجال للانعزال والانطواء على الذات لآثاره النفسية والاجتماعية السلبية، وعبر عن إيمانه بالانفتاح على الآخر على مستويين اجتماعي وثقافي فكري مع الحرص على إخضاع الفكر لحكم الشرع.
احتلت الأنشطة الفنية والبدنية جزءًا من الشروط التي أقرها ابن رشد في دور التعليم الصحيح، لدورها في تحفيز الذوق الجمالي والإنساني لدى المتعلم
وبشكل أكثر تفصيلي، رأى أن الصراعات الدولية والنزاعات السياسية تنشر الفتنة بين المجتمعات وتشجع على الانعزال والانفراد، وهذه النتائج تصيب الفرد باضطرابات نفسية وذلك لعدم توافقها مع طبيعته الاجتماعية والفضولية، ومن ناحية أخرى، فهي لا تثمر صناعات ولا علومًا وتتعس المجتمعات لا أكثر، وهذه عكس رؤية ابن طفيل.
رفع ابن رشد من قيمة الشرائع التي تدعو إلى التأمل والتدبر لأن فيها خلاصة الفرد إلى السعادة والبلوغ الإنساني الكامل وضرورة الالتزام ببعض الشعائر مثل الصلاة ضرورة في ممارستها لدورها في إبعاد المجتمعات عن المفاسد.
حذر الفيلسوف المسلم من تسميع التلاميذ الشعر الرديء الذي يتضمن ألفاظًا ودعوات إلى الرذيلة والفجور واتباع اللذات، حيث قال: “فاعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الشريرة وضرره كبير على النشء في الصبا”، ونبه إلى ضرورة تشجيع الأجيال الناشئة على محاكاة الشجعان والأبطال، لأن تقليدهم لهم سيجعل الشجاعة واحدة من طباعهم وخصالهم الحميدة.
احتلت الأنشطة الفنية والبدنية جزءًا من الشروط التي أقرها ابن رشد لاستكمال دور التعليم الصحيح، لدورها في تحفيز الذوق الجمالي والإنساني لدى المتعلم، ورأى أن الموسيقى بنفس أهمية الرياضة، إذ قال: “الموسيقى دون رياضة تحمل النفس على اللين وتصيرها ضعيفة وفي غاية الخمول والدعة، والرياضة تقوي النفس الغضيبة أما الموسيقى فتهذبها وتخضعها للعقل، بل إن الشجاعة لا ترسخ في النفس إلا بالموسيقى والرياضة معًا”، لكنه في نفس الوقت حذر من الأنغام المائعة والمعبرة عن الحزن والخوف.
أصر ابن رشد على مشاركة المرأة في التعليم وشجع على الثقة بها وبقدراتها على التعلم والحفظ والفهم وتأدية أدوارها في المجتمع مثلها مثل الرجال
ورأى أن الترتيب في تلقي العلوم من أهم الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار لتفادي إحداث أي خلل في مرحلة التعليم؛ لذلك دعا إلى تعليم المنطق ثم الحساب ثم علم الهندسة ثم الفلك ثم علم المناظر فعلم الأوزان وبعدها إلى علم الطبيعة وما بعدها، فهذا التدرج بالمعارف جاء على أساس خطة مرسومة ولا يتم وضع منهاج تعليمي بطريقة عشوائية.
ومن أكثر ما يلفت النظر في فلسفة ابن رشد التربوية، إصراره على مشاركة المرأة في التعليم وشجع على الثقة بها وبقدراتها على التعلم والحفظ والفهم وتأدية أدوارها في المجتمع مثلها مثل الرجال.
هذه الدروس التربوية التي جاءت تارة استباقًا لرؤى الغرب وتارة محاكاة لهم، شكلت حالة من الوعي الفكري في المؤسسات التعليمية التي رأت أن الفلسفة الإسلامية التربوية قامت على مبادئ تعليمية متقدمة احترمت فيها معارف الثقافات الأخرى، وقدرت الفروق العقلية بين المتعلمين، وسلطت الضوء على أهمية الأنشطة الفنية والبدنية والإبداعية في المناهج التربوية، كما أنها حاربت العشوائية والتزمت بشروط التدرج لتخلق منهج تربوي متكامل.