زلات المسؤولين، ليست بالأمر الهين الذي قد يتخيله البعض؛ قد تكون مدمرة أحيانا، وربما تنهي المستقبل السياسي لهذا أو ذاك، أو على أقل تقدير، تساهم في تفكيك تحالفاته، وشعبيته، وترسله إلى الجانب الأخر من النهر، وفي الأرشيف العربي والعالمي، العديد من المواقف والزلات التي لاحصر لها، بعض أصحابها سارع واعتذر، والبعض الآخر طوعها في قالب فكاهي، فيما اهتدى خيال البعض إلى قولبة الحقائق، والتفنن في الاحتيال على معنى اللفظ، وكأن صاحبه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
السيسي والصواريخ البلاستيكية
بعيدا عن الجدل الذي لا طائل منه، حول لفظ “الصواريخ البلاستيكية”، وأصله اللغوي في المعاجم العربية والإنجليزية، لتحوير ما قاله الرئيس المصري في كلمته بالقمة العربية، كان مثيرًا المحاولات المستميتة من بعض الإعلاميين المصرييين، لإصباغ اليقينية على ما يقوله السيسي، واعتبار ما قاله صحيح لغويًا، وأرجعوا الضجة التي أثيرت على السوشيال ميديا، والسخرية من مسمى “الصواريخ البلاستيكية”، إلى الجهل وعدم فهم حقيقة المصطلحات العسكرية، وهو أمر اشتركت فيه بعض المواقع العربية، المناصرة للرئيس المصري.
الرئيس السيسي يستنكر قيام مجموعات يمنية بإطلاق “الصواريخ البلاستيكية” على السعودية
كانت المذيعة أماني الخياط، وكالعادة صاحبة نصيب الأسد من تحوير اللفظ، فسرت التعليقات حول ما قاله الرئيس على أنه جدل بيزنطي؛ وعبر تركيباتها اللغوية وتحليلاتها الفريدة دائما للأحداث، أرجعت الأزمة إلى النخبة المصرية، التي تترك مثل هذه المعارك، المعروف هدفها؛ “تحريف اللغة” والتشويش على حضور الدولة المصرية، دون تدخل للوقوف في ظهر البلاد، ولا سيما أن أغلب المتفاعلين على وسائل التواصل، تركوا كل ما قاله السيسي في خطابه بالقمة، ولم يركزوا إلا على مصطلح “الصواريخ البلاستيكية”.
أماني الخياط: مصطلح “الصواريخ البلاستيكية” هو صحيح علمياً
المثير أن الرئيس نفسه، وحسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، كان أكثر منطقية وعقلانية واحترامًا لعقول متابعيه، ونشر كلمته مكتوبة، ولم تتضمن وصفه للصواريخ، الناتج عن الارتجال، والجهد الواضح في إخراج لفظ منضبط عن الأوضاع في اليمن، بما يتماشى مع الرؤية المصرية، التي لا تزال تحاول البعد عن الانزلاق في المستنقع اليمني، دون خسارة الحليف السعودي، ونشر حساب السيسي كلمته نصا وقال فيها: “إن مصر لن تقبل قيام عناصر يمنية بقصف الأراضي السعودية بالصواريخ الباليستية باعتباره مساساً بالأمن القومي العربي”.
نص كلمة السيسي على فيس بوك وحديثه عن الصوايخ «البالستية»
محمد مرسي والحارة المزنوقة
على نفس المقاسات الحالية، واستغلال البعض ارتجالات الرئيس السيسي للنيل منه، بسبب الصراع الدائر في مصر، كانت تسير الأحداث خلال فترة تولي الرئيس المعزول محمد مرسي حكم مصر، والذي اشتهر أيضا بأخطاء خطاباته الارتجالية والإصرار عليها، رغم استغلالها من البعض للنيل من هيبته، وتطعيم بها البرامج الساخرة، التي كونت شهرتها من هفوات الرئيس، وأبرزها برنامج البرنامج للإعلامي الساخر باسم يوسف.
مرسي: هناك ثلاث أربع صوابع يثيرون الفتنة
كان الارتجال في حديث الرئيس مرسي، خطأ لا يغتفر، في ظل عدم إجادته هذا النوع من الحديث المباشر، الذي يحتاج إلى خيال سياسي، وموهبة، وخبرة كبيرة، وذهن متقد طوال الوقت، والطريف أن حملات التبرير المتبعة حاليا مع السيسي في هفواته الارتجالية، كان الإخوان والإسلاميين يستخدمونها وبطريقة أشد شراسة، في التبرير مرسي، وكانت كل كلمة تثير جدلا، يعتبرونها علامة على العبقرية، والعمق في الرؤية، بدلا من تقديم نقد يليق بالحدث، بما كان يساهم في الاحتقان والاستقطاب، الذي انتهى بعزل مرسي بعد عام واحد من توليه الحكم.
عبد الله بدر: هنخزَّق عين الرافضين لمرسي أولهم النصارى
بن موسى .. الحمار أفضل من الحوار الوطني
قبل حوالي خمسة أعوام، وقع رئيس الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان في تونس، عبد الستار بن موسى، في زلة لسان، ولم تكن بالأمر الهين، لو لم تكن الاجواء السياسية مثالية، والمناخ يسمح بتقبل الأخر، وقال بن موسى، خلال كلمته الافتتاحية لجلسات الحوار الوطني عام 2013: “تحملنا مسؤوليتنا ونظمنا حمارا وطنيا”، ورغم محاولة استدارك الأمر، واعتباره دعابه، إلا أنه تلعثم مرة أخرى، وأعاد الكلمة مرات عدة، لينخرط الجميع في ضحك يوازي إحساسهم بحقيقة الموقف، وأنه لا يحمل إهانة متعمدة، بينما استأنف بن موسى كلمته.
ومن تونس إلى لبنان، وقع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، في زلة لسان مشابهة، وخلال كلمة له أمام الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان، قال في إحدى الفعاليات الاحتفالية: «نختم اليوم برعاية رئيس البلاد العماد ميشال عون الجرح الأخير»، قبل أن ينتبه سريعًا، ويلحق الخطأ ويعالجه بدعابة، نالت استحسان الجميع، وضج الحضور في القاعة بالضحك، وفي القلب منهم الرئيس ميشال سليمان نفسه.
المثير أن خطأ جنبلاط صار حقيقة، وتولى ميشال عون رئاسة لبنان، بترشيح من الفرقاء السياسيين، بعد عام ونصف العام من شغور المنصب، بسبب فشل جلسات متتالية للبرلمان في اختيار رئيس جديد للبلاد، وبقيت زلة جنبلاط، والتعامل معها ببساطة ودون تكلف علامة في كيفية الخروج من هذه المواقف المحرجة برشاقة، تزيل أثر الزلة نفسها، ويرجع ذلك للتاريخ السياسي الطويل لجنبلاط، وتفهمه لكيفية الخروج من المعارك، بأقل تكلفة ممكنة.
في احتفال بريح .. جنبلاط يرحّب بالرئيس عون، بدلا من سليمان
دونالد ريغان.. الكلمة تساوي «حرب نووية»
ومن العرب إلى رؤساء الدول العظمى، والشعوب التي تحاسب مسؤوليها «حساب الملكين»، على كل لفظ يخرج دون انضباط، يساوي قيمة الدولة، خصوصا لو كانت هذه الكلمة كالتي خرجت من الرئيس الأمريكي، دونالد ريغان، الذي كاد أن يشعل حربا نووية، بين بلاده وروسيا، على خلفية مزاح نطق به خلال تسجيله خطابه الإذاعي إبان الحرب الباردة عام 1984، إثر طلب مهندس الصوت إجراء اختبارا قبل الخروج على الهواء: فقال ساخرا دون أن يدري أن التسجيل قد بد، “يسعدني إعلامكم أنني وقعت قرارا بمحو الإتحاد السوفيتي إلى الأبد، وسنبدأ بإطلاق النار خلال 5 دقائق”.
كان العبارة كارثية بكل المقاييس، وكاد أن يحول الحرب الباردة إلى حرب نووية، وررغم أن الأزمة تقنية في الأساس، ومسؤول عنها مهندس الصوت، ولكنها تبرز كيف تمثل كل كلمة تخرج من فم الرؤساء أهمية كبرى، حتى لو جرى الاعتذار عنها، أو تدجينها في سياق مخالف، لإصباغ حالة من الصدقية عليها.
ومن ريجان إلى جورج بوش الإبن، ملك الزلات في كل العصور؛ فالرجل كان يخطأ كما يتنفس، ورصدت له البرامج العشرات من الأحاديث غير المرتبة، والمتضاربة سياسيا، بل والمعادية لأمريكا نفسها، وكل ذك ناتج عن الارتجال في الحديث، وهي مهارة أعلى بكثر من قدرات الرئيس القادم من خلفية عسكرية، تجيد لغة القوة والتهديد والبطش، أكثر من سلاسة ورشاقة الألفاظ والكلمات، وهي اللغة المطلوبة للارتجال في خطاب سياسي لرئيس أقوى دولة في العالم.
كيف يتصرف “جورج بوش” عندما يرتكب حماقة أمام الكاميرات؟
كان لسانه يفضح ما يريد التكتم عليه، باندفاع وعداونية لا مثيل لها، ولكن شيئا وحيدا كان يمتلكه الرئيس للتغطية على مثل هذ الهفوات «الحس الكوميدي وخفة الدم»؛ فالظل الخفيف استطاع بوش تطويعه لصالحه، في كل موقف يستشعر أنه زاد الطين بله، فيتعامل مع أخطائه كالطفل، وهذه السمة كانت تجعل الأمريكيين يصفحون عنه، خصوصا مع اعترافه بالخطأ في كل مرة، وكانت لغة جسدة تؤكد أنه يعتذر من أعماقه، ويميل إلى الاعتراف عن صدق بأخطائه، ولا يؤلها أو يقولبها، فمثل أمريكا لا يوجد فيها أنصار يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا هم في حاجة إلى ذلك.