ازدهرت خلال القرون الماضية العديد من السلطنات والممالك الإسلامية في القارة الإفريقية، وأسهمت في تشكيل الهوية الثقافية والتاريخية للمنطقة، قبل وصول الاستعمار الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حين بدأت بالتراجع والانحسار تحت ضغوط القوى الاستعمارية.
رغم ذلك، تركت هذه السلطنات أثرًا بارزًا في التراث والتاريخ الإسلامي الإفريقي، واليوم، نواصل في ملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار”، استعراض أبرز تلك الممالك، ونسلط الضوء على سلطنة عفر، التي لعبت دورًا مهمًا في تاريخ شرق إفريقيا قبل سقوطها بيد الاستعمار.
مملكة أوسا
جاءت قومية “العفر” من حضرموت وعدن باليمن إلى منطقة القرن الإفريقي عقب نشوب حروب بينهم وبين أحد ملوك اليمن الذي شدد الخناق عليهم، واستقروا منذ مئات السنين فيما أصبح يُعرف بالمثلث العفري على طول الساحل الجنوبي للبحر الأحمر (حاليًا أجزاء من جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا).
خلال تنقلهم إلى منطقة القرن الإفريقي، شكل العفر ممالك صغيرة يحكم كل منها سلطانها الخاص، كان أهم هذه الممالك مملكة أوسا، التي بلغت أوجها في الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، حيث كانت تعتبر الملكية الرائدة لشعب العفار، ومدت المملكة سلطتها لأراضٍ واسعة في المثلث العفري.
تعود جذور مملكة أوسا إلى “إمامة أوسا” التي أسسها محمد جاسا سنة 1577، واستمرت حتى انهيارها في 1734، لتقوم بعدها سلطنة عفر على أنقاضها والتي طورت نظامًا سياسيًا مستقلًا خاصًا بهم استمر حتى سقوطها بسبب الغزو الأوروبي.
لعبت العاصمة أوسا دورًا حاسمًا في حماية استقلال السلطنة، حيث تم بناؤها بغاية مقاومة الهجمات الخارجية المتكررة، ما جعلها مركزًا أكثر أمانًا للحكم، ومن هذا الموقع الاستراتيجي، تمكنت السلطنة من النمو والتطور مقارنة بالممالك المجاورة.
نتيجة الاستقرار والازدهار الذي شهدته مملكة أوسا، أصبحت العاصمة وجهة جذابة للعفر القاطنين في المناطق المجاورة، وتميز هذا الازدهار بتوافد الكثير من العفر، خاصةً من منطقة دبني-فيماس، التي كانت تعد القوة الأقوى في جنوب أدويمارا.
وكان الرمز الأساسي للسلطان هو العصا الفضية، التي كانت تعتبر ذات خصائص سحرية، ويساعد السلطان في الحكم العديد من المستشارين والوزراء.
خاضت سلطنة أوسا العديد من الحروب مع الدول المجاورة التي كانت تطمح إلى ضمّ أراضيها، ما أثر سلبًا على استقرار البلاد وتسببت في معاناة للسكان، وأدى إلى تراجع مكانة السلطنة الاستراتيجية في المنطقة، ما أضعفها على مر الزمن.
ازدهرت في عهد أوسا تجارة الملح الذي كانوا يستخرجونه ثم ينقلونه على ظهور الجمال عبر طرق التجارة والقوافل المتّجهة إلى إثيوبيا، وارتبطت تجارة الملح آنذاك بالمقايضة مع ما تنتجه منطقة الحبشة من الذرة والفحم والقهوة والعاج والمسك وغيرها من السلع.
كما انتشرت في المملكة أيضًا تجارة العبيد، إذ كانت أوسا نقطة مركزية في هذه التجارة التي ازدهرت بقوة في العصور الوسطى، وكان تجّار الرقيق من العرب والأوروبيين خاصة البرتغاليين والبريطانيين.
نشر الدين الإسلامي
كان سكان مملكة أوسا يدينون بدين الإسلام، الذي يعود تاريخ دخوله إلى المنطقة لبداية الدعوة، بفضل الهجرة الأولى للمسلمين الأوائل إليهم، فقد كانت هذه المنطقة من أوائل المناطق التي دخلها الإسلام في إفريقيا.
كما ساهمت العلاقات التجارية بين بلاد العرب وسواحل البحر الأحمر التي يقطنها العفر، في انتشار الإسلام بتلك الربوع، ومنها إلى هضبة الحبشة وباقي مناطق شرق القارة الإفريقية.
كانت سلطنة عفر من القوى التي أسهمت في نشر الإسلام بإفريقيا، حيث لعبت دورًا كبيرًا في نشر الدين بمناطق واسعة من القارة، فترسخت تعاليم الإسلام وانتشرت بين العديد من الشعوب، ولا تزال تأثيرات هذه الجهود قائمة حتى اليوم، حيث يعتنق الكثير من الأفارقة الإسلام.
بسبب تمسكها بالإسلام، دخلت مملكة أوسا في صراعات طويلة مع الأحباش المسيحيين الذين كانوا يغزون المنطقة لأسباب متعددة، وأخذت هذه الصراعات، في كثير من الأحيان، طابعًا دينيًا حيث كان الأحباش يشنون الحروب بهدف نشر المسيحية ووقف انتشار الإسلام.
كان لمملكة أوسا دور بارز في صد التوسع الحبشي والحفاظ على البحر الأحمر بعيدًا عن هيمنة المسيحيين، حيث سعى ملوك الحبشة بكل جهدهم للنزول من الجبال والوصول إلى سواحل البحر الأحمر، لكن العفر حالوا دون تحقيق ذلك.
كما مثل الشريط الساحلي الإريتري-الجيبوتي لعدة عقود خط الدفاع الأمامي للأمة الإسلامية وشبه الجزيرة العربية ضد ملوك الحبشة وحلفائهم من القوى الاستعمارية، الذين كانوا يطمحون إلى السيطرة على أهم الممرات التجارية في العالم.
تطويق المملكة
مع بداية القرن العشرين، أحاطت القوى الاستعمارية بمملكة أوسا من جميع الجهات، فكانت مستعمرة إريتريا الإيطالية تحدها من الشمال، وأرض الصومال الفرنسية من الشرق، بينما حاصرها ملوك إثيوبيا من الجنوب والغرب. وطالبت هذه القوى جميعها بضم أوسا للاستحواذ على مميزاتها الجغرافية والطبيعية، ووضع سلطتها على البحر الأحمر الذي يتحكم في أحد أهم طرق التجارة العالمية الرابطة بين الهند وأوروبا.
ويعود تواجد الإيطاليين إلى نهاية القرن التاسع عشر عندما وقعت روما اتفاقية مع سلطان أوسا السلطان محمد حنفري لـ”حمايته” من المد الحبشي، مقابل تمكينها من موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر، حيث تم تأجير خليج عصب من قبل شركة روباتينو للشحن الإيطالية كموقع لتمويل الأسطول التجاري المتجه إلى الهند.
بعد هذه الاتفاقية، تنازل الملك محمد حنفري عن العديد من المناطق لصالح الإيطاليين وواصل خليفته السلطان محمد يايو تعاونه معهم في حربهم ضد إثيوبيا، لكن القوات الإيطالية كانت وجهتها مملكة أوسا، وبحلول 1 أبريل/نيسان 1936، أكملت القوات الإيطالية احتلال سلطنة أوسا الغنية.
وفي نفس السنة، وقعت إثيوبيا تحت احتلال إيطاليا وأُعلِنت الأراضي الإثيوبية جزءًا من شرق إفريقيا الإيطالية (AOI)، وعقب الحرب العالمية الثانية تم تحرير المنطقة والاعتراف بالسيادة الإثيوبية على المنطقة بتوقيع اتفاقية الأنجلوإثيوبية في ديسمبر/كانون الأول 1944.
وكان من نتائج الحرب العالمية الثانية أن تم ضم مملكة أوسا إلى إثيوبيا ومنحها الحكم الذاتي، وانتهى بذلك عهد مملكة إسلامية حكمت لعقود في منطقة القرن الإفريقي وضمت تحت لوائها أغلب عفر المنطقة.
وفي الوقت الحالي ينتشر سكان قومية العفر في العديد من المناطق الممتدة على طول سواحل البحر الأحمر، وتبلغ نسبتهم في دولة إثيوبيا نحو 4% من إجمالي عدد السكان، يتركزون في منطقة “أوسا”.
أما في إريتريا فيعيشون في منطقة “دنكالليا” من مصوع حتى حدود جيبوتي طولًا وتصل نسبتهم لـ10% من السكان البلاد، أما انتشارهم الأكبر فهو في دولة جيبوتي، حيث يتواجدون في أغلب مناطق البلاد خصوصًا في تاجورة وأبيخ ودخيل، ويمثلون 50% من إجمالي عدد السكان.
ويُطلق على العفر العديد من الأسماء، ومنها “دناكل” وقد شاع استعمالها عند العرب، فيما يطلق عليهم الأحباش اسم “أدال” نسبة إلى سلطنة عدل، وأطلقت عليهم القبائل الصومالية المجاورة اسم “عد علي” نسبة إلى قبيلة عد علي التاريخية.
يمتهن “دناكل” حاليًا تجارة الملح الذي يوجد بكثافة في بحيرة عسل، الواقعة في مثلث عفر بجيبوتي، كما يمتهنون رعاية المواشي من الإبل والغنم، فيتتبعون المراعي، متنقلين من مكان إلى آخر، في طلب الكلأ، ويعتمدون على الإبل في أغلب حياتهم في الغذاء والتجارة والترحال، وهناك فئة منهم يحترفون صيد السمك واستخراج الأحجار الكريمة من منطقة البحر الأحمر لذلك يُطلق عليهم “ربان البحر الأحمر” نسبة لمهارتهم في مجال عمل البحر.
اعتاد العفر الطبيعة القاسية – الجفاف والحرارة الشديدة، والبراكين المهددة بالانفجار في أي لحظة -، ما جعلهم يتميزون بالقوة والشجاعة، ويعيش السكان في الصحراء في خيام مصنوعة من حصير النخل، ما يسهل عليهم تفكيكها ونقلها من مكان إلى آخر عند الحاجة، فحيثما وجد الغذاء وجد العفر.
ورغم انتمائهم القانوني إلى الدول الثلاثة المذكورة سابقًا، فإنهم لا يزالون يعيشون في مجتمعات قبلية تقليدية، يرأس كل منها زعيم تقليدي يحمل لقب السلطان، وتتميز هذه القومية بنسيج اجتماعي وتمازج قومي، حيث تجمعهم روابط الرحم، الدين، اللغة، العادات، التقاليد، والثقافة.