لم تكن دولة الدراويش، التي أسّسها محمد عبد الله حسن أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الوحيدة التي برزت في القارة الأفريقية قبل الغزو الأوروبي، إنما برزت سلطنة أخرى كان يُطلق عليها “سلطنة مجريتنيا”.
بعد تسليط الضوء على مقاومة دولة الدراويش ضد الغزو الاستعماري سابقًا، نواصل رحلتنا التاريخية في ملف “ممالك أفريقيا قبل الاستعمار” للحديث عن سلطنة مجريتنيا، التي كانت تقع في منطقة القرن الأفريقي وتحديدًا في الجزء الشمالي الشرقي من الصومال الحديث، وتعتبر مركزًا تجاريًا وثقافيًا هامًّا، ولعبت دورًا كبيرًا في تاريخ المنطقة من خلال نفوذها السياسي والاقتصادي.
كانت الصومال في تلك الحقبة تحتل موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية على الطرق البحرية الدولية، ما جعلها نقطة محورية في شبكة التجارة العالمية، فقد كانت قاعدة لتموين الخطوط التجارية العالمية المارّة بين الشرق والغرب عبر خليج عدن ومضيق باب المندب، ولأهميتها وجّهت القوى الاستعمارية جهودها للسيطرة على تلك المنطقة.
سلطنة مجريتنيا
تعتبر سلطنة مجريتنيا من السلطنات الصومالية التي حكمت أجزاء هامة من شرق شبه الجزيرة الصومالية، تأسّست مطلع القرن الثامن عشر من قبل الصوماليين من عشيرة ماجرتين، التي تُعدّ من أكبر قبائل الصومال العربية وإحدى عشائر قبيلة الدارود.
خضعت سلطنة مجريتنيا الحياة البدوية، ويسود النظام القَبَلي في الحياة السياسية والاجتماعية، وكان يقودها حاكم يشار إليه بشكل مختلف بالسلطان أو الباقور، وإن كانت هذه الألقاب تحمل سلطة محدودة بين بعض المجموعات المجاورة، إلا أن الوضع مختلف في مجرتين، فالسلطان يمارس سلطة كبيرة على شؤون الدولة.
كانت سلطنة مجريتنيا موطنًا لبعض المجتمعات البحرية الأكثر ديناميكية في القارة الأفريقية، وكانت قوة إقليمية كبرى تربط البر الرئيسي الصومالي بغرب المحيط الهندي، وبلغت أوج حكمها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
استغلت سلطنة مجريتنيا موقعها الجغرافي المتميز لتعزيز تجارة التوابل الدولية والإقليمية، فقد كانت مركزًا لطرق التجارة التي تربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وعبر موانئها الساحلية المحصنة نظمت التجارة في مجموعة متنوعة من السلع، مثل التوابل والثروة الحيوانية وريش النعام والصمغ العربي.
كما عملت سلطنة مجريتنيا على توقيع معاهدات تجارية مع دول مختلفة لتعزيز حركتها التجارية، مستفيدة من افتتاح قناة السويس لزيادة أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية.
كان لها جميع أجهزة الدولة الحديثة المتكاملة، إذ سنّت القوانين المتعلقة ببناء الحصون والقلاع والأمن والإنقاذ البحري ونقل الماشية (حقوق الرعي على الأرض والآبار وما إلى ذلك)، وتم تنظيم علاقات الدولة الخارجية، وكانت هناك اتصالات دبلوماسية مع الدول الأجنبية.
ووقّع حكّام سلطنة مجريتنيا العديد من المعاهدات الدبلوماسية والتجارية مع دول كثيرة، أشهرها اتفاقية السلطان محمود يوسف، والد السلطان عثمان محمود الذي كان آخر السلاطين، في عام 1866، حيث تمّ الاتفاق على وقف تجارة العبيد في أفريقيا.
وحسب مركز مقديشو للأبحاث الاتفاقية التجارية الأولى التي وقّعتها مجيرتينا مع بريطانيا كانت في عدن عام 1879، والتي يتسلم بموجبها ملك مجيرتينا 500 روبية سنويًا مقابل حماية ورعاية مصالح بريطانيا والسفن التجارية في السواحل تحت نفوذ السلطنة.
عززت هذه المعاهدات والعلاقات الدولية مكانة سلاطين مجريتنيا كحكّام في مشهد سياسي متنازع عليه، ومكّنتهم من نفوذ أكبر في منطقة القرن الأفريقي التي تنتشر فيها عديد المماليك الصغيرة في تلك الفترة.
آخر السلاطين
تعاقب على سلطنة مجريتنيا منذ تأسيسها 6 سلاطين هم محمود الرابع (1800-1815)، وعثمان الثاني (1815-1842)، ويوسف الرابع لمدة عامين فقط، ومحمود الخامس بن يوسف (1844-1860)، قبل أن يتسلم عثمان بن محمود (المعروف أيضًا باسم محمود عثمان) حتى انهيار السلطنة عام 1927، ليكون آخر السلاطين وأطولهم حيث حكم ما يقارب 70 عامًا.
كان السلطان عثمان حاكمًا بارزًا وحمل لقب “بوقور”، وهو ما يعني “الملك” بالصومالية، وازدهرت سلطنة مجريتنيا تحت قيادته كقوة إقليمية في شمال شرق الصومال.
أرسى سلطة مركزية قوية خلال وجوده، وامتلك جميع أجهزة الدولة الحديثة المتكاملة، كما فرض الضرائب على حصاد الأشجار العطرية وصيد اللؤلؤ على طول الساحل، وفرض الضرائب أيضًا على الأراضي والأسهم.
عُرف بمهاراته الدبلوماسية، خاصةً في تعامله مع القوى الأوروبية، فاستغلّ تتالي حوادث تحطم السفن على طول الرأس الشمالي الشرقي للقرن الأفريقي المعروف باسم كيب غواردافوي، لإجبار البريطانيين على توقيع اتفاقية مع سلطنته لحماية هذه السفن في أواخر القرن التاسع عشر.
وكان ساحل سلطنة مجريتنيا خطيرًا على نحو غير عادي بالنسبة إلى الملاحة، فالمياه المحيطة به فيها شعاب مرجانية، ولم تكن موانئه عميقة بما يكفي لاستقبال السفن الكبيرة، ما جعل هذه السفن عرضة للتحطم المستمر، وهو ما دفع القوى الغربية وعلى رأسها بريطانيا لوضع قوانين تتعلق بالأمن والإنقاذ البحري.
وافق البريطانيون على دفع إعانات مالية سنوية للملك عثمان مقابل حماية السفن وأطقمها وحراسة حطامها من النهب، ورغم أن هذه الاتفاقية لم تتم المصادقة عليها، إلا أنها منحت السلطنة قوة معنوية أكبر في مواجهة السلطنات المحيطة بها، وخطوة استراتيجية بهدف مواجهة منافسيها وضمان استقلالية وتوسع أراضيها.
صراع الأقارب
خلال فترة حكم السلطان عثمان، تعرضت سلطنة مجريتنيا لعديد المصاعب التي كادت أن تعجّل بانهيارها، ومنها الصراع على السلطة بينه وبين ابن عمه يوسف بن كينديد، إذ شهدت السلطنة 5 سنوات من الحرب الأهلية المدمرة، وراء دافع احتكار السلطة السياسية والسيطرة على التجارة والتحكم في منابع الثروة.
بدأ الصراع عندما أراد السلطان عثمان بناء قصر له في مدينة علولا، التي كان يوسف يعتبرها من ممتلكاته الشخصية، واعتبر أن بناء القصر اعتداء عليه، وبعد فشل محاولة الصلح بينهما احتكما إلى قوى السلاح.
بعد محاصرة قوات عثمان لابن عمه في قصره في علولا، غادر الأخير إلى عدن حيث استقبله الحاكم البريطاني، وبقيَ هناك لمدة 3 أشهر قبل أن ينتقل إلى مكلا في اليمن، ليجهّز قوة عسكرية مؤلفة من 120 مسلحًا من المرتزقة، ليعود إلى علولا ويسيطر عليها مجددًا.
بعد تدخُّل وجهاء القبائل والعلماء، اصطلح الأقارب وأسفر الصلح عن زواج محمود عثمان من بنت يوسف علي، وعيّنه نائبًا لمدينة علولا، ليجمع ثروة كبيرة من التجارة ومن الضرائب.
تمكّن يوسف علي من تكوين حلف سياسي من عدة قبائل صغيرة، ونسج شبكة من زعماء القبائل والتجار والعلماء الذين كانوا على خلاف مع عثمان، وأصبح يراوده حلم تأسُّس سلطنة خارج سلطنة ابن عمه، فتوجه في أبريل/ نيسان 1884 إلى منطقة هيبو، التي كانت تقع خارج نفوذ ملك مجيرتينا ولا تسبّب أي مشكلة مع السلطان عثمان.
وحسب مركز مقديشو، فإن يوسف علي “أنشأ سلطة مستقلة لها قوة عسكرية منظمة وقوية مزودة بأسلحة نارية، ووضع نظام سياسي مركزي قوي معتمدًا على شخصيته، وما يتمتع من قوة وقدرة وكفاءة ذاتية في مراحله الأولى”.
و”في مرحلة لاحقة عندما أثبت أركان سلطنته ودانت له معظم القبائل، بدأ يعتمد على هياكل مؤسساتية لتيسير شؤون السلطنة، فكان يعتمد على جهاز إداري مركزي بسيط يقوم عليه مجموعة محدودة من المستشارين والمساعدين، وطوّر هيكلًا إداريًا من مؤسسات عسكرية وقضائية ذا كفاءة مقبولة يمزج التقاليد المحلية بالتقنيات الحديثة”.
انهيار سلطنة مجريتنيا
موقعها الجغرافي المميز وسيطرتها على أحد أبرز الممرات التجارية العالمية في ذلك الوقت، جعل سلطنة مجيرتينيا محطّ أنظار القوى الغربية الاستعمارية، ولم يستطع حكام البلاد مقاومة الإغراءات الغربية، حيث أبرمت بريطانيا عام 1866 معاهدة مع السلطان محمود يوسف، تقيّد بمقتضاها السلطان وورثته، وتفرض عليه عدم البيع أو التنازل أو التخلي عن أي مساحة لأي دولة أخرى دون موافقة البريطانيين.
كما وقّعت سلطنة مجريتنيا اتفاقية أخرى مع شركة ألمانية، تتحصل هذه الأخيرة بمقتضاها على عقد امتياز استغلال الموارد الطبيعية، والبحث عن المعادن في المنطقة التي حول رأس حافون على ساحل مضيق غواردافوي على طرف القرن الأفريقي.
الإيطاليون من جانبهم كانوا مهتمين كثيرًا بهذه السلطنة، وفي عام 1885 بدأ التحرش الإيطالي بالسلطنة، إذ كان همّهم الاشتراك في تقسيم منطقة القرن الأفريقي مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، علّهم يجدون موطأ قدم في الشرق الأفريقي، ويستفيدون من الامتيازات والثروات التي يوفرها هذا المكان.
نجح الإيطاليون في عقد عديد المعاهدات والاتفاقيات مع شيوخ المنطقة، مستعملين الهداية والوعود بحماية المنطقة وضمان قرارها السيادي، وقد استغلت روما الانقسام القَبَلي في السلطنة لتمرير هذه المعاهدات الخبيثة.
في عام 1889، وقع السلطان عثمان معاهدة مع إيطاليا، وهو ما جعل السلطنة محمية تُعرف باسم أرض الصومال الإيطالية، وظنَّ أن هذه المعاهدة ستضمن حكمه وتحميه من التمرد الذي قام به ابن عمه حاكم سلطنة هوبيو، الذي وضع نفسه تحت تصرف إيطاليا وأبدى استعداده بمساعدتها وخدمتها في أي مهمة تريدها، بغية الحصول على السلاح والمال.
ورغم أن معاهدة عثمان مع روما نصّت على استبعاد أي تدخل إيطالي في إدارات السلطنة وتقديم إعانات سنوية للسلطان، إلا أن نية الإيطاليين كانت عكس ذلك، وهو ما تفطّن له عثمان فنظّم صفوف المقاومة لاستعادة السيطرة على البلاد.
بدأت إيطاليا بتأليب الرأي العام ضد السلطان عثمان، ودفعت بعض القبائل للخروج عن حكمه، كما تحالفت مع يوسف علي سلطان هوبيو الذي شارك في الحملة الإيطالية التي تهدف إلقاء القبض على السلطان عثمان محمود أو إجباره على الاستسلام، حيث كان يأمل تحقيق حلمه وهو أن يكون سلطانًا على كل المجيرتينيين والهيمنة على المشهد السياسي.
أضعفت الأحداث السابقة سلطة عثمان، وتمكّن الإيطاليون من احتلال السلطنة وإنهاء حكمه، ليكون عام 1927 تاريخ السقوط النهائي لهذه السلطنة التي حكمت شرق الصومال لعدة قرون، كانت خلالها قوة إقليمية هامة في القرن الشمالي لإفريقيا، حيث فرضت في تلك الفترة كلمتها وشروطها على القوى الاستعمارية، وتمكنت من سيادة التجارة البحرية المارّة عبر مياهها الإقليمية.
أما ابن عمه يوسف فقررت إيطاليا إزاحته عن السلطة وإبعاده إلى الخارج، بالتنسيق مع البريطانيين الذين اتهموه بالتعاطف مع محمد عبد الله حسن (الملا مجنون)، مؤسس دولة الدراويش.