قبل مجيء الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر ازدهرت العديد من الممالك الإسلامية التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الثقافية والدينية للقارة، هذه الممالك، التي انتشرت في مختلف أرجاء القارة من غرب إفريقيا إلى شرقها، لم تكن مجرد كيانات سياسية، بل كانت مراكز للحضارة الإسلامية، حيث ازدهرت التجارة، والعلم، والدعوة الإسلامية.
من هذه الممالك كانت مملكة جيما التي لعبت دورًا بارزًا في نشر الدين الإسلامي في شرق القارة الأفريقية، وما زالت إلى الآن بعض مدنها التاريخية تحمل طابعًا إسلاميًا وآثاره ظاهرة على سكانها، رغم محاولات ملوك الحبشة (إثيوبيا) -الذين أنهوا وجود المملكة- طمس كل أثر إسلامي في المنطقة.
نستعرض في ملف “مماليك إفريقيا قبل الاستعمار” مملكة جيما التي تعتبر آخر الممالك الإسلامية التي أسّسها شعب الأورومو بأثيوبيا وأقواها، إلى جانب تسليط الضوء أماكن سيطرتها وامتدادها ونفوذها، ودورها في نشر الإسلام في المنطقة، قبل حروبها مع ملوك الحبشة والمستعمر الإيطالي الذي تمكن من احتلالها وإنهاء الحكم الإسلامي في المنطقة.
جيما أبا جيفار
كانت إثيوبيا تعدّ واحدة من أقدم مواطن الحضارات البشرية في العالم، إذ تسكنها العديد من المجموعات الثقافية والعرقية واللغات المختلفة، وكانت موطنًا لكثير من الدول والممالك التي ساهمت في تشكيل هوية المنطقة بالوجه الذي هي عليه اليوم.
من أبرز هذه المجتمعات كان شعب الأورومو، وهم مجموعة عرقية كوشية وأمة أصلية في إثيوبيا تمثل 45.5% من سكان البلاد في الوقت الحالي، وكان هذا المجتمع عماد عديد الممالك التي قامت في المنطقة.
سكن شعب الأورومو شرق وشمال شرق إفريقيا منذ أوائل الألفية الأولى، لكن الحروب والصراعات التي أعقبت الحرب العدلية الحبشية (نزاع عسكري بين الصوماليين والأحباش في الربع الثاني من القرن السادس عشر) دفعه للانتقال إلى الشمال.
وفي ظل الهجرة الكبيرة لشعب الأورومو من الجنوب نحو الشمال، تم إنشاء مجتمعات وهياكل سياسية متنوعة، وبرزت بحلول منتصف القرن الثامن عشر العديد من الأقاليم المتنافسة على الأراضي والماشية والأسواق وطرق التجارة، وتطورت هذه الأقاليم وأخذت بُعدًا سياسيًا أكبر، حيث كان ما لا يقل عن 5 أنظمة سياسية في منطقة جيبي العليا، ومنها مملكات ليمو-إناريا وجيرا وجيما، التي كانت تتصارع فيما بينها على السيادة.
كانت مملكة ليمو-إناريا الأقوى بين هذه الدول، ووصلت إلى ذروتها في عهد الملك إبسا أبا باجيبو (1825-1861)، وكانت مدينتها الرئيسية ساكا مركزًا تجاريًا مهمًا على الطريق التجاري بين كافا ومملكتَي شيوا وغوجام (جزء من الإمبراطورية الإثيوبية)، لكن بمرور الوقت أخذت مملكة جيما مكانها.
نشأت مملكة جيما حوالي عام 1830، وكانت أكبر وأقوى الممالك الخمس التي شكلها الأورومو في منطقة جيبي، وسيطرت على أراضٍ أكثر في عهد الملك أبا ماجال في أوائل القرن التاسع عشر، وتوسعت العاصمة هيرماتا وقام حكّام البلاد بتوحيد عدة ولايات صغيرة تحت سيطرتهم، واحتلال المراكز المهمة على طول الطريق التجاري الذي يربط كافا بالولايات الشمالية غوجام وشيوا.
قسمت المملكة إلى 60 مقاطعة، كل منها تحت سلطة حاكم، وتم تقسيم كل مقاطعة منها إلى 15 مقاطعة صغرى، كل منها تحت رئيس منطقة، يقوم هؤلاء الحكام بتزويد الجيش بالجنود ويجمعون العمال للأشغال العامة، لكنهم لا يحتفظون بجيش ولا بحقّ جمع الضرائب.
يتم اختيار المسؤولين مثل جباة الضرائب والقضاة والسعاة والجنرالات العسكريين من عدة فئات مختلفة، بما في ذلك أفراد العائلة المالكة وغير الملكيين، والشخصيات الأثرياء والرجال الذين تميزوا في الحرب، بالإضافة إلى الأجانب ذوي المهارات الخاصة، بما في ذلك المرتزقة والتجار والمعلمون المسلمون.
تداول على حكم مملكة جيما ملوك كُثر لكن أبرزهم على الإطلاق هو أبا جيفار الثاني الذي وُلد سنة 1861، ووالده هو السلطان أبا جومول الملك السابع لمملكة جيما، وأمه هي الملكة جمتي ابنة ملك جوما، إحدى ممالك جيبي الخمسة.
عُرف الملك أبا جيفار الثاني بقوة انتمائه إلى الإسلام والعمل من أجله، حيث حفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة على يد والدته، ومن ثم درس التوحيد والفقه، حتى أصبح ملكًا عام 1878 خلفًا لوالده.
تمكّن أبا جيفار الثاني من صدّ المملكات المجاورة التي تتحرش بمملكته عن طريق المهادنة، ومن ثم قاد بلاده إلى حياة الرخاء والغنى، وقام بتعزيز التجارة في جيما وحسّن السياسة، وأنشأ مؤسسات إدارية وسياسية جديدة متأثرًا بالتجار المسلمين، وابتكر سياسة تنموية أسهمت في تحويل جيما إلى منارة ثقافية واقتصادية.
كما طوّر ملك جيما علاقات بلاده الخارجية، وكان له تواصل مباشر مع الدول المجاورة ومنها الدول العربية، على غرار المملكة العربية السعودية المُشكّلة حديثًا حينها ومصر وعُمان وغيرها، ما رجع بالفائدة على مملكته.
حوّل الملك عاصمة الحكم إلى مدينة جيما الجديدة على نهر أويتو، وقام بتوسعة المدينة القديمة وشيّد مسجدًا وقصرًا على ارتفاع 2020 قدمًا، ويطلّ من جبل بمنطقة جيرين، وحُصن هذا القصر مكوّن من 29 غرفة بقلعة ذات 4 بوابات للرصد والمراقبة، عاش فيه العديد من المسؤولين السياسين والعسكريين والقضاء.
اقتصاد المملكة
استمدت المملكة أهميتها من موقعها الاستراتيجي على طريق القوافل التجارية بين ممالك الحبشة قديمًا، إذ تربط بين جنوب وغرب إثيوبيا، ما منح حكّامها شرعية أكبر في هذه المنطقة المتقلبة التي تسودها الصراعات والحروب المتواصلة.
وبفضل التوسعات المتتالية، تحولت جيما من مجموعات من الفصائل الصغيرة المتحاربة إلى دولة مركزية ذات قوة اقتصادية وسياسية متنامية، فاجتذبت التجار المسلمين من المناطق الشمالية، الذين أثّروا بشكل كبير في اعتناق المملكة للدين الإسلامي.
فقدت باقي دول المنطقة مكانتها لصالح مملكة جيما التي أنشأت لنفسها إدارة خاصة، وكان مركز الحكم في القصر الملكي، وفيه ضباط يشرفون على شؤونه الداخلية، فيما أُسندت أغلب الأعمال خارج القصر لعبيد الملك.
استخدمت مملكة جيما الريال النمساوي أو دولار ماريا تريزا للتعامل مع التجار، وهي عملة فضية سُكّت سنة 1741 وسُمّيت باسم الملكة ماريا تيريزا التي حكمت النمسا وهنغاريا وبوهيميا فترة 1740-1780، واستخدمت هذه العملة على نطاق واسع حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في أفريقيا، ابتداء من شمال أفريقيا حتى الصومال وإثيوبيا وكينيا وزنجبار وتنجانيقيا إلى موزمبيق.
واشتهرت تجارة القهوة في المملكة، وكانت أبرز الصادرات بالإضافة إلى الذهب والعاج، ومثّل الزيت المستخرج من الحيوانات مصدرًا آخر للدخل في مملكة جيما وكان يستخدَم لصنع العطور، وصُدّرت هذه المنتوجات لعديد الدول المجاورة، كما اجتذبت أسواق جيما قوافل التجار القادمة من بعيد، وتمّ فرض رسوم على القوافل التي تمرّ عبر بوابات المملكة، بينما كانت الأسواق تحت سيطرة مسؤول القصر.
واشتهر سكان البلاد من مجمع الأورومو بإتقانهم الكبير للحرف اليدوية، حيث تفنّنوا في صناعة الأدوات المنزلية من الخشب، كما تميزوا بصناعة الملابس القطنية والجلدية التقليدية وفي تربية الماشية والتجارة، وكانت الإدارة في جيما مركزية ويسيطر عليها الملك من خلال بيروقراطية متطورة نسبيًا.
نشر الإسلام
اُعتبرت مملكة جيما آخر ملوك المملكة الإسلامية التي انتشرت منها تعاليم الإسلام الحنيف في منطقة القرن الأفريقي، وتاريخيًا مثّل طريق باب المندب والبحر الأحمر الذي تقع مملكة جيما على مقربة منه أحد أبرز طرق انتشار الإسلام في أفريقيا.
ونال التجار المسلمون الذين في تواصل مباشر مع سكان الساحل الشرقي لأفريقيا أعظم الأدوار في نشر الإسلام، حتى باتت أهم الحواضر التجارية في شرق أفريقيا التي يؤمها التجار المسلمون مراكز للدعوة ونشر الدين الحنيف، وتكفّل التجار بإحضار واستقدام العلماء والفقهاء إلى هذه المناطق لتكثير عدد المسلمين فيها، ثم تولي هؤلاء العلماء تعليم الناس أمور دينهم، كما عمد بعض التجار إلى تشييد المدارس والمساجد.
ويعتبر الملك أبا جيفار الأب من الذين نشروا الإسلام في أوساط الأورومو، إذ قام باستدعاء العديد من العلماء لنشر تعاليم الإسلام في جيما، كما أقام وقفًا إسلاميًا للحجاج الحبشيين ما زال قائمًا إلى الآن في مكة المكرمة، وأوقف أيضًا رواقًا خاصًا بطلبة العلم الحبشيين الذين يقصدون الأزهر للتعلم يدعى رواق الجبرتي.
وفي عهد خليفته أبا بوقا (حكمَ فترة 1858-1864) تمّت أسلمة مجتمع جيما بأكمله، وتمّ بناء المساجد بالقرب من مركز الحكم، وتمّ منح الأراضي للعلماء المسلمين، كما أمر مسؤوليه ببناء المساجد في مقاطعاتهم ودعم الشيوخ المحليين، ما جعل جيما مركزًا مهمًا للتعليم الإسلامي في شرق أفريقيا.
واصل الملك أبا جيفار الثاني نهج أبائه، وعمل على نشر الإسلام والدفاع عن المسلمين، ففي تلك الفترة عمد ملوك الحبشة المسيحية إلى اضطهاد المسلمين، وكانت مملكة جيما وجهة للمسلمين الفارّين من اضطهاد الإمبراطور يوهانس، خاصة أهل منطقة ولو في شمال إثيوبيا.
ومن الآثار الإسلامية الباقية إلى غاية اليوم نجد مسجد أفورتما (تعني الأربعين بلغة قومية الأورومو) وسط جيما، وهو أول مسجد أُقيمت فيه صلاة الجمعة قبل 190 عامًا، ويستمد المسجد الذي تأسّس في عهد الملك السادس أبا بوقا، اسمه من اجتهاد فقهي يقول إن أقل عدد تُقام به صلاة الجمعة هو “أربعون رجلًا من أهل وجوبها مع الإمام”، وظل المسجد وجهة لطلاب ودارسي العلوم الشرعية وتعاليم الدين الإسلامي.
انهيار المملكة
تصاعدت قوة مملكة جيما وضمّت عديد الأراضي المجاورة تحت سيطرتها، لكن مع نهاية القرن 19 بدأت في التراجع، تزامنًا مع سعي ملوك إثيوبيا للتوسع وضمّ أقاليم جديدة إلى المملكة، حيث استطاع الملك مينليك الثاني الاستيلاء على معظم الأراضي الواقعة إلى الجنوب.
وحتى يأمن شرّ الإثيوبيين، اضطر ملك جيما أبا جيفار دفع الضريبة لإمبراطور إثيوبيا مينيليك الثاني منذ عام 1886 مقابل أن يحكم باستقلالية كاملة، ومن دون تدخّل الإمبراطور في شؤون المملكة، إضافة إلى عدم بناء كنائس فيها.
لم ترضِ هذه الضرائب الأثيوبيين، إنما طلبوا من ملك جيما مساعدتهم في حروبهم ضد الممالك المستقلة المجاورة ففعل ذلك، لكن هذا الأمر جعل جيما محاطة من جميع الجوانب بالمقاطعات الإثيوبية التي يديرها مباشرة معيَّنون من مينيليك الثاني.
رغم دفع الضرائب والمساعدة في الحروب، بقيت أعين ملوك أثيوبيا موجّهة نحو جيما بهدف السيطرة عليها، واستغلت أديس أبابا تقاعد الملك أبا جيفار من الحكم سنة 1930 والتخلي عن الحكم لفائدة حفيده أبا جويير، لتنفيذ مخطط السيطرة على البلاد، وتزامن ذلك مع اندلاع أزمة اقتصادية واجتماعية في جيما، فتمّ سجن أبا جويبر سنة 1932 وتعيين حاكم مباشرة على جيما، ما أنهى حكم المملكة.
خلال الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا (1936-1941)، أُدرجت مملكة جيما تحت مقاطعة كافا الإثيوبية، وهي اليوم جزء من منطقة أوروميا، وتشهد الآثار الموجودة فيها تاريخ مملكة إسلامية قوية حكمت لزمن طويل، وكانت مساهمًا مهمًا في نشر الإسلام في شرق أفريقيا.