اهتم علماء النفس والفلاسفة منذ فترة طويلة بنظرية ما وراء المعرفة، أي قدرة الفرد على إمعان النظر في أفكاره وسلوكياته وقراراته وتقييمهما. لذلك كان موضوع “اتخاذ القرارات” و”التردد” حاضرًا بشكلٍ أساسيّ دومًا في النقاش الفلسفيّ والسيكولوجي، جنبًا إلى جنب مع ما يرافقه من نظريات حول معرفة الذات وحريتها الفردية وقلقها الوجوديّ وميلها للتأجيل، وما إلى ذلك.
وبما أنّ اللايقين هي سمة أساسية من سمات الحياة، بدءًا من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيدًا، فيرى الفلاسفة أنّ الإنسان سيبقى دومًا غارقًا في عذاب الاختيار، فهو يواجه ما يطلقون عليه مصطلح “القلق الوجوديّ”، أي قلقه من أيّ اختيار قد يختاره على حسابِ الآخر، خوفًا من مآلاته ونتائجه التي يحيطها اللايقين والمجهولية من جميع الجهات.
يعمل التردد بمثابة مكابح مؤقتة تساعد في تمديد وقت اتخاذ القرار للسماح لمزيد من الأدلة والمعلومات بالتراكم، ما يعني اتخاذ قرارات أفضل.
وبعيدًا عن الفلسفة، فيرى علم الأعصاب أنّ العديد من أجزاء الدماغ ترتبط ارتباطًا مباشرًا بقدرته على اتخاذ القرارات العقلانية، دون الوقوع في الشكّ والحيرة، أو الانحصار في دائرة التردد التي لا تنتهي، في نظامٍ إدراكيّ ومعرفيّ يقوم الدماغ من خلاله بتحديد المعلومات والأفكار ورسم خرائط معينة للتفكير تصبح فيما بعد مرجعًا للأحداث المكررة أو اليومية. وتلعب التفاعلات بين تلك الأجزاء أدوارًا محددة عندما يحتاج الشخص أن يقرر بين عدة خيارات متاحة أمامه للقيام بأحد السلوكيات الموجهة نحو نحو هدفٍ معيّن.
يرى علم النفس أنّ التردد في اتخاذ بعض القرارات هو أمرٌ طبيعيّ، لا سيّما في حال واجهتنا الخيارات الصعبة، إذ يحدث هنا إبطاءٌ في عمل الروابط الواقعة بين القشرة الدماغية ومنطقة الدماغ المعروفة باسم النواة تحت المظلية، والتي تلعب دورًا في عملية اتخاذ القرارات بشكلٍ عام. والبطء في السرعة ذاك يعمل بمثابة مكابح مؤقتة تساعد في تمديد وقت اتخاذ القرار للسماح لمزيد من الأدلة والمعلومات بالتراكم، ما يعني اتخاذ قرارات أفضل.
التردد هو سمة حتمية للآليات العصبية التي تدعم عملية اتخاذ القرار
وبالتالي نستطيع القول أنّ التردد والإحساس المؤلم الناتج عن الصراع بين خيارين قد لا يكون بالضرورة أمرًا سيئًا؛ إنما هي طريقة الدماغ لإبطاء الأمور واتخاذ القرار بشكلٍ أفضل والحدّ من العواقب السلبية التي قد تنشأ على إثره وتتبعه، ما يؤكّد على أنّ التردد هو سمة حتمية للآليات العصبية التي تدعم عملية اتخاذ القرار. ومن هذه الزاوية، كيف يمكننا النظر إلى التردد المبالغ فيه والذي قد يكون مرضيًّا في كثير من الأحيان؟
التحليل النفسي: التردد كمشكلة متجذّرة في الطفولة
ترتكز فكرة التحليل النفسي على أنّ مشاكل حياتنا الحالية غالبًا ما تعود جذورها إلى مراحل حياتنا المبكّرة، لا سيّما الطفولة، حيث نبدأ بتطوير نمطٍ معيّن بالتعامل مع أمور حياتنا ثمّ نميل للتمسك به في وقتٍ لاحق، حتى في حال عدم وجودِ أيّ مبرر أو حاجة فعلية للإقدام على ذلك التصرف أو النمط، خاصة وأنه في كثيرٍ من الأحيان قد يجلب تكاليف باهظة.
في ضوء حديثنا عن التردد أو تأجيل اتخاذ القرارات؛ قد يسأل المحلل النفسيّ هنا سؤالًا غريبًا ولكنه في الوقت نفسه مفيدٌ للغاية قد يكشف الكثير، لماذا قد يجد الطفل نفسه أكثر ميلًا للتردد في اتخاذ قرارٍ ما أو لكبح نفسه عن استخدام ما يتوافر في دماغه الصغير من معلومات لإسقاطها بطريقة منسقة على ما هو فيه من وضع يحتاج للاختيار والقرار؟ وببساطة أكثر؛ لماذا قد يرغب الطفل بالتردد؟ وتبعًا لذلك؛ لماذا تستمر النسخة البالغة من هذا الطفل بالتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار؟
يرى التحليل النفسيّ أنّ إدراكنا لديناميات الطفولة هو السبيل لتحرير أنفسنا من مشاكل الماضي والتخلص من الاستراتيجيات الدفاعية التي طورناها فيما يتعلق بالتهديدات التي لم تعد موجودة
قد يكون الجواب أنّ ذلك الطفل دائمَ الشعور بالخطر وعدم الأمان المرتبطين باختياراته وقدرته على اتخاذ القرار. وبناء عليه نستطيع أنْ نضع هنا احتمالاتٍ عديدة؛ سلطوية الوالديْن، سخرية الأخوة الأكبر سنًّا، شعور الوالديْن بالخوف والذعر حيال أيّ تصرف أو قرار قد يقوم به الطفل ويكون مصحوبًا بالفشل، فيبدآن باتخاذ قراراته بنفسيهما دون أيّ اعتبار لرغبات الطفل.
الاحتمالات السابقة جميعها قد تؤدي بطريقةٍ أو بأخرى إلى تخريب قدرة الطفل على الثقة بقدراته الخاصة وإمكانيته على الاختيار واتخاذ القرار، الأمر الذي يؤدي إلى شعوره بالتهديد في حال أقدم على أيّ خطوةٍ من هذا النوع، ويتطوّر الشعور مع الوقت حتى يصبح جزءًا من شخصيته وأسلوب حياته.
ومن هذه النقطة، يرى التحليل النفسيّ أنّ إدراكنا لديناميات الطفولة هو السبيل لتحرير أنفسنا من مشاكل الماضي والتخلص من الاستراتيجيات الدفاعية التي طورناها فيما يتعلق بالتهديدات التي لم تعد موجودة، وبالتالي يمكننا التجرؤ أكثر، هنا، على اتخاذ قراراتنا بسهولة، دون ترددٍ أو خوفٍ من أنْ يقوم شخصٌ أو شيءٌ ما بتهديد خياراتنا والسخرية منها.
أبولومانيا: شلل الإرادة والقدرة على اتخاذ القرار
على صعيدٍ آخر، قد يتحوّل الأمر إلى معضلة مرضية يُطلق عليها في عالم الطب النفسيّ بمصطلح “أبولومانيا” أو “شلل الإرادة”، وهو اضطرابٌ عقليّ يُظهر فيه الفرد عدم القدرة على اتخاذ القرار بشكلٍ مرضيّ واضح، بدءًا من أبسط خياراته في الحياة إلى أكثرها تعقيدًا وصعوبةً، ما يؤدي إلى تعرّضه لمشاكل نفسية هائلة ترتبط بالقلق والتوتر والاكتئاب الناتج عن وسواسه القهريّ بدقة وصحّة قراراته والألم النفسي الناتج عن ذلك، كما يمكن أن تؤثر تلك المشاكل بشدة على قدرة الفرد على الأداء الاجتماعيّ والمهنيّ بشكلٍ طبيعيّ.
أبولومانيا هو اضطرابٌ عقليّ يُظهر فيه الفرد عدم القدرة على اتخاذ القرار بشكلٍ مرضيّ واضح، بدءًا من أبسط خياراته في الحياة إلى أكثرها تعقيدًا وصعوبةً
فعلى الرغم من أن العديد من الأفراد يعانون من التردد ويحتاجون بعضًا من الوقت لاتخاذ قرارٍ ما، إلا أنه نادرًا ما يصل إلى درجة الهوس، أما المصابون بمتلازمة الأبولومانيا “ Aboulomania” فيرجع عجزهم الدائم في اتخاذ القرارات إلى حاجتهم للتأكد كليًّا وبشكلٍ تامٍ ودقيق من قرارهم قبل اتخاذه، وبالتالي فمن الممكن أن يصبحوا مشلولين من ناحية قدرتهم على إشباع إرادتهم بشكل حرّ ومريح عند وجود التعددية في الخيارات.
تخيّل مثلًا أنْ تسأل المريض به إنْ كان يشرب الشاي بسكّر أو بدونه. فأنتَ حين ترى هذا السؤال البسيط الذي قد يحتمل خياريْن فقط لا غير، إمّا نعم أو لا، فإنّ ذلك الفرد سيدخل في نوبةٍ من شلل التفكير ناتجة عن فرط حاجتهم لتحليل كلا الخياريْن وكأنهما حالات حرجة تستدعي التفكير العميق والمطوّل.