تعتبر الأعمال الأدبية انعكاسًا حقيقيًا للقيم والمبادئ التي تؤمن بها المجتمعات، ومن التاريخ الأدبي للشعر الإسلامي يمكن التعرف على صورة المرأة ومكانتها في هذا العصر الذي غير من صورتها العامة وأضاف إليها تصوراته المحافظة، وابتعد عن المبالغة ووازن بين العقل والعاطفة في غالبية منتجاته الشعرية احترامًا لتعليمات الشريعة الإسلامية وتماشيًا مع دور المرأة في المجتمع الإسلامي.
وبحسب كتاب “الإسلام والشعر” للباحث العراقي سامي مكي العاني، فإن أبرز الأغراض الشعرية التي ابتعد عنها الشعراء المسلمون في كتاباتهم هي الغزل المتهتك والخمريات والهجاء الفاحش، وعند الحديث عن المرأة التزم الشعراء بـ”الشعر العذري” الذي هذب مشاعر اتباعه وصقل أحاسيسهم ونزه ألسنتهم عن فحش القول، حيث ظهر هذا النوع من الشعر في العصر الأموي في بلاد الحجاز والنجد التي تفنن شعرائها في التعبير عن تجاربهم العاطفية في إطار الألفاظ والخيالات المحافظة على عباءة العفة والبراءة.
الشكوى من حب المرأة إلى الله
لم تفصل التعاليم الإسلامية الشعراء عن ميولهم العاطفية وحقهم في التعبير والكتابة عن مشاعرهم تجاه المرأة، ولكنها في نفس الوقت، أمرتهم بالالتزام بالألفاظ والأوصاف، لذلك ظهرت الروح الدينية في معظم كتاباتهم وهذه بعض الأمثلة التي تجلت فيها المرأة على صورة الحبيبة.
كتب قيس بن ذريح قصيدة يشكو فيها إلى الله فراقه حبيبته وهجرانها له، ويدعوها فيها إلى تقوى الله في معاملته فكانت أبيات شعره كالتالي:
إلى الله أشكو لا إلى الناس حبها … ولا بد من شكوى حبيب يروع
ألا تتقين الله فيمن قتلته؟ … فأمسى إليكم خاشعًا يتضرع
فيارب حببني إليها وأعطني ال … مودة منها، أنت تعطي وتمنع
وفي غزل ابن الطثرية، حيث يقول:
وإني لداعي الله في ساعة الضحى … عليك وداع جنح كل أصيل
ومحتضن ركن اليماني ومشتك … إلى الجانب الغربي صعد عويلي
واتضحت في الأبيات تأثر الشعراء بشعائر الإسلام وشروطها وخوفهم من العقاب الديني وحرصهم على احترام الحدود الشرعية، من خلال استخدامهم لكلمات الصلاة والجنة والنار وتكرارها في أشعارهم، مثل قول جميل:
أصلي فأبكي في الصلاة لذكرها … لي الويل لما يكتب لي الملكان
أو قوله:
لا والذي تسجد له الجباه … مالي بما دون ثوبها خبر
وتتضح أفكارهم عن إيمانهم بما قدره الله لهم، عند قول قيس بن الملوح:
خليلي لا والله لا أملك الذي … قضى الله في ليلى وما قضى ليا
قضاها لغيري، وابتلاني بحبها … فهلا غير بشيء غير ليلى ابتلانيا
هذه الأبيات رسمت المرأة في صورة المحبوبة، دون التطرف في وصف مفاتنها وذكر خصالها أو الانشغال بها بشكل مفرط، وبهذه الخصائص الفنية للغزل الشعري عبر الشعر الإسلامي عن نظرته للمرأة في المسائل العاطفية التي تتطلب إبداء مشاعر العفة على اللذة، وهذا عكس ما انتشر عن المرأة في عصر الجاهلية من أوصاف دقيقة لمظهرها الخارجي من حيث القامة واللون والشعر والابتسامة والعيون، والتطرف في حبها والبكاء على أطلال ذكرياتها، ووصفها باللعوب وتصوير الكذب على أنه جزء من طبيعتها.
المرأة الأم والزوجة والابنة
كثيرًا ما ركز شعراء الإسلام على ذكر دور المرأة الأم والزوجة والابنة وربط وظيفتها بمشاعر الحنان والعطف وتشببيها بعصب الحياة، فأخذوا في وصف مشاعر الأمومة التي تحرص على الاهتمام بأطفالها، ومن اللافت للنظر، هو إصرار الشعراء على مناداة أو تسمية زوجاتهم وأمهاتهم -أحياناً حبيباتهم- بأم فلان، وذلك توافقًا للذوق العربي السائد بعدم ذكر اسم المرأة علنًا، كما يظهر في الأبيات التالية:
خليلي عوجا اليوم وانتظراني … فإن الهوى والهم أم أبان
كما كانوا يكثرون من وصف ومدح عفة وأخلاق أمهاتهم وأصلهم، مثل قول:
أورثته الحصان أم هشام … حسبا ثاقبا ووجها نضيرا
وتظهر بعض الأبيات النظرة الاجتماعية لعق الوالدين والذم بالأولاد الذين يتركون أمهاتهم دون رعاية، فقال بين يزيد بن مفرغ:
أقر بعيني أنه عق أمه … دعته فولاها استه وهو يهرب
وقال عليك الصبر كوني سبية … كما كنت أو موتي فذلك أقرب
أما المرأة الزوجة، فلقد حظيت على نصيب وافر من الأشعار التي تتغنى بأصلها ونسبها وأهميتها في تأسيس حياة هنيئة، وحتى في حال الفراق والخصام لم تتغير مكانتها، كما يظهر في أبيات أبا دهبل الجمحي:
وأشفق قلبي من فراق حليلة … لها نسب من فرع فهر متوج
فمن خلال هذه الأشعار، التصقت بالمرأة صفات عديدة كالوفاء والمحبة والشجاعة والحياة، وارتبط الهم في فراقها، فكانت أداة استلهام لمشاعر الحنين والحزن في الأشعار، كذلك لخص الشعراء بعض من خلافاتهم اليومية مع زوجاتهم بسبب أمور الرزق والمعيشة، وكيف كانت زوجاتهم تنصحهم بالاعتدال في الإنفاق وتساعده في التدبير، فكان أزواجهم يصفهن بالحكمة والتعقل، كما جاء في أبيات ابن هرمة:
أرقتني تلومني أم بكر … بعد هدء واللوم قد يؤذيني
حذرتني الزمان ثمت قالت … ليس هذا الزمان بالمأمون
أو أبيات حارثة بن بدر الغداني، حين قال:
وقائلة يا حار هل أنت ممسك … عليك من التبذير قلت لها اقصدي
ولا تأمرينني بالسداد فأنني … رأيت الكثير المال غير مخلد
وبالنسبة إلى الابنة، فاتسمت المرأة في هذا الشق من الأشعار بالفتاة الجريئة الناعمة، المليئة بالخيالات والمغامرات لكنها مع ذلك لا تستطيع الخروج عن إطار عائلتها، كما استغل الشعراء عاطفة الأبوة لديهم كدعاية في الترغيب في إنجاب الإناث، وهي العادة التي لم تكن مستحبة في عصر الجاهلية، لكن مع مجيء الإسلام تغيرت هذه الأعراف الاجتماعية وساعدت المرأة على إثبات نفسها، ومن إحدى هذه الأبيات التي روجت لمشاعر المحبة تجاه الابنة قصيدة مالك بن الريب التي صورت مشاعر الابنة نحو الأب وخوفها عليه من الأذى، وهي:
تقول ابنتي لما رأت وشك رحلتي … سفارك هذا تاركي لا اباليا
ولقد قلت لا بنتي وهي تبكي … بدخيل الهموم قلبًا كئيبًا
كما أظهرت الأبيات سلطة الأسرة على حياة الفتاة وقراراتها، ولا سيما تلك التي تخص الزواج من شخص ينتمي إلى بيئة مختلفة من الناحية الاجتماعية والمادية، وهذا يظهر في حجب ليلى عن قيس بأمر من السلطان بعد شكايته من قبل والديها، فيأمر السلطان بهدر دمه إن قام بزيارتها، فيقول قيس:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها … علي يمينا جاهدا ألا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبرهم … أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء سوى أنني أحبها … وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
راعت هذه الأبيات في تصويرها للطبيعة الاجتماعية التي عاشت فيها الفتاة في تلك الفترة، والتي كانت تقع تحت رقابة الوالدين والأقارب والعادات، وفي حال أرادت الفتاة مخالفة هذه التقاليد، فكانت تعتمد على صديقاتها لمراسلة الحبيب وتحذيره من غضب أهلها، مثل:
إني سمعت رجالا من ذوي رحمي … هم العدو بظهر الغيب قد نذروا
أن يقتلوك وقاك القتل قادره … والله جارك مما أجمع النفر
هذه بعض النماذج التي صورت المرأة ومكانتها في المجتمع الإسلامي، وسلطت الضوء على الخطاب الشعري تجاه المرأة والأبيات التي روجت لحقوقها وأخلاقها.