أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في أحدث بياناتها أن “إسرائيل بدأت مشاورات أولية محليًا لوضع خطة لليوم التالي في غزة بعد الحرب”، في تكرار ممجوج حول المحاولات المتكررة أمريكيًا وإسرائيليًا لهندسة ما اصطلح على تسميته “اليوم التالي” للحرب في قطاع غزة.
يعيد بيان الخارجية الأمريكية الرهان على إمكانية الوصول إلى أفق لهندسة “اليوم التالي” في قطاع غزة إسرائيليًا، وهو ما فشل الاحتلال في تحقيقه على مدار أشهر الحرب العشرة، على حدّ سواء في شمال قطاع غزة وجنوبه، فيما لم تتوقف الأطروحات والأفكار عن التوالد والتوالي من أقطاب حكومة دولة الاحتلال ومجلس الحرب فيها، الذي انهار فيما بعد لأسباب يقع في قلبها تهرُّب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو من تبني مقاربات منطقية (من وجهة نظر عضوَي المجلس المستقيلَين بيني غانتس وغادي أيزنكوت) لـ”اليوم التالي”.
في إطار محاولة تجنُّب انهيار مجلس الحرب، وقبيل أيام من استقالة غانتس وحزبه من حكومة الحرب، أُقرّت الخطة التي قدمها وزير الحرب في حكومة الاحتلال يوآف غالانت، وحملت عنوان “الفقاعات الإنسانية” أو “الجزر الإنسانية”، في محاولة لخلق نماذج متعددة ومصغّرة لإمكانية إقامة أنظمة محلية تتعاون مع الاحتلال وتتجاوز السلطات في قطاع غزة، التي يندرج “القضاء عليها” ضمن أهداف حرب الإبادة المستمرة على القطاع والشعب الفلسطيني.
من المفترض أن الخطة المذكورة استخلصت ملامح الفشل في الخطط السابقة، خصوصًا بعد الفشل الكبير لخطة العمل مع العائلات والعشائر، والتي أقرَّ نتنياهو بفشلها في مقابلته الصحفية مع “القناة 14” العبرية، معلنًا أن العمل يجري على نموذج آخر وصفه بأنه “تدريجي” لإنشاء “إدارة مدنية بالتعاون مع محليين” في قطاع غزة دون أن يخوض في التفاصيل، سوى أن هناك تعاونًا بشأن الأمر مع “جهات خارجية”.
الجوهر “خطة الحسم”
حمل بيان الخارجية الأمريكية إشارة واضحة إلى أن الخطوة الإسرائيلية المقصودة تستند إلى العمل مع “شركاء محليين”، ما يمثل ضمنيًا قبولًا أمريكيًا بمنح الاحتلال فرصة جديدة لتطبيق مقاربات تنسجم مع ما سبق أن رفعه رئيس وزراء الاحتلال حول رؤيته لـ”اليوم التالي”، التي استندت إلى وصفه بأنه “لا حماس ستان، ولا فتح ستان“، ورفضه الإقرار بأن السلطات الحاكمة الحالية والمحسوبة على حركة حماس لم تتعرض للانهيار بفعل الضربات العسكرية المتكررة واستهداف كل القدرات الحكومية لها، أو حتى التعامل مع أطروحات قبول عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة.
رغم كون بنيامين نتنياهو يحمل برنامجًا يستند إلى فكرة حصار السلطة الفلسطينية، والحدّ من تأثيرها وسلطتها على الأرض والتوسع الاستيطاني، فإنه فضّل على مدار عقود رئاسته الحكومات الإسرائيلية التمسك بمبدأ “إدارة الصراع”، بحيث لا يصل إلى حلول قطعية في أي عنوان، وبحيث يستثمر عامل الوقت في فرض وقائع على الأرض، خصوصًا في الضفة الغربية والقدس، تجعل من خيارات إقامة دولة فلسطينية غير قابلة للتنفيذ.
إلا أن أطروحاته حول “اليوم التالي” في قطاع غزة باتت أكثر قربًا ممّا ينسجم مع شريكَيه في الائتلاف الحكومي، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بشأن نظام الحكم، والخلاف معهما بشأن إمكانية عودة الاستيطان إلى قطاع غزة، والذي وصفه بأنه “غير واقعي”.
ينسجم نتنياهو في أطروحات “اليوم التالي” مع توجهات سموتريتش صاحب رؤية “حسم الصراع“، التي تحمل بين طياتها هدف تفكيك أية كينونة فلسطينية أيًا كانت صفتها أو أهدافها (حتى لو كانت سلطة يقع في صلب وظيفتها التنسيق الأمني وتقليص كلفة الاحتلال)، وتقتضي رؤيته إعادة صياغة الحضور الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بوصفه حضورًا عشائريًا في مناطق محددة لمن يرفض الهجرة من الأراضي الفلسطينية.
مع أن الولايات المتحدة لا تتبنّى هذا الطرح، وتتمسك بأهمية الاستثمار في السلطة الفلسطينية و”تجديدها“، بما يهيئها للعودة إلى الإمساك بزمام الحكم في أراضي السلطة في قطاع غزة والضفة الغربية، وتوليها مهمة إعادة ترتيب المشهد بما يشمل القدرة على الإيفاء بالتزاماتها الأمنية، إلا أن تمرير أفكار رئيس وزراء الاحتلال وحكومته بالخصوص ناتج عن حاجة الولايات المتحدة لوجود أية صيغ انتقالية لـ”اليوم التالي” تخرج الجميع من “عنق الزجاجة”.
فقاعات غالانت “الإنسانية”
أعلن يوآف غالانت، في بدايات يونيو/ حزيران الماضي، أن “الفقاعات الإنسانية” تعدّ الإجابة الواضحة لسؤال “كيف يبدو شكل غزة في اليوم التالي؟”، التي تضمن “خلق حكومة سلطوية جديدة” في قطاع غزة في نهاية الجهود الحربية الهادفة إلى “خنق حماس”، ومنع السماح باستمرارها في “الوجود”، وتعطيل قدرتها على إعادة التسلح.
ووفقًا لوزير الجيش في حكومة الاحتلال، تقتضي “الفقاعات الإنسانية” تقسيم قطاع غزة إلى مناطق صغيرة على شكل فقاعات دائرية، يدخل الجيش الإسرائيلي إلى كل منطقة تدريجيًا، ويعمل على “تطهيرها” من عناصر حماس، ثم تدخل إلى تلك المنطقة قوات أخرى، هدفها ضبط الأمن وتشكيل حكم آخر يقضي على صورة سلطة الحركة.
يعود مصطلح “الإنسانية” في التسمية إلى فكرة أن البوابة الرئيسية لمباشرة الجهات المحلية المتعاونة للعمل، هي بوابة المساعدات الإنسانية والتخفيف من معاناة الناس، عبر السماح بوصول شاحنات المساعدات
شرح الكاتب الأمريكي ديفيد إغناتيوس، في مقال له في صحيفة “واشنطن بوست”، التصور الإسرائيلي لـ”الفقاعات الإنسانية”، قائلًا إن “الفكرة أن تبدأ إسرائيل عملية انتقالية أحادية الجانب في منطقة في شمالي غزة تكون خالية إلى حد كبير من مقاتلي حماس. وبعد إقامة محيط محكم هناك، سينسحب الإسرائيليون ويتركون الحكم والأمن المحلي لمجلس فضفاض يتألف من عائلات محلية بارزة وتجار ونقابات عمالية وأعيان آخرين”، على أن يبقي الجيش سيطرته العسكرية على هذا المناطق حتى لا يسمح لحركة حماس بالعودة والسيطرة عليها، وبعد ذلك سيجري تزويد هذه القوات بسلاح يسمح لها بأن تتمكن من تشكيل حكومة بديلة للحركة.
ومن المقرر، حسب الخطة، تدريب قوات محلية في غزة على يد القوات الدولية، مع توفير القدرة والإمكانات اللازمة لها لفرض الأمن والنظام. وحسب صحيفة “معاريف” العبرية، سيتفق الجيش الإسرائيلي مع الحكومة المحلية في غزة على حرية عمله في القطاع في أي وقت يشاء، وهذا دليل على السيطرة العسكرية لا المدنية على غزة.
يعود مصطلح “الإنسانية” في التسمية إلى فكرة أن البوابة الرئيسية لمباشرة الجهات المحلية المتعاونة للعمل، هي بوابة المساعدات الإنسانية والتخفيف من معاناة الناس، عبر السماح بوصول شاحنات المساعدات الإنسانية بالتنسيق مع الهيئات الدولية، التي ستنقل المساعدات إلى هيئة محلية تكون مسؤولة عن التوزيع كي يعزَّز نفوذها وحضورها الشعبي في الدوائر المستهدفة، بعد أن أُنهك المجتمع، خصوصًا شمالي قطاع غزة، بحرب التجويع المستمرة والحصار المشدد.
وحول النموذج الأول، كشف الكاتب الإسرائيلي ناحوم برنياع، في مقال سابق، أن “خطة اليوم التالي تصور تجريبي وافق نتنياهو على تنفيذه في العطاطرة، وهي قرية صغيرة، أو في الواقع حي في الطرف الشمالي من القطاع، مقابل الحدود الشمالية”.
العجز المزدوج
لإنجاح الخطة المذكورة، المطلوب توفُّر عاملَين رئيسيَّين: الأول التمكن فعليًا من تحييد القدرات العسكرية والسلطوية لحماس في قطاع غزة، والذي في إطاره عملت “إسرائيل” على مدار أشهر الحرب المستمرة في قطاع غزة على استخدام القوة النارية الغاشمة، من أجل إنجازه باستهداف القدرات المختلفة للحركة في قطاع غزة.
إذ إنه إلى جانب المواجهة العسكرية المستمرة مع كتائب المقاومة العسكرية على امتداد أراضي القطاع، لم يتوانَ جيش الاحتلال عن استهداف المقدرات الحكومية البشرية والمادية، إذ شكّلت المقرات الحكومية والأجهزة الأمنية لحركة حماس جزءًا رئيسيًا من بنك الأهداف الإسرائيلي.
لم يقتصر هذا الاستهداف على الأجهزة الأمنية لتعطيل القدرة على السيطرة الأمنية في القطاع أو بسط النظام، بل شمل الاستهداف المباشر للجهاز الحكومي المدني، بما يشمل اغتيال/ محاولة اغتيال المفاصل الحكومية، بداية من رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي في قطاع غزة، وليس انتهاءً باغتيال وكيل وزارة العمل، وما بينهم من عشرات عمليات الاغتيال والاستهداف لمفاصل العمل الحكومي، التي طالت حتى رؤساء البلديات ولجان الطوارئ الحكومية في مدن قطاع غزة المختلفة من جنوبه إلى شماله، إضافة إلى كون المستشفيات والقطاع الصحي على رأس بنك أهداف العدوان منذ اليوم الأول لحرب الإبادة.
لم تنجح الضربات الكبرى والاستهداف الموسع واستخدام القوة الغاشمة في تحييد القدرات الحكومية في قطاع غزة، وثمة شواهد متعددة حول تمكُّن حماس من إعادة ترتيب حضورها السلطوي والأمني فور انسحاب آليات جيش الاحتلال من الأحياء والمدن المستهدفة، وفي مقدمتها أحياء ومدن شمالي قطاع غزة، الذي شكّل عنوان الاستهداف الأبرز والنموذج الأول المفترض لخطط “اليوم التالي”.
في الشق المرتبط بالقدرات العسكرية، فإن المؤشرات الميدانية واضحة جدًّا، ورغم ادّعاءات النجاح المتكررة من جيش الاحتلال حول تمكّنه من تفكيك كتائب وألوية المقاومة في عدة مناطق، فإن محاولة تثبيت مبدأ حرية الحركة والسيطرة الأمنية على هذه المناطق يصطدم دائمًا بالتصدي الكبير من المقاومة لعمليات الاجتياح الإسرائيلية، ما ظهر جليًّا في أحياء الزيتون والشجاعية ومخيم جباليا، وأخيرًا في حي تل الهوا جنوبي مدينة غزة، ما أقرَّ به المتحدث باسم جيش الاحتلال، إذ أوضح أنه حتى بعد 5 سنوات لن تنجح المحاولات العسكرية في القضاء على حماس.
العامل الثاني الرئيسي من عوامل العجز الإسرائيلي يتمثل بالعجز عن إيجاد طرف/ أطراف محلية متعاونة مع الاحتلال، وكان عنوان فشلها الأبرز العجز عن خلق تعاون مع العشائر والحمولات العائلية في قطاع غزة، ما أقرَّ به بوضوح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في مقابلته مع “القناة 14” العبرية، لاصطدام هذا الخيار بالرفض وعدم التعاون حتى من عائلات عوّل الاحتلال على وجود خصومة بينها وبين حماس.
ليس من اليسير على أي طرف محلي في قطاع غزة أن يقبل بأن يوصم بالعمالة لـ”إسرائيل”، وأن يساهم في تمرير مخططات “اليوم التالي”، خصوصًا أن خطط الاحتلال لا تهدف إلى تجاوز سلطة حركة حماس فحسب، بل إلى تجاوز أية كينونة فلسطينية، بما يشمل حتى السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح.
دلالات الفشل
تعكس الأحداث الميدانية، خصوصًا في شمال قطاع غزة، الدلالات الواضحة على أن خطة “الفقاعات الإنسانية” لم تجد أي أفق واقعي لتطبيقها، إذ إنه إلى جانب توسيع جيش الاحتلال من حجم عدوانه على أحياء شمالي القطاع بوتيرة وزخم يشبهان ما كان عليه الأمر في الأشهر الأولى للحرب، فإنه عاد أيضًا إلى مجموعة من السياسات التي تتناقض مع جوهر الرؤية المطروحة من وزير الجيش.
توجّه جيش الاحتلال إلى استئناف الدعوات المرافقة لعملية إخلاء الأحياء المستهدفة بالعدوان بتوجيه النازحين إلى مناطق جنوب وادي غزة، وصولًا إلى إلقاء مناشير ودعوات لإخلاء كل أحياء مدينة غزة من سكانها ودعوتهم إلى النزوح جنوبًا، بعد أن توقفت هذه الدعوات في الأشهر الأخيرة والاكتفاء بالدعوات إلى النزوح داخليًا في أحياء شمالي القطاع.
يحاول جيش الاحتلال ممارسة الضغط على المقاومة عبر استمرار إنهاك المجتمع واستنزاف الحاضنة الشعبية، أملًا في دفع طرف محلي إلى الرضوخ تحت وطأة الأزمة الإنسانية، لقبول التعاون من منطلق مواجهة التجويع
في الإطار ذاته، أعاد جيش الاحتلال تشديد حصاره على مناطق الشمال، والعودة إلى شبح التجويع والحرمان من أبسط أنواع الغذاء، وتعطيل العمل حتى في المعبر المستحدث الموازي لموقع إيرز العسكري، ورفض دخول أية شاحنات إلى القطاع الخاص أو المؤسسات الإغاثية من جنوبي قطاع غزة إلى شماليه.
العودة إلى أساليب الفتك العدواني المباشر والقتل السريع (بالاجتياحات الموسعة والقصف المكثف والمجازر) والقتل البطيء (بالتجويع وإعدام كل مقومات الحياة، وحتى إعادة تدمير المستشفيات التي رُمّمت، بتوافق من منظمة الصحة العالمية مع حكومة الاحتلال)، تتناقض مع ما كان يفترض أن تنتجه خطة وزير جيش الاحتلال الهادفة إلى إنشاء “الفقاعات”، التي تتحول من خلالها بعض مناطق شمال قطاع غزة إلى واحة نموذجية خالية من المقاومة، وأيضًا من القتال والاستهداف الغاشم، وأن تغرق بالمساعدات.
تؤكد الدلائل الميدانية اصطدام خطة غالانت بحائط الفشل، ما دفع جيش الاحتلال إلى العودة إلى ممارسة الضغط على المقاومة عبر استمرار إنهاك المجتمع واستنزاف الحاضنة الشعبية، أملًا في دفعها إلى تقديم تنازلات جوهرية في المفاوضات والتوصل إلى اتفاق، أو دفع طرف محلي إلى الرضوخ تحت وطأة اشتداد الأزمة الإنسانية، لقبول فتح نافذة التعاون من منطلق تخفيف وطأة الأزمة ومواجهة التجويع.
البحث عن نماذج نجاح
ينقل إغناتيوس عن بعض المسؤولين الإسرائيليين “الأكثر خبرة”، أنهم يقولون إن معظم الفلسطينيين في غزة لا يعتقدون أن حماس قد فقدت قوتها. ولكسر هذه الحالة النفسية، كما يقولون، “كان على إسرائيل أن توقف تهريب حماس من خلال الاستيلاء على ممر رفح في الشهر الماضي. وعلى نحو مماثل يتعيّن عليها أن تستمر في محاولة اغتيال قيادات حماس، والتمسك بشكل حاسم بهدف نزع السلاح”.
تحتاج كسر الحالة النفسية، وفق توصيف المسؤولين الإسرائيليين، إلى تقديم نماذج نجاح حول قدرة إمكانية تجاوز القدرات السلطوية لحركة حماس في قطاع غزة، ما دفع الاحتلال إلى محاولة الوصول إلى صيغة لتشغيل معبر رفح بترتيبات مصرية-إسرائيلية تتجاوز أي دور فلسطيني رسمي، ما اصطدم بحائط الرفض المصري وقصور الطرح الإسرائيلي، خصوصًا مع الإصرار على رفض تسليم المعابر للسلطة الفلسطينية رسميًا، وقبول صيغة غير معلنة لتواجد السلطة تحت عنوان كونها جهات محلية من القطاع.
لجأ الاحتلال إلى عدد من الممرات الإجبارية لخلق صيغ تعاون مع المجتمع المحلي في قطاع غزة تتجاوز أي دور حكومي هناك، كان أبرزها العمل المباشر مع التجار والمستوردين في القطاع، عبر فتح قنوات لتنسيق التجار لدخول شاحنات البضائع من الأراضي المحتلة والضفة الغربية عبر معبر كرم أبو سالم، بالتواصل المباشر ما بين التاجر والسلطات الإسرائيلية، دون السماح بأي دور فلسطيني، سواء على المعبر أو في الإجراءات أو الإدارة الاقتصادية، مستغلًّا الحاجة الملحّة لأسواق قطاع غزة للعديد من السلع بعد حصار مشدد استمرَّ شهورًا طويلة.
في السياق ذاته، سمح الاحتلال لمؤسسة أمريكية بالتنسيق والترتيب لسفر مجموعة من الأطفال من مرضى السرطان عبر كرم أبو سالم، مسجّلًا بذلك أول نموذج للسفر من قطاع غزة عبر معبر إسرائيلي-مصري، ومتجاوزًا أيضًا أي دور مفترض لوزارة الصحة في القطاع في فرز الحالات وترتيب الأولوية وإنجاز المعاملات اللازمة لتحويلها طبيًا.
النموذج الثالث الذي سعى الاحتلال إلى تكريسه يتمثل بوضع محددات إعادة ترميم مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس، الذي دُمّر بفعل العدوان الإسرائيلي، إذ حدد الاحتلال لمنظمة الصحة العالمية المساحات المسموحة للتحرك في إعادة العمل في المستشفى، وأخضع قوائم العاملين للفحص الأمني، ووضع اشتراطات بعدم السماح بتواجد الصحفيين أو النازحين داخل أسوار المجمع الطبي، وأن يجري كل ذلك بمعزل عن أية إدارة حكومية أو إشراف من وزارة الصحة في قطاع غزة أو حتى الوزارة في رام الله.
يكشف تصميم الاحتلال ممرات إجبارية تحت عنوان “الحاجة الإنسانية” حجم الحاجة الإسرائيلية لتقديم نموذج نجاح حول قدرة تجاوز السلطات الحكومية في قطاع غزة، والتعويل على فكرة كسر الحاجز النفسي لأهالي القطاع في فتح آفاق لإمكانية تمرير مخططات هندسة “اليوم التالي”، وتجاوز مواضع الفشل السابقة في إيجاد طرف محلي متعاون.
بيئة قطاع غزة المعقدة وتجذُّر المقاومة
تعكس الأطروحات الإسرائيلية المتكررة تهرُّب حكومة الاحتلال من الإقرار بحجم تعقيد المجتمع في قطاع غزة، ومستوى تجذُّر وحضور المقاومة والمنظومة الفصائلية هناك، إذ تعكس كل أطروحات “اليوم التالي” العجز المتكرر عن التعامل مع بيئة القطاع وتجلياتها، رغم أن المنظومة الأمنية لدولة الاحتلال تدرك هذه التعقيدات جيدًا، والتي سُخّرت من أجل دراستها وهضمها الملايين من الدولارات، عبر عقود من المتابعة الأمنية اللصيقة لكل تفاصيل الحياة في قطاع غزة.
صحيح أن تشكيلات المقاومة في القطاع سرّية، وأن العديد من أصولها تقع ضمن بند السرية، إلا أن ثمة شواهد أخرى كثيرة من العمل العلني للفصائل ونشاطها المجتمعي والجماهيري والمؤسساتي، تعطي صورة واضحة حول حجم الحضور الفصائلي في مجتمع قطاع غزة، الذي يمكن عدّه مجتمعًا مسيّسًا ومنظّمًا من الدرجة الأولى.
المخيمات وسكانها جزء غالب من التركيبة السكانية للقطاع، ويشكّلون عصبًا هامًّا لا يمكن تجاوزه لا في المنظومة الفصائلية وتركيبة المقاومة، ولا في التأثير السكاني داخل قطاع غزة
وبالتالي إن المنظومة الفصائلية حاضرة فيه في أدق التفاصيل، بما فيها حتى المنظومة العشائرية وتركيبتها، إذ إن العديد من مخاتير العشائر وكبارها قد وصلوا إلى مواقعهم نتيجة توافق فصائلي، أو أن ارتباطهم الحزبي قد منحهم النفوذ اللازم للوصول إلى هذه المواقع، إلى جانب أن العشائر تعمل على مدار السنوات السابقة كمكوّن متكامل مع الفعل السياسي، وهي منخرطة في كل أنشطة وبرامج القوى الوطنية والإسلامية في القطاع، وكان لها حضور بارز في “مسيرات العودة”، وهيئات كسر الحصار، وفعاليات لجنة التواصل مع المجتمعي الفلسطيني في الداخل، وكلها هيئات شكّلتها لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية.
يكفي أن نأخذ نموذجًا مصغّرًا بشأن البنية التحتية للمقاومة في المناطق التي يمكن أن تعدّ مناطق ذات حضور عشائري، فإن كلًّا من مدينة بيت حانون وحيَّي الشجاعية والزيتون من المناطق التي تسكنها عشائر وحمولات كبيرة، ومن أكثر الأماكن التي تشهد ضراوة كبيرة في مواجهة الاحتلال والتصدي لمحاولات الاقتحام، رغم كونها قابعة تحت العدوان والاستهداف منذ الأشهر الأولى للحرب.
من جانب آخر، إن إغفال أكثر من 60% من سكان قطاع غزة من اللاجئين وساكني المخيمات الممتدة على طول قطاع غزة بمثابة دفن للرأس في الرمال، فالمخيمات وسكانها جزء غالب من التركيبة السكانية للقطاع، ويشكّلون عصبًا هامًّا لا يمكن تجاوزه لا في المنظومة الفصائلية وتركيبة المقاومة، ولا في التأثير السكاني داخل قطاع غزة، خصوصًا أن مخيمات القطاع التسعة منتشرة في كل محافظات القطاع ومدنه.
إلى جانب التركيبة السكانية وتجذُّر المقاومة داخل العشائر وخارجها، يتعدى الحضور الفصائلي في قطاع غزة الشكل النمطي للفعل الفصائلي المرتبط بالانخراط العسكري والجماهيري في الأحزاب، بل إنه ينخرط في كل تفاصيل الحياة العامة التي تشكّل الفصائل وأذرعها الجماهيرية والاجتماعية والقطاعية والاقتصادية مكونًا رئيسيًا فيها.
التخلُّص من الأوهام
لخّص العميد (احتياط) في دولة الاحتلال، أودي ديكال، الأطروحات التي سبق وناقشها معهد الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، الذي أخضع كل السيناريوهات لحلقات نقاش واستشراف، في أن الوقت حان للتحرُّر من الوهم القائل إن هناك “حلًّا سحريًا” لغزة بعد يوم من حكم حماس، وأن البديل الأجدى سيكون الاستثمار في السلطة الفلسطينية (المتجددة) لتحكم القطاع، وأن الفرصة الأمثل لـ”إسرائيل”، من وجهة نظر ديكال، تتمثل بأن تعمل على تحديد شكل وطبيعة هذه السلطة وتضع محدداتها.
وكخلاصة.. إن أي نموذج يمكن أن ينجح الاحتلال في خلقه سيكون معرّضًا للاشتباك والمواجهة مع كل المنظومة الفصائلية المنظمة (الحليفة لحركة حماس والمعارضة)، كون الموقف الوطني الجمعي، من يمين المشهد الفلسطيني حتى يساره، رافضًا للصيغ التي تحاول دولة الاحتلال الصهيوني بناءها في قطاع غزة، ما يضاعف من حجم التحديات المطلوب من الاحتلال تجاوزها، لإنجاح أي من الأطروحات التي قيّدها نتنياهو برؤيته الساعية إلى تصفية كل أشكال الكينونة الفلسطينية.
رهان الاحتلال على اختراق الحاجز النفسي بنماذج مصغّرة في المعابر أو المستشفيات أو الحاجة الإنسانية الملحّة، رهان يتغافل قدرة المقاومة على إجهاض كل هذه الخطوات، في الوقت الذي تقدّر فيه أنها باتت تشكّل خطرًا ملحًّا يسمح بتمرير مخططات الاحتلال، فطالما استمرَّ تماسك البنى المنظمة للفصائل، فإن هذا الرهان لن يجد أي أفق فعلي.
بيئة قطاع غزة، وقدرة المقاومة على تجاوز الهجمات الإسرائيلية الكبرى، وإعادة تنظيم وترتيب الصفوف، وتجاوز أثر الضربات بسرعة قياسية، إضافة إلى حجم عمق الحضور الفصائلي في القطاع، والرأي العام الشعبي الرافض لتمرير أية صيغة تعامل مع الاحتلال، متجاوزًا كل الرهانات من الاحتلال على تأليب المجتمع على المقاومة أو خلق هوّة، أو الرهان على الخلافات الفلسطينية في مستنقع يمكن أن تنمو فيه أطروحات البدائل المحلية، كلها كوابح تجعل الحديث عن “اليوم التالي” بمعزل عن الإرادة الفلسطينية والتوافق الوطني الفلسطيني دورانًا في حلقات مفرغة، دون أية إمكانية للوصول إلى نتائج.