من شرق القارة الإفريقية، حيث برزت دولة الدراويش وسلطنة مجرتينيا في منطقة القرن الإفريقي، التي كانت إحدى القوى الإقليمية البارزة في شرق شبه الجزيرة الصومالية، ننتقل في رحلتنا التاريخية إلى غرب القارة، حيث ازدهرت مملكة الكونغو، التي تعد واحدة من أكثر الممالك شهرة وتأثيرًا في تاريخ إفريقيا، وازدهرت في القرن الرابع الماضي كواحدة من أكبر القوى في المنطقة بفضل نظامها السياسي المتقدم وتحكمها في تجارة العبيد والعاج.
نستعرض في ملف “ممالك إفريقيا قبل الاستعمار” تفاصيل المملكة وحدودها والتحديات التي واجهتها، وصولًا إلى العوامل التي أدت إلى تراجعها وسقوطها.
مرحلة التأسيس
يعود تأسيس مملكة الكونغو إلى سنة 1390 في وسط غرب إفريقيا بمنطقة شمال أنغولا الآن وكابيندا وجمهورية الكونغو والأجزاء الغربية من جمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى جانب أقصى جنوب الغابون.
يعود أصلها إلى مملكة ميمبا كاسي التي ظهرت بالتزامن مع مملكة مباتا، وتأسست نتيجة تحالف سياسي وعائلي بين النظامين، قبل انضمام مملكة ميمبا إلى هذا التحالف.
امتدت حدود المملكة – في أوج قوتها – من المحيط الأطلسي غربًا وحتى نهر كوانغو شرقًا، ومن نهر الكونغو شمالًا إلى نهر كوانزا جنوبًا، وتكونت من عدة أقاليم أساسية يحكمها مانيكونغو – أي أمير أو حاكم باللغة البرتغالية، وبلغ نفوذها ممالك مجاورة مثل نجويو وكاكونغو وندونغو وماتمبا.
كان أول ملوك المملكة ، لوكيني لوا نيمي (1380–1420)، الذي قاد توسعات المملكة واستولى على مناطق واسعة، وبحلول القرن السادس عشر وبفضل التحالفات والفتوحات، توسعت أراضي الدولة، وأصبحت المنطقة بأكملها تحت حكم ملك واحد، يدين له كل ملوك المنطقة، قبل استبدالهم فيما بعد بحكام يعينهم الملك مباشرة من العائلة المالكة أو من النبلاء.
مع مرور الوقت، تعزز النظام الملكي الكونغولي وفقدت المقاطعات المتحالفة نفوذها تدريجيًا حتى أصبحت صلاحياتها رمزية فقط وتشكلت حكومة مركزية، وكان مركز الحكم في مدينة مبانزا كونغو التي اتخذتها المملكة عاصمة لها ولعبت دورًا حاسمًا في مركزية الكونغو.
كان نظام المملكة فيدراليًا وتدار بنظام إداري متطور، حيث تتكون من أربعة أقاليم كل إقليم ينقسم إلى سبعة أجزاء تسمى “كينكوسو”، الذي يتكون من عدة فروع تسمى “كيمبوكو”، كما تمتعت المملكة بنظام ضريبي وعسكري إلى جانب اتفاقيات تجارية مع الشعوب القريبة والبعيدة.
ومنذ التأسيس حتى إلغاء المملكة عام 1915 بقيت مبانزا كونغو عاصمة للمملكة باستثناء فترة وجيزة تغير مكانها، وكان ذلك خلال الحروب الأهلية في القرن السابع عشر، وقبل سبع سنوات تم إعلان مبانزا كونغو ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو.
العاج والعبيد
في بداية تأسيس المملكة، اعتمد الحكام على الغارات العرضية على الممالك المجاورة لتمويل خزائنهم، فاعتمدوا على تجارة العاج المنتشر بكثرة في المنطقة، وبهدف توسعة التجارة قرروا الانفتاح على البحر، فسيطروا على منطقة لواندا الساحلية في منتصف القرن الخامس عشر، وبدت المنطقة موقعًا استراتيجيًا لإنشاء مركز بحري للإشراف على تجارة المملكة المتنامية مع العالم الخارجي.
أقامت المملكة علاقات تجارية بحرية مع ممالك قوية وغنية مثل مالي وسونغاي والبرتغال، ما عزز من قوتها ونفوذها في المنطقة، وساعدها على الاستجابة للطلب العالمي المتزايد على العاج الإفريقي.
وفي إطار حماية هذه التجارة الحيوية، أنشأ حكام الكونغو حصنًا لحماية العاصمة “مبانزا كونغو”، عُرف باسم حصن ساو سلفادور، وذلك لردع القراصنة الذين كانوا يشكلون تهديدًا دائمًا للتجارة في غرب إفريقيا، وضمان أمن التجارة الخارجية للمملكة.
ونتيجة لازدهار تجارة العاج مع العالم الخارجي، بدأت العديد من السفن الأوروبية بالتوافد على سواحل مملكة الكونغو، وجاء المستكشفون والتجار الأجانب بحثًا عن نصيبهم من ثروات المملكة الغنية.
في البداية، أثار حضور هؤلاء الغرباء حفيظة الأهالي، الذين لم يكن لهم عهد سابق مع الرجال البيض. لكن مع مرور الوقت، تعمقت علاقات حكام وأهالي المملكة مع الأوروبيين، وفيما بعد، تمكن هؤلاء الأجانب من السيطرة تدريجيًا على جزء كبير من اقتصاد المملكة، واشتروا مساحات واسعة من الأراضي الساحلية، تمهيدًا لبسط سيطرتهم الكاملة على البلاد.
لم يقتصر حكام الكونغو على تجارة العاج فقط، بل امتد نشاطهم التجاري ليشمل تجارة الرقيق أيضًا، خاصة في القرن السابع عشر، حيث أسروا خلال حروبهم التوسعية آلاف الأشخاص ونقلوهم قسرًا إلى العاصمة الملكية مبانزا كونغو، لاستغلالهم في الأعمال الشاقة، ما أدى إلى تحسين الزراعة وزيادة الإنتاج الحرفي مثل تجارة الأدوات النحاسية والفخار والقماش.
كما اختار ملوك المملكة عددًا من هؤلاء الأسرى لضمهم إلى صفوف الجيش الكونغولي، لبنيتهم الجسدية القوية، ما عزز من قوة المملكة وميزان القوى في حروبها المستمرة ضد الممالك المجاورة.
ومع انتعاش تجارة الرقيق أصبحت المملكة مصدرًا بارزًا للعبيد الذين تم أسرهم في الحروب، ليس ضمن حدودها فحسب، وإنما بدأ نقلهم إلى العالم الخارجي عبر التجار الأوروبيين، فانتشرت أسواق العبيد داخل أبرز مدن مملكة الكونغو.
ومثلت الكونغو مصدرًا رئيسيًا للعبيد لتجار جزيرة ساو تومي البرتغالية الواقعة في منطقة المحيط الأطلسي الاستوائية، حيث كانت المهمة الرئيسية لهؤلاء العبيد هي القيام بالأعمال الشاقة ضمن تجارة السكر في الجزيرة بسبب نقص العمال البيض، ولتعزيز مركزية المملكة، احتكر ملوك الكونغو تجارة الرقيق الخارجية مع الإمبراطورية البرتغالية، التي كانت أول إمبراطورية استعمارية تقيم علاقات تجارية ودبلوماسية مع المملكة.
جلبت هذه التجارة ثروة هائلة لموانئ الدول الاستعمارية ولآلاف من أصحاب السفن والمزارعين. ولأكثر من ثلاثة قرون، استمرت السفن تبحر في المحيط الأطلسي محملة بالمنسوجات والأسلحة والكحول والرصاص والحديد، لتعود محملة بالعبيد، الذين زُج بهم في الجزر الاستعمارية التي كانت تنتج القهوة والكاكاو والسكر ومواد أخرى كثيرة.
ولإحكام السيطرة على العبيد وتطويعهم لخدمتهم دون مقاومة، لجأ الأوروبيون إلى أساليب قمعية وغير إنسانية، كان من بينها الشنق على الأشجار، وقطع الأيدي، وارتكاب مذابح جماعية أدت إلى هلاك أكثر من 10 ملايين إفريقي.
تآكل قبل السقوط
رغم الأموال الطائلة التي جناها ملوك الكونغو من تجارة العبيد، ورغم كل ما شهدوه من مجازر وانتهاكات بحق العبيد، كانت هذه التجارة سببًا مباشرًا في تآكل سلطتهم تدريجيًا. حيث انتهك التجار البرتغاليون المتمركزون في جزيرة ساو تومي الاحتكار الملكي لهذه التجارة، وانفتحوا على دول إفريقية أخرى في المنطقة، ما أضر بالاحتكار الكونغولي لتجارة الرقيق.
وعمد البرتغاليون إلى التواصل مباشرة مع النبلاء الكونغوليين الأقوياء لتأمين هذه التجارة، ما حرم النظام الملكي من عائدات الضرائب، ونتيجة ذلك احتلت هذه الطبقة مواقع استراتيجية على طول الأنهار الصالحة للملاحة وطرق التجارة البرية الرئيسية.
بالتزامن مع ذلك، أصبح الكهنة والتجار البرتغاليون الذين كانوا يقيمون في الكونغو نشطين سياسيًا بشكل متزايد، حيث تغلغلوا في مفاصل الحكم بالمملكة، ما دفع الملك أفونسو لتقديم شكوى سنة 1526 إلى ملك البرتغال، جواو الثالث، الذي استغل هذه الشكوى لإنشاء قواعد في الكونغو للإشراف على مصالحهم مباشرة.
واضطر ملك الكونغو إلى قبول شروط البرتغاليين والتنازل لهم عن بعض الأراضي، مما عزز مكانة البرتغال في المنطقة ومنحها نفوذًا أكبر، بالتزامن مع تنامي الصراعات بين الحكام المحليين للإمبراطورية، ما أدى إلى استنزاف سلطة الملك في معظم أنحاء البلاد.
في القرن السابع عشر، شهدت مملكة الكونغو العديد من المواجهات العسكرية مع البرتغاليين، الذين تمكنوا من السيطرة على أراضٍ واسعة من المملكة، مستغلين نقمة الأهالي على ملوك البلاد، الذين اعتمدوا خلال حكمهم بشكل كبير على استعباد الأهالي لتوفير العبيد للدول الأوروبية، وعلى رأسها البرتغال.
كما استغل البرتغاليون البعثات التبشيرية وانتشار المسيحية في أنحاء المملكة للترويج لخطابهم، حيث قدموا أنفسهم كـ”حماة للمسيحية المهددة”، وفقًا لما صوروه للأهالي، ما أدى إلى ترحيب بعض السكان بهم في البداية.
تعرض زعماء الكونغو للخداع والإكراه على توقيع معاهدات تخلوا بموجبها عن السيادة لصالح الدول الأوروبية مقابل جزية صغيرة، ما أدى إلى فقدان جزء كبير من أراضي المملكة لصالح التجار الأوروبيين الذين كانوا مدعومين بشكل مباشر من دولهم.
ومع مرور الوقت، بنى البرتغاليون العديد من المواقع الاستيطانية لتوسيع سلطتهم على هذه المنطقة الغنية بالعبيد، الذين أصبحوا أساس المستوطنات الجديدة في المحيط الأطلسي.
ومثّل مؤتمر برلين المنعقد بين عامي 1884 و1885، نقطة التحول الأبرز في تاريخ مملكة الكونغو، حين قسمت القوى الأوروبية معظم إفريقيا الوسطى فيما بينها، وحصلت البرتغال على نصيب الأسد مما تبقى من مملكة الكونغو، كما احتلت بلجيكا جزءًا مهمًا من المملكة، وأسس ملكها ليوبولد الثاني دولة الكونغو الحرة وحكمها.
لم تكن البرتغال قادرة على احتلال المملكة فعليًا، لكن الملك بيدرو الخامس الذي استمر في الحكم حتى وفاته عام 1891 أقسم على الولاء للبرتغال، وهو أول ملك يفعل ذلك على الإطلاق، بهدف الحصول على مساعدة البرتغاليين في صراعه مع منافسيه على الحكم.
في عام 1914، اندلعت ثورة في الكونغو ضد الحكم البرتغالي، لكن البرتغاليين استغلوا هذا التمرد لإعلان إلغاء مملكة الكونغو التي كان حاكمها مانويل الثالث، وبإلغائها أنهت البرتغال الحكم المحلي واستبدلته بالحكم الاستعماري المباشر.
ورغم استمرار سلسلة من الملوك الفخريين في استخدام اللقب حتى عام 1964، فإن السيادة الحقيقية كانت قد انتهت، فقد كان هدف البرتغاليين، وكذلك القوى الأوروبية الأخرى، السيطرة المباشرة على الموارد الطبيعية والعمالة والإنتاج في الكونغو، ولتحقيق ذلك ارتكبوا مجازر عديدة بحق الأهالي الذين قاوموا هذا الاحتلال بشدة بعدما تكشف لهم هدفه الاستغلالي والطبيعة الوحشية للاحتلال.
في عام 1986، ظهرت طائفة تحمل اسم “بوندو ديا كونغو” بقيادة “ني مواندا نسيمي”، وهي حركة سياسية ودينية تزعم أنها تسعى إلى الدفاع عن حقوق ومصالح شعب الكونغو وحمايتها، وتطمح إلى استعادة الملكية القديمة في الأراضي التي كانت تشكل مملكة الكونغو.
هذه الطموحات شملت أجزاءً من جمهورية الكونغو الديمقراطية، والكونغو برازافيل، وأنغولا، والغابون. كما دعت الحركة إلى مغادرة من هم من عرقيات أخرى لإقليم الكونغو المركزي، ما أدخلها وزعيمها في صراع متواصل مع السلطات الكونغولية.