في تحفته الخالدة يطوي لنا تشارلز ديكنز كلا من الزمان والمكان وينقلنا لأحداث الثورة الفرنسية، التي مهدت لقيام الجمهورية التي نراها اليوم .الرواية التي بدأ الأديب الشهير كتابتها بعد مرور ربما قرن على الأحداث المذكورة، وبقلم إنجليزي لا فرنسي، تعد واحدة من أفضل ما خلفه ديكنز للتراث الأدبي والإنساني العالمي .
لندن وباريس هما المدينتان المعنيتان بالحكاية، والظروف في كلا منهما مشابهة لحد كبير، لندن لا ترحم أحد والإعدام عقوبة موحدة لكل جرائمها، بينما باريس البلد التي تمكن فيها الارستقراطيين من زمام الأمور كافة وتحكموا بمصائر البسطاء وأحلامهم .
“كان أحسن الأزمان وأسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وعصر الحماقة، كان عصر اليقين والإيمان، وكان عصر الحيرة والشكوك، كان زمن النور وزمن الظلمة، كان ربيع الأمل وشتاء القنوط..”
“بين أيدينا كل شيء وليس في أيدينا أي شيء، وسبيلنا جميعًا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعًا إلى قرار الجحيم، تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقافتها بأن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات..”.
تقع الرواية في ثلاث أجزاء، العائد إلى الحياة، الخيط الذهبي، آثار عاصفة، تلخص فيها الحب والتضحية والشقاء والظلم والثورة وما قد يترتب عليها من فعل وحشي كلها مدمجة في سياق واحد يمكنك من أن تحيا الأحدث دون إغفال أيا منها .
أبطالها الكثر أبرزهم الشاب تشارلز دارني، أحد الأرستقراطيين الفرنسيين، الذي يقع ضحية للثورة العمياء التي لم تميز بين الخير والشر برغم شخصيته الطيبة، وسيدني كارتون، المحامي الانجليزي السكير، الذي يضحي بحياته لأجل حبه لزوجة دارني، لوسي مانيت.
في لندن عام 1755 تعيش الفتاه لوسي التي فقدت والدتها واختفى والدها في باريس، لتعيش في إنجلترا حيث كان يحنفظ والدها بثروته وتعتاش منها، بعد مرور 18 عامًا تلتقي لوسي بوالدها الطبيب الذي كانت تظنه مات، وتعلم أنه كان مسجونا في الباستيل طوال تلك الفترة .
هنا يصور ديكنز شخصية الأب الذي أنهكته سنوات السجن الطويلة، حيث كان يعمل صانع أحذية خلال تلك الفترة، وهو يخرج أدواته ويعود إلى تلك المهنة، كأنه ينسى واقعه الجديد، فكل من يسأله عن اسمه يول لهم “زنزانة 105 البرج الشمالي صانع الأحذية” ويظل هكذا حتى يتأقلم من جديد .
يلتقيان بعدها بالشاب تشارلز دارني المتهم في قضية متعلقة بالخيانة، ويتم تبرأته على يد المحامي سيدني كارتون –شديد الشبه به– ليبوح سيدني للوسي بحبه لها وأنه على استعداد في المستقبل أن يفعل أي شيء ليثبت لها هذا الحب .
هناك أيضا السيد جارفيس لوري والذي كان صديقا للدكتور مانيت وعمل بنفس البنك المودع فيه ثروته، وكان وصيًا على الطفلة لوسي وتولى العناية بتربيتها وتعليمها بمساعدة السيدة الانجليزية مسز بروس لتقوم برعاية الطفلة أيضًا والتي اعتبرت الفتاة كابنتها وأولتها اهتمامًا كبيرًا لحين أصبحت لوسي شابة جميلة .
يفاجئون ثلاثتهم بإطلاق سراح الدكتور مانيت وأنه في رعاية شخص في باريس يدعى “ديفارج“، السيد والسيدة “ديفارج ” يمتلكان حانة على ناصية أحد شوارع باريس ، وهما اللذان عهدا برعاية السيد مانيت لحين وصول ابنته والسيد جارفيس، لم يكن أحد يعلم أنهما يتزعمان مجموعة من الثائرين الحاقدين على طبقة النبلاء التي عاثت فسادًا كبيرًا .
انكسر برميل مملؤ بالنبيذ الأحمر في أحد شوارع حي “سانت انطوان”، الذي يعتبر من أفقر أحياء مدينة باريس وأكثرها بؤساً، وعلى الفور ترك جميع الناس أعمالهم، وأسرعوا إلى حيث تحطم البرميل، وأخذوا يحاولون شرب قطرات النبيذ قبل أن تبتلعها الأرض، وخلع بعضهم ثيابه، وأخذ يغمسها في النبيذ المسكوب، ثم يعصرها في فمه.
الحادث والثورة
الماركيز إيفرموند واحد من نبلاء باريس كان يستقل عربته بسرعة كبيرة في الازقة الضيقة غير مبال بالنساء والأطفال من الطبقة المنهكة، دهس بعجلاته طفلاً صغيرًا، فتوقف هنيهة وفتح كيس نقوده ليلقي لوالد الطفل عملة ذهبية، يراها كافية كدية لهذا الطفل . تسلق والد الطفل المقتول عربة الماركيز وتبعه داخل بيته ليقتله بعد العشاء مباشرة بخنجر في قلبه، تاركا رسالة: “هكذا انتقم جاكوس .. أرسلوه سريعاً إلى قبره .”
في خضم تلك الأحداث يضطر تشارلز للسفر لباريس ، فيتم القبض عليه من قبل الثوار بصفته من النبلاء المهاجرين
كان الماركيز على موعد مع ابن أخيه تشارلز، الذي هو نفسه تشارلز دارني لكن غير اسمه وتبرأ من عائلته الثرية وترك أمواله وأملاكه ليدرس اللغة الفرنسية في لندن بعد ما وجده من غطرسه تمتعت بها عائلته على البؤساء من أهالي باريس .
بعد قتل الماركيز عاد تشارليز للندن وتزوج من لوسي وعاشا وأنجبا فتاة صغيرة، لكن هدوء عائلة تشارلز قابله عاصفة في باريس أشعلتها ثورة الفقراء الذين انقلبوا على سادتهم –خصوصا بعد علمهم بأن والد الطفل القتيل قد تم إعدامه، واقتحموا سجن الباستيل سيء السمعه وحرروا سجناءه واعتدوا على حراسه ومن ثم قتلوا قائده، وتشكلت المحاكم الثورية وتصبت المقصلة وتوالت الإعدامات على كل النبلاء ممن عاشوا في القصور ومن بينهم قصر الماركيز الذي هوجم بعنف وأُحرق ضمن الأحداث .
لسبب ما في خضم تلك الأحداث يضطر تشارلز للسفر لباريس، فيتم القبض عليه من قبل الثوار بصفته من النبلاء المهاجرين ويودع السجن لحين تنفيذ الإعدام فيه، سافر الدكتور مانيت لباريس من أجل الحديث مع الثوار بصفته سجينا سابقا في الباستيل، ويوضح لهم الأمر بشأن زوج ابنته، ليتم الإفراج عنه، لكن في ذات الليلة يلقى القبض عليه مرة ثانية وكانت تهمته هذه المرة أنه عدو للجمهورية الفرنسية ومن طبقة النبلاء وفرد من عائلة ايفرموند التي مارست أعمال الظلم ضد الشعب الفرنسي .
أثناء المحاكمة ظهرت الكثير من الحقائق عن الفظائع التي ارتكبتها أسرة إيفرموند في حق الناس، بل وكان الدكتور مانيت نفسه أحد ضحاياها حيث تسبب بعض أفراد هذه الأسرة في ادخاله إلى سجن الباستيل بتهمة ظالمة ملفقه وبعد تحقيقات واستجوابات مرهقة صدر حكم المحكمة بإعدام تشارلس ايفرموند أو تشارلز “دارني” بالمقصلة في ظرف أربع وعشرين ساعة وخلال تلك المدة حدثت مجموعة من الأحداث الغريبة التي غيرت مجرى القصة تماماً.
تمكن السيد كارتون من التسلل إلى الزنزانة التي سجن بها تشارلز دارني وبدل ملابسه معه بعد أن قرر أن يضحى بحياته من أجل لوسي كما وعدها سابقا وينقذ زوجها .
تشارلز ديكنز هو واحد من أبرز كتاب الأدب الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ، ورائد من رواد الأدب الإنجليزي
تمكن تشارلس دارني وزوجته لوسي مانيت وابنته الصغيرة ومعهم الدكتور مانيت ومستر لوري من الهرب إلى إنجلترا، ولحقت بهم أيضاً مس بروس بعد أن وقعت بينها وبين مدام ديفارج معركة انتهت بمقتل المرأة التي تسببت في الإطاحة بمئات من الرؤوس تحت نصل المقصلة، وكان نتيجتها أيضا أن فقدت مس بروس سمعها بفعل طلقة من المسدس الذي كانت تحمله مدام ديفارج فقد كانت الطلقة قريبة جداً من أذنها .
تمتعت الرواية لوصف مفصل لتلك المرحلة بالإضافة لتناقض شخصياتها وآلامها والقصى الرومانسية في صلب الرواية لا تمنعك أباد من تتبع الثورة ومجرياتها ومراقبتها عن كثب .
قصة مدينتين
تعد من أكثر الكتب الانجليزية طباعة ومبيعا ، بيع منها حوالي 200 ملين نسخة حول العالم، وهي الرواية الأكثر تدريسا في مدارس الولايات المتحدة ودول أخرى في العالم ، كتبها ديكنز في العام 1859 ، وظلت تطبع إلى الآن بلا توقف وتحولت لحوالي 13 عملاً سنيمائيًا .
تشارلز ديكنز
تشارلز ديكنز هو واحد من أبرز كتاب الأدب الكلاسيكي في القرن التاسع عشر، ورائد من رواد الأدب الإنجليزي لما تركه من إرث ضخم تمثل في روايات وقصص قصيره ومسرحيات وغيرها.
ولد في أسرة بها ثمانية أطفال كان هو الثاني بينهما، حاول أبويه جاهدين رفع المستوى المعيشي للأسرة ، لكن متطلبات الحياة كانت أكبر من أن يستطيعوا مجاراتها ، في العام1822انتقلت العائلة لأحد أحياء لندن الفقيرة، وكاانت أوضاع الأسرة تنحدر للاسوأ إلى أن أودع والده السجن بسبب الديون اضطر لعدها تشارلز لترك المدرسة في عمر الـ12 عاما ليعمل بعدها من أجل المساعدة في إعالة اسرته .
في عام 2013 تم انتاج فيلم “امرأة في الظل” الذي يروي قصة الحب الخفية بين تشارلز ونيلي تيرنان
كان لهذه الظروف كبير الأثر في نفس تشارلز جعلته يشعر بالخيانة من قبل الكبار الذين من المفترض أن يعتنوا به، وظهرت تلك المشاعر جليا في كتاباته بعد ذلك .بدأ ديكنز في العمل مستقلا في محاكم لندن ثم بعدها بدأ في كتابة تقارير لبعض الصحف وفي العام 1833 بدأ يكتب قصصا قصيرة للصحف تحت اسم مستعار هو “بوز .تزوج ديكنز من كاثرين هوجارت وأنجب 10 أطفال ، لكنهما انفصلا في العام 1858.
أول رواية نشرها ديكنز كانت “أوليفر تويست” الطفل اليتيم الذي عانى من قسوة العالم ، وقد أخرج ديكنز الكثير من مشاعره وذكريات طفولته المتراكمة في هذه الرواية التي لاقت اعجابا كبيرا في كل من إنجلترا والولايات المتحدة .
كتب بعدها حياة ومغامرات نيكولاس نيكلبي ومتجر الفضول القديم و أنتج بعض المسرحيات الشعرية “ملاحظة أمريكية وحياة سيدنا” وقصص قصيرة اجمالي كتابته 76 عملا ، عانى من فقدان ابنته و والده مما جعله بتجه للسمت الكئيب في رواياته ويكتب عن الوجه المظلم للعالم ، إلى أن التقى بالفتاه “نيللي تيرنر” التي عملت ممثلة بإحدى مسرحياته كان عمرها آنذاك 18 عاما لتنشأ بينهما علاقة حب سرية تجمعهما وتحول ديكنز عن طور الكآبة وكتب روايته “قصة مدينيتن”
في العام 1870 أصيب بسكتة دماغيةو توفي في عمر 58 عاما ودفن في كنيسة ويستميستر ، بعد أن قضى شق كبير من حياته يدعو لضرورة الإصلاح الاجتماعي ودعم المؤسسات الخدمية الاجتماعية والصحية التي تدعم الفقراء .وفي عام 2013 تم انتاج فيلم امرأة في الظل الذي يروي قصى الحب الخفية بين تشارلز و ونيلي تيرنان .