ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ بداية اعتصامات التضامن مع فلسطين في الجامعات الأمريكية في سنة 2024، كانت مطالب الطلاب متشابهة نسبيًا على صعيدين: سحب الاستثمارات من شركات تصنيع الأسلحة والمؤسسات الصهيونية، والكشف عن الأصول والاستثمارات المؤسسية. لكن المطالب الأقل تواترًا تشير إلى علاقات الجامعات بالصناعة العسكرية عن طريق تمويل البحوث الذي تقدّمه أطراف مثل وزارة الدفاع وشركات الأسلحة الخاصة، الذي يعقّد مسألة التواطؤ المؤسسات الأخلاقي مع الإبادة الجماعية وبالتالي يعقد أيضًا مفهوم سحب الاستثمارات.
إن العديد من الطلاب الباحثين في الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة يتورّطون في إضفاء الطابع المدني والتقني على الحرب بدءًا من أساس حياتهم المهنية، وهذا يعني أن المساعي الحالية لنزع السلاح وتحرير فلسطين ومكافحة الإمبريالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمل الطلابي.
مع ذلك، دون نموذج منهجي لفهم مدى اتساع نطاق البحوث المموّلة من الجيش في مجمل الجامعات الأمريكية، سنفقد فهمنا لمدى انتشارها بسهولة. ودعونا نستخدم نظام جامعة كاليفورنيا كدراسة حالة لأغراض التطبيق على نطاق أوسع. وفقًا للبيانات الواردة من موقع “استكشاف المنح” التابع لجامعة كاليفورنيا، تلقى نظام جامعة كاليفورنيا بأكمله تمويلًا مرتبطًا بالجيش بقيمة 400 مليون دولار في السنة المالية 2022-2023، و2.3 مليار دولار بين سنتي 2017 إلى 2022، و5.6 مليار دولار بين سنتي 2005 إلى 2022 من مختلف أذرع وزارة الدفاع والجهات الراعية الخاصة مثل لوكهيد مارتن وجنرال أتوميكس ورايثيون وبوينغ ووزارة الدفاع الإسرائيلية، من بين جهات أخرى لا حصر لها.
وفي الفترة من 2017 إلى 2022، حصلت جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، التي تشتهر عالميًا بأبحاثها العلمية، على 548 مليون دولار، بينما حصلت جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس على 309 مليون دولار، وجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا على 224 مليون دولار.
ووفقًا لموقع “استكشاف المنح”، فقد كان هناك 1428 منحة بحثية ممولة من الجيش في نفس الفترة، إذ حصلت جامعة كاليفورنيا في سان دييغو على 243 منحة، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس على 205 منحة،وجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا على 174 منحة، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي على 151 منحة، وجامعة لورانس بيركلي على 99 منحة، وهكذا.
ويرجع أحد التعزيزات الأخيرة للأبحاث والتصنيع المرتبطين بالدفاع في جامعة كاليفورنيا إلى “قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم” الصادر سنة 2022 الذي أجاز تخصيص 52.7 مليار دولار لأبحاث أشباه الموصلات وتصنيع الرقائق. وقد ساعد هذا التمويل في تشكيل المركز العملاق للإلكترونيات الدفاعية الجاهزة والأجهزة الدقيقة المعروف باسم “دريمز”، الذي يتألف من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وجامعة كاليفورنيا في إيرفين، وجامعة كاليفورنيا في ريفرسايد، وجامعة جنوب كاليفورنيا. وتعمل هذه الجهات معاً على تسريع عملية تطوير النماذج الأولية واعتماد تقنيات الحرب الكهرومغناطيسية، والتي يتم فيها توظيف أشباه الموصلات التي تستخدم الموجات الكهرومغناطيسية لردع ومهاجمة الأعداء.
لا يمثل هذا النوع من التمويل البحثي الفيدرالي والخاص الانتقال التاريخي من القوى البشرية إلى التكنولوجيا الفائقة في الحرب على مستوى الرقائق الدقيقة فحسب، بل أيضًا الانتقال من العمل مع العسكريين إلى المدنيين، الذين يمثلهم في هذه الحالة الطلاب الباحثون غير المنخرطين في أي أعمال قتال.
عسكرة الجامعة
من وجهة نظر تاريخية، يمكننا تتبع نمو البحوث التكنولوجية وعسكرة الجامعات إلى بدايات الحرب الباردة. في أوائل خمسينيات القرن العشرين، تصاعدت رغبة الولايات المتحدة في موازنة الرعب المرتبط بالمخزون النووي لروسيا السوفيتية والقمر الصناعي “سبوتنيك” من خلال تقليص القوى البشرية والأنظمة غير التكنولوجية مع زيادة النفقات العسكرية في البحث العلمي والابتكار التكنولوجي، وبالتاليالج خلق نظام دفاعي يتفوق على الخصم.
وتجسدت زيادة النفقات العسكرية في قانون الأمن المتبادل الذي أصدره ترومان سنة 1951، والذي أدى إلى زيادة بنسبة 20 بالمائة في عدد العلماء والمهندسين وزيادة بنسبة 135 بالمائة في البحث والتطوير في وزارة الدفاع من أجل التسليح في الحرب الكورية. وعلى مستوى الجامعات، تم إقرار قانون التعليم الدفاعي الوطني سنة 1958، الذي كان يهدف إلى “ضمان أمن الأمة من خلال تنمية الموارد العقلية والمهارات التقنية لشبابها وشاباتها إلى أقصى حد”. ونتج عن ذلك تخصيص 450 مليار دولار في الفترة من 1959 إلى 1964 للمؤسسات من خلال القروض والزمالات والإرشاد والتعليم.
أخفت هذه التحولات في طبيعة الحرب، ولا سيما توظيفها للقوى المدنية العاملة، الفساد الأخلاقي للمؤسسة الأكاديمية. وربما يفسر ذلك الآثار التي تنزع الشرعية عن مطالبات سحب الاستثمارات من الإبادة الجماعية في الوقت الراهن.
يقول جورج ويلنيوس في كتابه “التاجر المحارب المسالم” إنه “مع تزايد الدور المدني في الحرب إلى حد كبير، أصبح رسم خط دقيق بين العمليات العسكرية وغير العسكرية أكثر صعوبة”. وهذا يعني أن العلاقات المؤسسية مع إنتاج الحرب تبدو غير مؤكدة في حين أن الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج الحرب من شركات الأسلحة الخاصة مثل شركة لوكهيد مارتن أصبح أقل وضوحا على نحو متزايد من الاستعانة بمصادر خارجية للأبحاث من جامعة عامة.
قد يكون من السهل أيضًا إخفاء الفساد الأكاديمي عن طريق التمويل العسكري للتكنولوجيات الناشئة. وفي حين أن العديد من المشاريع البحثية تدعم بشكل واضح أنظمة المهام البحرية والجوية والبرية، فإن الغالبية العظمى كما هو موضّح في ملخصاتها، قد يبدو للوهلة الأولى أنه ليس لها ارتباط مباشر بإنتاج الأسلحة.
فعلى سبيل المثال، يهدف مشروع بعنوان “أنيون الأكسدة في كبريتيدات المعادن الانتقالية غير المتبلورة”، الذي حصل على تمويل بقيمة 2,400,000 دولار في سنة 2023 من قبل وزارة البحرية الأمريكية، إلى “المساعدة في توجيه تطوير مواد بطاريات ليثيوم أيون من الجيل التالي”. وبالنسبة للباحث الهندسي الذي تبدو أبحاثه غير مهددة بل ومفيدة للمجتمع، يعتبر تمويل وزارة الدفاع أمرًا لا غنى عنه نظرًا لاتساع نطاق الدعم الذي يقدمه.
مع ذلك، يمكن العثور على تواطئ أقل وضوحًا مع الإبادة الجماعية في عدد من عمليات التعاون البحثي لجامعة كاليفورنيا مع حلفاء الولايات المتحدة مثل “إسرائيل”. ووفقًا لموقع “استكشاف المنح”، حصلت مشاريع مثل “الردع بالوكلاء” من قسم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا سان دييغو على مبلغ 964.916 دولارًا في سنة 2016 من قبل وزارة البحرية الأمريكية. وينص ملخص المشروع على أنه يبحث في “علاقة إسرائيل مع حماس في قمع الإرهاب من غزة” وكذلك “العلاقات في مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد في أفغانستان والعراق والفلبين”.
ويتناول كتاب نُشر لاحقًا حول هذا البحث بعنوان “قمع العنف من خلال الوكلاء المحليين” طرق تحسين استراتيجيات السياسة الخارجية من أجل فرض “السيطرة غير المباشرة” من خلال الحلفاء بالوكالة. وتم التعاقد مباشرةً على مشاريع أخرى بعنوان “الكشف عن التعليمات البرمجية الضارة في الأجهزة المدمجة باستخدام التحليل الثابت والتعلم الآلي” و”نهج عملي للملاحة تحت الماء نحو توطين الأجسام تحت الماء” لتقديم الأبحاث إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية.
علاوة على ذلك، كانت الأبحاث الممولة من وزارة الدفاع تاريخيا بمثابة التمويل الأولي للتكنولوجيات الناشئة التي يتم استخدامها في نهاية المطاف للتطبيقات العسكرية حتى قبل أن يتدخل رأس المال الاستثماري.
وفي مقابلة مع مايسون ماكلاي، وهو طالب دراسات عليا في علم النفس بجامعة كاليفورنيا، قال: بطريقة ما يمكن للمرء أن يفكر في وكالات تمويل وزارة الدفاع باعتبارها شركة استثمار رأس المال الاستثماري العسكري. كدراسة حالة، لنأخذ شركة “أوربيتال إنسايت”، التي قامت، من خلال شراكة مع جامعة كاليفورنيا في بيركلي وبتمويل قدره مليار دولار تقريبًا، بتطوير الذكاء الجغرافي المكاني من أجل “تدريب نماذج الكشف عن الأشياء في الصور الكهروضوئية”، والتي وعدت بأنها ستكون مفيدة لمجتمع لاستخبارات الدفاعية.
كما دخلوا في شراكة مع شركة إسرائيلية ناشئة لمراقبة البنية التحتية. في المراحل الأولى التي اتبعتها شركة “أوربيتال إنسايت”، قدمت جامعة كاليفورنيا أبحاثًا مهمة ممولة من وزارة الدفاع، وبمجرد أن تطورت الشركة وبدأت في تطوير الأنظمة العسكرية، قفزت شركة رأس المال الاستثماري سيكويا كابيتال، التي استثمرت فيها جامعة كاليفورنيا أيضًا، لجمع رأس المال.
فشلت شركة “أوربيتال إنسايت” في النهاية كشركة ناشئة، وأصبحت حاليا جميع تقنياتها جزءًا من شركة تسمى “برافتير”، والتي يتمثل هدفها وفقًا لموقعها على الإنترنت، في “جعل بيانات الفضاء ورؤية الأرض أكثر قوةً ويمكن الوصول إليها من أي وقت مضى”.
ومن منظور السوق، فإن هذه التقلبات من الإنتاج العسكري إلى الإنتاج التجاري تسد الفجوة في الميل الطبيعي لصناعة الحرب نحو اقتصاد الازدهار أو الكساد. إن التمويل غير المخصص للأسلحة من وزارة الدفاع يبقي الأفراد العسكريين والباحثين الجامعيين على قيد الحياة، حيث سيكونون عاطلين عن العمل خلال فجوات التمويل في فترة ما بعد الحرب.
وفي تقرير صادر عن وكالة الحد من الأسلحة ونزع السلاح الأمريكية، ذكر جيفري فو الحاجة إلى المرونة الشخصية والمؤسسية من أجل “السماح للعلماء والمهندسين بالتحرك مع التحولات في الطلب – من الصواريخ على سبيل المثال إلى أجهزة التلفزيون أو القلوب الاصطناعية وهلم جرّ- بسرعة أكبر بكثير”. وهذا الوضع الفريد للطالب الباحث باعتباره منخرطًا في آليات السوق الخاصة التي تساهم في الحرب والسلام، يضع الشخص العادي في موقع قوة من خلال عمله.
في مقال سابق مشترك بعنوان “صناعة الحرب تستخرج العمالة الرخيصة من طلاب جامعة كاليفورنيا في سان دييغو”، أوضحت أنا ومايسون ماكلاي وآخرون كيف أن العمل البحثي في جامعة كاليفورنيا يمثّل بديلًا أرخص بكثير للموظفين المتفانين في وزارة الدفاع أو شركات الأسلحة.
وعلى الرغم من أن الإضراب الطلابي العمالي الرسمي يو أي دبليو 4811 الذي انتهى في حزيران/ يونيو الماضي، نأى بنفسه عن مطالب مخيمات التضامن الفلسطينية، إلا أن انسحاب العمال لا يزال قائمًا كأداة محتملة لسحب الاستثمارات. ويمكن أن يشمل ذلك تعديل متطلبات عقود النقابة للسماح للطلاب باختيار مصدر تمويلهم.
ويمكن أن يعمل اتحاد الطلاب على خفض التمويل المرتبط بالجيش بمرور الوقت أو وضع حد أقصى للمشاريع البحثية التي ترعاها وزارة الدفاع. ويجب ضمان التمويل الانتقالي للطلاب الباحثين الذين يختارون الانسحاب من المشاريع البحثية المرتبطة بإنتاج الأسلحة، أو وزارة الدفاع، أو مقاولي الدفاع من القطاع الخاص.
المصدر: موندويس