ترجمة وتحرير: نون بوست
يتخذ الخبير الاقتصادي الأمريكي، تايلر كوين، من التاريخ ونظرية الألعاب (أو المباراة) مرجعا له، لتشخيص الحالة السورية. ويعتبر كوين أن تعدد الجهات الفاعلة في سوريا، من إيران إلى روسيا، مرورا بتركيا، والتدخلات الإسرائيلية والغربية بدعم من المملكة العربية السعودية؛ عاملا جعل المجال الجغرافي السوري يبدو في غاية التعقيد ومن غير الممكن التنبؤ به أكثر مما يمكن اعتباره خطرا.
أتلنتيكو: في تدوينة نشرت على موقع بلومبرغ، استند الخبير الاقتصادي الأمريكي، تايلر كوين، إلى التاريخ ونظرية الألعاب للحديث عن الوضعية الحالية في سوريا. وحسب وجهة نظره، مثّل تعدد الجهات الفاعلة في سوريا، من إيران إلى روسيا، مرورا بتركيا، والتدخلات الإسرائيلية والغربية بدعم من المملكة العربية السعودية؛ عاملا ساهم في جعل المجال الجغرافي السوري يبدو في غاية التعقيد ومن غير الممكن التنبؤ به أكثر مما يمكن اعتباره خطرا. ويمكن أن يكون الوضع في سوريا مختلفا عن باقي الأزمات الدولية الكبرى، التي تعد بسيطة للغاية عند قراءتها. كما يمكن أن يكون الوضع الحالي مشابها لأحداث سنة 1914. فهل يمكن أن تكون هذه المقارنة مناسبة؟
فيليب فابري: من المؤكد أن تعدد الجهات الفاعلة عامل يعرقل عملية حل الخلافات عن طريق التفاوض والبحث عن حلول وسط أو عملية تسوية. ومن الواضح أن عملية البحث عن التوافق تكون أسهل بكثير عند وجود جهتين فاعلتين، على عكس توفر ثلاث أو أربع أو عشر جهات فاعلة في الصراع الواحد. وعموما، تملك كل جهة أو مجموعة متدخلة في الصراع مصالحها الخاصة، وهنا تصبح عملية السلام أمرا صعب المنال. وكلما تعددت الجهات داخل نفس المجموعة، اختلفت مصالحها.
في هذا الصدد، يمكن أن نعتبر روسيا وإيران مثالا، خاصة أنهما حليفتان لبشار الأسد. لكن، في الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى جعل سوريا بلدا يقوده العلويون ودولة تابعة لها ومنفذا إلى البحر الأبيض المتوسط، لا ترغب روسيا في الاعتماد كثيرا على إيران للحفاظ على أمن قواعدها في طرطوس وفي حميميم. ولهذا السبب، سمح بوتين لأردوغان بالسيطرة على جزء من شمال سوريا، كي تكون بمثابة الحَكم بين هاتين القوتين الإقليميتين. في المقابل، يفضل الأسد أن يظفر بسيادته الكاملة على البلاد مثل السابق، ويسيطر في نفس الوقت على كامل الأراضي السورية.
يضم معسكر المعارضين السوريين فصائل مختلفة، ينتمي جزء كبير منها إلى الإسلاميين
انطلاقا من هذا الموقف، يمكن اعتبار أن المقاربة أو التشبيه بين الوضع الحالي والأحداث التي سبقت سنة 1914 مناسبا. لكن، من الناحية التاريخية، يبدو لي أن المقاربة بين الوضع في سوريا والحرب الأهلية في إسبانيا (1936-1939) أكثر دقة، لأنه خلافا لحرب سنة 1914، كانت الحرب في إسبانيا، بشكل دائم، حربا بالوكالة ومنذرة بنشوب صراع، لكنها لم تكن سببا لحرب عالمية.
في الأثناء، يعد موقف القوى العالمية وطبيعة المتدخلين في الصراع مشابها للغاية للوضع في إسبانيا خلال سنوات الثلاثينيات. فمن جهة، نجد النظام التقليدي والاستبدادي، الذي كان يمثله فرانكو سابقا، والممثل من طرف الأسد في وقتنا الحالي. في السابق، تحالف هذا النظام مع القومية الانتقامية التي يمثلها هتلر (وموسيليني)، الذي رغب في منح ألمانيا دورا كبيرا على المستوى العالمي، وأراد اختبار أسلحته الجديدة. ولخدمة هذه الأهداف، قام حلفاء نظام فرانسيسكو فرانكو بإرسال جيش الكوندور إلى الأراضي الإسبانية. وفي الوقت الراهن، يمثل كل من بوتين وإيران “القومية الانتقامية”.
في المقابل، نجد عدوا لدودا للفاشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية، المتمثل في الشيوعية، الذي يمثله كل من الألوية الدولية، وهي عبارة عن متطوعين قادمين من جميع أنحاء العالم لدعم الجمهوريين الإسبان، والسوفيتيين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوجود السوفيتي على عين المكان كان بهدف الترويج للستالينية بين صفوف الجمهوريين، والقضاء على الفصائل الأخرى. في الوقت الراهن، يضم معسكر المعارضين السوريين فصائل مختلفة، ينتمي جزء كبير منها إلى الإسلاميين. وعموما، أصبح الإسلاميون يمثلون الأيديولوجية الإرهابية الجديدة وعلى نطاق عالمي، وهو الحال بالنسبة للأناركية الشيوعية خلال القرن العشرين.
في هذا الإطار، كان تنظيم الدولة مكونا من أفراد قادمين من جميع أنحاء العالم الإسلامي وحتى الأوروبيين، وهو بالفعل يعادل الألوية الدولية (التي شاركت في الحرب الأهلية الإسبانية). أما السوفيتيين الجدد، فهم الأتراك الذين جمعتهم بعناصر تنظيم الدولة لعبة مضطربة، خلال العديد من السنوات. وحاليا، تشن تركيا عملياتها في الأراضي المتاخمة للحدود التركية بمساعدة فصائل إسلامية، من المؤكد أن بعض عناصرها من المنشقين عن تنظيم الدولة.
في الوقت الراهن، وتماما مثلما وقع في إسبانيا بين سنة 1936 وسنة 1939، وخلافا للحرب العالمية الأولى سنة 1914، لا توجد أي قوة كبرى مستعدة للدخول في صراع شامل في سوريا
يرفض الغربيون اليوم، مثلما فعلوا بالأمس، أن يتدخلوا في هذا الصراع حيث يقتصر دورهم على بعض الإجراءات الجزئية. وخلال سنة 1936 إلى حدود سنة 1939، انتهجت فرنسا والمملكة المتحدة سياسة عدم التدخل، حيث رفض البريطانيون في ذلك الوقت الانحياز إلى جانب الشيوعيين على الرغم من معاداتهم لهتلر، مفضلين سياسة التفاوض. ولذلك، اقتصر دورهم على إرسال بعض الأسلحة سرا إلى الجمهوريين. واليوم أيضا، قدمنا أسلحة دون التأكد في بعض الأحيان من وصولها إلى الجهة المناسبة، فقد أردنا دعم المعارضين ولكن دون تسليح الإسلاميين… باختصار، من الصعب المحافظة على الوضع على حاله، حيث نحاول القيام بإجراءات تعتمد على مبادئ فعلية من أجل حفظ ماء الوجه.
كيف يمكن لتعدد الفاعلين وتضارب مصالحهم، أن يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ بتصعيد مشابه للنموذج الذي وقع في سنة 1914؟
إضافة إلى حقيقة أن تعدد الفاعلين يعمق من صعوبة صنع السلام، يزيد هذا المعطى أيضًا من خطر التصعيد. ففي كل مرة يتحقق فيها قدر من الاستقرار، يقوم أحد الفاعلين، الذي قد يشعر بأنه وقع تجاهله، بلعب دور في تأجيج أعمال العنف. وبالتالي، يساهم ذلك في القضاء على الاستقرار. ويعتبر تدخل أردوغان في عفرين أبرز مثال على ذلك. والأمر سيان بالنسبة للأسد الذي سعى إلى زعزعة الوضع من خلال استخدام الأسلحة الكيميائية، على أمل أن يدفع تركيا للعودة بقوة مرة أخرى إلى حلف شمال الأطلسي، مما قد يؤثر على موقف الروس، الذين قد يبادروا بمعارضة التدخل التركي في منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا. ومع ذلك، وحتى إن تأجج الصراع مرة أخرى في سوريا، فلن يؤدي، حسب رأيي، إلى تصعيد حقيقي.
في الوقت الراهن، وتماما مثلما وقع في إسبانيا بين سنة 1936 وسنة 1939، وخلافا للحرب العالمية الأولى سنة 1914، لا توجد أي قوة كبرى مستعدة للدخول في صراع شامل في سوريا. في الأثناء، يبدو موقف الولايات المتحدة وروسيا واضحا للغاية، فإما أن تتراجع الولايات المتحدة عن استهداف النظام بسبب تجاوزه “للخطوط الحمراء”، كما جد في سنة 2013 أو توجيه ضربات خاضعة لحسابات دقيقة بحيث لا تمس بالروس كما هو الحال اليوم وخلال سنة 2017 أيضا. من جانبهم، لم يحاول الروس، الرد على هذه الضربات، حيث اقتصر الموقف الروسي على توجيه جملة من التحذيرات فحسب. بناء على ذلك، لن يقع أي تصعيد في سوريا.
لا يمكن أن تتحقق أي تهدئة إلا من خلال انتصار أحد الفصائل. وقد لا يكون الانتصار كليا، إلا أنه يمكن اعتباره بمثابة تسوية جزئية
من ناحية أخرى، يجب الاعتراف بأن صراعا من هذا النوع قد يؤدي إلى تدهور كبير على مستوى العلاقات الدولية، وبالتالي خلق ظروف ملائمة للتصعيد بشكل سريع في حال نشوب مواجهة حول قضية معينة تكون فيها مصالح القوى العظمى على المحك، بل وحيوية. في المقابل، ومنذ بضع سنوات، كان التوجه السائد لدى الجميع يتمثل في التفكير في حل سلمي عن طريق التفاوض، فيما يتعلق بالقضايا الخطيرة من هذا القبيل. في الأثناء، من شأن الجو المشحون في الوقت الراهن أن يخلق بيئة حيث تحتدم فيها التوترات بين جميع الجهات، في ظل التصريحات المتضاربة التي تتسم بتأثير سلبي. عمدت الحرب الإسبانية، بنفس الطريقة، إلى جعل الأذهان تتجهز للدخول في حرب، وذلك من خلال الإعلان عن المعسكرات التي تمثل الخصم.
ما الذي يمكن أن نتعلمه من هذا السياق التاريخي المعقد من أجل تحقيق التهدئة بين جميع الأطراف الفاعلة؟
ستكون إجابتي مخيبة للآمال. ولكن في حين أنه من غير المرجح حدوث أي تصعيد حقيقي، وذلك على ضوء المعطيات المتوفرة على الساحة السورية، لا يمكن أن تتحقق أي تهدئة إلا من خلال انتصار أحد الفصائل. وقد لا يكون الانتصار كليا، إلا أنه يمكن اعتباره بمثابة تسوية جزئية. وعلى الرغم من أن انتصار فرانكو في الحرب الإسبانية كان شاملاً، ولكننا ربما لن نشهد على انجاز من هذا القبيل في سوريا. من هذا المنطلق، قد يحقق الأسد نصرا نسبيا، حيث سيتمكن من استعادة الأراضي السورية باستثناء منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا. أعتقد أن أردوغان سيسيطر على هذه الأراضي، بهدف إقامة دولة موالية وتابعة لتركيا. كما سيقوم بتوطين اللاجئين العرب السنة، الذين يناهز عددهم الثلاثة ملايين، وهي مناورة مثالية من قبل “العثماني الجديد”.
لا يملك الغرب وسائل الضغط الضرورية لتسليطها على أردوغان، وبالتالي لن يستطيعوا التدخل في هذا المشروع التركي
من جانبه، لن يبادر بوتين بالقيام بأي تحرك لمنع أنقرة من القيام بذلك لأن هذا الأمر سيسمح باكتساب منفذ تركي يطل في الممر الإيراني – السوري، ما من شأنه أن يضعف الهيمنة الإيرانية على المنطقة، التي لن تتحقق دون اللجوء إلى التحالف مع روسيا. وبالنسبة لإيران، لن تتمكن من رفض هذه الصفقة لأنها غير قادرة على تحدي تركيا بمفردها ولن يكون بوتين مهتماً بمساعدتها. من جهة أخرى، لا يملك الغرب وسائل الضغط الضرورية لتسليطها على أردوغان، وبالتالي لن يستطيعوا التدخل في هذا المشروع التركي. فضلا عن ذلك، يبدو الغرب في حاجة إلى تركيا وذلك على مستوى قاعدة إنجرليك الإستراتيجية وعملها على كبح تدفق اللاجئين نحو أوروبا. على ضوء كل هذه المعطيات، يبرز التوازن الجديد على مستوى مختلف القوى، الذي يعد مؤقتا إلا أنه أشد صلابة من التوازنات السابقة، والذي يمكن تجسيده على أرض الواقع في المستقبل القريبن أي خلال الأشهر القليلة القادمة.
المصدر: أتلنتيكو الفرنسية