في قرارٍ متوقع، أعلن رئيس محكمة العدل الدولية، القاضي نواف سلام، مساء أمس الجمعة، أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 غير شرعي، وعلى “إسرائيل” إنهاء وجودها والتوقف عن أنشطة الاستيطان فورًا، وإخلاء المستوطنات القائمة، كما أكد القرار اعتبار “إسرائيل” قوة احتلال لا يحق لها تهجير السكان واحتجاز ممتلكاتهم والسيطرة على مواردهم، أو تغيير الوضع الديمغرافي بتوطين مواطنيها، بل وألزمها بتقديم تعويض للأشخاص المتضررين من وجودها.
القرار التاريخي لمحكمة العدل الممثلة لأعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، لا يُعد ملزمًا، لأنه جاء في إطار “الاستشارة” التي وافقت هيئة المحكمة على تقديمها بشأن الآثار القانونية الناجمة عن انتهاك الاحتلال الإسرائيلي حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بناءً على طلبٍ سابق من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2022.
واستعانت المحكمة بإفادات قدمتها 49 دولةً ضمن منظومة الأمم المتحدة إضافةً لمنظماتٍ دولية للوصول إلى ردٍ متكامل، ويمثّل تأكيدًا متجددًا على عدم شرعية الاحتلال واستيطانه، كما أنه تعبيرٌ صارخ عن المأزق القانوني والدولي المتزايد الذي تعيشه “إسرائيل” في خضم حربها على قطاع غزة وتواصل تجاهله والاستعلاء عليه بتصريح رئيس وزرائها نتنياهو ردًا على القرار بالقول: “لا يمكن الطعن في شرعية المستوطنات الإسرائيلية”.
كان القاضي سلام قد أشار في قرار المحكمة – الذي اتخذ بموافقة 11 قاضيًا من أصل 15 – أن “إسرائيل” تواصل بوجودها المستمر في المناطق الفلسطينية تخليها عن التزاماتها في معاهدة مكافحة التمييز العنصري الموقعة عام 1965، كما أنها تخرق بشكل واضح 6 فقرات من بنود اتفاقية جنيف الرابعة.
حصاة قانونية في مواجهة الضم المتسارع
الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية جاء بعد أقل من يومٍ واحد على تصويتٍ استباقي للكنيست الإسرائيلي على مشروع قرار ينص على رفض إقامة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، حصد الموافقة بأغلبية 68 عضوًا من أصل 120 عدد أعضاء الكنيست، ما اعتُبر رسالة إسرائيلية واضحة عن رفض حل الدولتين والانسحاب من الأراضي الفلسطينية والاعتراف المتواتر بدولةٍ فلسطينية على حدود عام 1967، من كل من النرويج وأيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا وأرمينيا.
لكنه جاء أيضًا في خضم حملةٍ متسارعة يقودها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، تستهدف ضم الضفة الغربية في انقلابٍ خفي على القانون الدولي الذي يصنف الإدارة العسكرية الإسرائيلية احتلالًا مؤقتًا، وهو ما كُشف عنه في تسريبٍ مسجل له مطلع يونيو/حزيران المنصرم، حيث أطلق على خطته وصف “تغيير في الحمض النووي للنظام”.
وأشار سموتريتش إلى ما قام به في الأشهر الأخيرة من “تجاوز عقبات القانون الدولي” بنقل السلطة من القيادة العسكرية إلى إدارة مدنية للمستوطنين تقع تحت سلطته، ناهيك بقراراته بمنع البناء الفلسطيني في مناطق “ج”، وشرعنةٍ متزايدة للبؤر الاستيطانية، وزيادة القضم من أراضي الضفة لصالح الاحتلال تحت مسمى أراضي دولة وطرق التفافية استيطانية، وسحب صلاحيات تنفيذية من السلطة الفلسطينية في مناطق “ب”، مبررًا خطواته بالقول: “أردنا أن يكون من الأسهل ابتلاعها في السياق السياسي والقانوني”.
القرار يعيد الفلسطينيين إلى مرابعهم الأولى قبيل أوسلو وتقسيماتها المجحفة للأرض الفلسطينية “أ، ب، ج”، ويمنحهم الحق في المطالبة قانونيًا وسياسيًا بدولة فلسطينية على “وحدة إقليمية واحدة”
اللافت أن ردود الفعل الإسرائيلية على قرار محكمة العدل الدولية جاءت موحدةً لتوجهات قادتها في الحكومة والمعارضة على حدٍ سواء، وانعكاسًا لاصطفافٍ حالي ومستقبلي ضد الوجود الفلسطيني الرسمي ويؤيد استمرار خطوات الضم.
إذ كان غانتس وكتلته النيابية “معسكر الدولة” جزءًا أساسيًا من الأغلبية الموافقة على قرار الكنيست الرافض لإقامة دولةٍ فلسطينية، ليعزز موقفه بإعلان رفضه لقرار محكمة العدل الدولية معتبرًا أنه “دليل على التدخل الخارجي الذي يضر بالأمن والاستقرار في المنطقة”، ومشددًا على مواصلة “حماية دولة إسرائيل باعتبارها الوطن الوحيد للشعب اليهودي”.
وفي ضوء هذا التكافل السياسي الإسرائيلي، فمن المستبعد جدًا أن يحقق القرار أي تأثيرٍ فعلي على الأرض أو في أروقة السياسة، في الزمن الحاضر أو مستقبلًا، في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو القدس الشرقية على حدٍ سواء، لا سيما أن سياسة الضم الإسرائيلية ليست وليدة الحكومة الحالية، إنما هي جزء من مخططات استراتيجية بدأت بُعيد حرب 1967، وترسخت في خطة إيغال آلون 1967 وخطة ليبرمان 2004، مرورًا بالوعد الأمريكي الذي قدمه ترامب في رسالةٍ سرية منه إلى بنيامين نتنياهو في 2020 تعهد فيها بتأييد الضم، وصولًا إلى خطط سموتريتش 2023.
كما أن العقلية الإسرائيلية شديدة الاستعانة بالحروب والأزمات والتقلبات السياسية لتنفيذ مرامها، ومهيأة للمزيد من الضم والرعونة الدولية مستترة بدخان الحرب الحالية على قطاع غزة، وفظاظة ترامب المتعالية على جميع النصوص القانونية والشرائع الدولية.
قرارٌ تاريخي على الرف الفلسطيني
على صعيدٍ فلسطيني، فإن القرار يعيد الفلسطينيين إلى مرابعهم الأولى قبيل أوسلو وتقسيماتها المجحفة للأرض الفلسطينية “أ، ب، ج”، ويمنحهم الحق في المطالبة قانونيًا وسياسيًا بدولة فلسطينية على “وحدة إقليمية واحدة”، بل ويؤكد شرعية مقاومتهم للاحتلال ومواجهتهم إجراءاته من هدم ومصادرة واعتقال واعتداءات وقتل، ويفتح الباب على إمكانية مقاضاته دوليًا على جرائمه والمطالبة بتجريمه والتعويض عنها، بل ويضع قيادتهم الحالية ممثلةً بالسلطة الفلسطينية أمام حجر الزاوية في استثمار القرار لصالح الفلسطينيين بدلًا من إهداره، كحال عشرات القرارات الدولية التاريخية السابقة.
يمثل القرار أيضًا فرصة تصالح للسلطة الفلسطينية مع “ذاتها” وفق ما يُفترض بها كقيادة تمثل شعبًا يرزح تحت الاحتلال، بل ويمنحها ما أرادته من دعمٍ دولي وإسنادٍ قانوني للضغط على “إسرائيل” وتصحيح مسار “السلام” بدءًا من أوسلو وطابا وحتى خريطة الطريق وفقًا لمناشدات رئيسها “احمونا”.
كما يتيح القرار لها مزايا الاسترشاد القانوني في إحراج “إسرائيل” ومقاضاتها والدول الداعمة لها في المحافل الدولية، مرورًا بسحب الاعتراف بها وما يرتبط به من إنهاء كل أشكال التواصل و”التنسيق الأمني” معها.
أما إذا اختارت السلطة الاكتفاء بالتهليل والترحيب بالقرار دون أي تحركٍ جدي وجذري، فإنها إذ ذاك تحيل كينونتها تدريجيًا إلى دائرة التجريم بوصفها أداة من أدوات الاحتلال وعونًا له لاستمرار وجوده في المناطق الفلسطينية المحتلة، لا سيما مع ما تمارسه من استهدافٍ ممنهج للعمل المقاوم وللصوت الرافض للاحتلال، ومن تواطؤ متواصل مع الضم بدءًا بتوافقها على تقسيم الأرض الفلسطينية في أوسلو، وانتهاءًا بخضوعها لإملاءات المحتل وابتزاز ما تتحصل عليه طبقتها الحاكمة من امتيازات اقتصادية وسياسية واجتماعية تخشى زوالها بزوال الاحتلال.
أما على الصعيد العربي فإن القرار إصبعٌ في عين الدول العربية المطبعة التي لا ترى حرجًا في الاتفاق مع الاحتلال سياسيًا واقتصاديًا على حساب الفلسطينيين، بل إن الرد الإسرائيلي عليه تأكيدٌ للمؤكد باستحالة موافقة الاحتلال على أي شكلٍ من أشكال الوجود الرسمي الفلسطيني، وبأن التطبيع ليس تسويةً وإنما هو تصفية للقضية الفلسطينية وانحراف للبوصلة العربية عن العدو الأول والأخير.
على المستوى العالمي فإن القرار ولا ريب سيمنح زخمًا مضاعفًا للحراك الدولي المناهض للاحتلال الإسرائيلي وحربه على قطاع غزة، وسيضاعف رصيد المقاطعة بأنواعها المختلفة ومنها: الاقتصادية والأكاديمية والشعبية، حيث سيشدد الخناق على بضائع المستوطنات الإسرائيلية، وسيضفي شرعية متزايدة على مقاطعة المعاهد والكليات والجامعات المرتبطة بها، وسيشجع المزيد من دول العالم على فرض عقوبات على كيانات المستوطنين ومجموعاتهم ومؤسساتهم.
ميزة القرار في “الميدان والوقت”، فهو ينتصر للأسير الفلسطيني باعتباره “أسير حرب” وليس “مجرمًا جنائيًا أو سجينًا أمنيًا”، وينتصر للأرض الفلسطينية حين يؤكد أنها محتلة وليست إسرائيلية
بالمحصلة، فإن قرار محكمة العدل الدولية مهمٌ ولا يمكن تجاهله، والاعتداد بعدم إلزاميته باعتباره رأيًا استشاريًا لن يقلل من قيمته كمرجعية قانونية مساندة في أي دعوى تُرفع ضد الاحتلال من جديد، والإشارة إلى عدم ارتباطه بالحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة 2023-2024 لا يفصله عن الواقع الفلسطيني قيد أنملة، وغياب آليات تطبيقٍ معه أو تجاهل مجلس الأمن له لا يعني العجز عن الاستفادة منه والتراجع عن استثماره.
لكن هذا بأكمله مرتبطٌ بالفلسطينيين أنفسهم وبقدرتهم على التعلم من تجارب الماضي، ومن كم القرارات والمفاصل القانونية التي كانت لتخدم القضية الفلسطينية وتدعمها، لكن السلطة الفلسطينية أحالتها إلى أدراج النسيان، بدءًا بالرأي الاستشاري الخاص بالجدار العنصري الفاصل للأراضي الفلسطينية 2004، مرورًا ببعثة تقصي الحقائق وتقرير جولدستون 2009، وقرار الجمعية العامة باعتبار فلسطين دولة مراقبة غير عضو 2012، وقرار الجمعية العامة باعتبار فلسطين دولة في الأمم المتحدة 2024، وحكم محكمة العدل الدولية الخاص بالتدابير المؤقتة لمنع الإبادة 2024، وغيرها من القرارات والأحكام التي تجاهلتها السلطة ولم تسع للاستفادة منها خوفًا من الاحتلال وطمعًا في الفُتات من امتيازاته.
لكن واقع الحال اليوم والعدد المهول من ضحايا الإبادة الجماعية على قطاع غزة الذي جاوز الـ39 ألف فلسطيني، والسياسة الإسرائيلية المغترة بقوتها وبالدعم الأمريكي والتواطؤ العربي، ستضع السلطة الفلسطينية – في حال قررت تجاهل القرار – في مواجهةٍ مع شعبها تبدأ بإعادة هيكلة السلطة وقد لا تنتهي إلا بتأسيس سلطة بديلة محققة لمطلبهم في تقرير مصيرهم وإنهاء احتلالهم وتجريم قاتلهم ومقاضاته.
القرار على تاريخيته ليس الأول الذي ينصف الفلسطيني ويزج بالاحتلال في زنزانة القانون، ولن يكون الأخير، لكن ميزته “الميدان والوقت”.
فهو ينتصر للأسير الفلسطيني باعتباره “أسير حرب” وليس “مجرمًا جنائيًا أو سجينًا أمنيًا”، وينتصر للأرض الفلسطينية حين يؤكد أنها محتلة وليست إسرائيلية، وأن كل اجتياح ومصادرة وهدم هو انتهاكٌ واحتلال لن يتغير وسمه باستمراره وتكراره، وينتصر للقدس وسكانها ومقدساتها حين يعيدها عاصمةً للفلسطينيين بعدما افترسها ترامب منهم.
وينتصر للمقاومة باعتبارها ردة فعل طبيعية وحقًا من حقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال تنتصر به على عدوها وتستعيد به حريتها، وينتصر للفلسطينيين جميعًا في هذا الوقت الذي تخلى فيه العالم أجمع عنهم وتركهم فرائس القصف والتشريد والجوع والعطش والمرض.
بإمكان القرار أن يفعل شيئًا، لا بل وأشياء، لكن حتى العصى السحرية لا تفعل شيئًا إن لم تجد من يحركها!