ارتفعت حصيلة الاحتجاجات التي تشهدها بنغلاديش منذ الأول من يوليو/تموز الجاري إلى 105 قتلى، فيما أصيب العشرات من الطلاب والمدنيين جراء المواجهات العنيفة مع رجال الشرطة، بحسب إحصاء وكالة “فرانس برس”، ما دفع الحكومة لفرض حظر تجوال كامل وقطع الإنترنت ونشر الجيش للمساعدة في استعادة الأمن.
واندلعت تلك الاحتجاجات تنديدًا بنظام المحاصصة في الوظائف الحكومية الذي يمنح أكثر من ثلث الوظائف تقريبًا لأبناء المحاربين القدامى في حرب الاستقلال، الأمر الذي اعتبره الطلاب مخلًا بمعايير العدالة ومهددًا لمستقبلهم الوظيفي، ما أسفر في النهاية عن مواجهات دامية بين الطلاب والمدنيين المعارضين لهذا النظام من جانب والشرطة والجيش وأنصار حزب “رابطة عوامي” من جانب آخر.
وتتصاعد حدة المواجهات بين الطلاب وقوات الأمن وأنصار الحزب الحاكم، بعد انضمام منتسبي الجامعات الحكومية والخاصة وفئات أخرى من المدنيين للاحتجاج، في أعقاب رفض رئيسة الحكومة الشيخة حسينة واجد الاستجابة لمطالب المحتجين بإنهاء نظام المحاصصة، وسط انفتاح المشهد على كل السيناريوهات.. فإلى أين تذهب الأمور في بنغلاديش؟
نظام المحاصصة.. ما القصة؟
– منذ تولي الشيخة حسينة، ابنة الشيخ مجيب الرحمن، الذي قاد استقلال بنغلادش عن باكستان 1971، رئاسة الحكومة عام 2009 اُقرّ نظام الحصص وجرى تخصيص ثلث الوظائف الحكومية تقريبًا لأبناء قدامى المحاربين في حرب التحرير ضد باكستان، وهو القانون الذي أثار غضبًا شعبيًا متزايدًا عامًا بعد الآخر.
– أول يناير/كانون الثاني 2018.. اضطرت الحكومة لإصدار تعميم يلغي نظام المحاصصة وتفضيل أبناء المحاربين، استجابة لمطالب ما عُرف بـ”حركة إصلاح الحصص”، حيث شهدت البلاد احتجاجات عارمة دفعت رئيسة الحكومة لإعادة النظر في هذا القانون.
– 6 يناير/كانون الثاني 2018.. أصدرت المحكمة العليا في بنغلاديش قرارًا يشير إلى أن التعميم الحكومي الصادر في أول يناير/كانون الثاني بإلغاء الحصص للمقاتلين من أجل الحرية وأحفادهم كان غير قانوني، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات جديدة تنديدًا بهذا الحكم، لكن أجهزة الأمن تعاملت معها بقوة، ما أدى إلى تجميد الفعاليات الشعبية حتى إشعار آخر.
– يونيو/حزيران 2024.. بدأت الدعوات على منصات التواصل الاجتماعي تتصاعد لإحياء الاحتجاجات مرة أخرى بعدما ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب، حيث كانت البداية بالعاصمة دكا، لكن سرعان ما تراجع زخم تلك الاحتجاجات بسبب عيد الأضحى والعطلة الصيفية.
– أول يوليو/تموز 2024.. عادت الاحتجاجات للشارع مرة أخرى، لكن هذه المرة بشكل أعنف وأكثر زخمًا، حيث شارك فيها العديد من الجامعات الحكومية والخاصة وعدد من المدارس والجهات الحكومية، تزامن ذلك مع تحرك قانوني لإلغاء حكم المحكمة العليا.
– 10 يوليو/تموز 2024.. أصدرت محكمة الاستئناف حكمًا بتأييد حكم المحكمة العليا وإبقاء الوضع على ما هو عليه، ما تسبب في إشعال الموقف وزيادة الغضب الشعبي وانضمام فئات جديدة للاحتجاجات التي عمت الكثير من مدن الدولة.
– 14 يوليو/تموز 2024.. أصدرت رئيسة الوزراء، الشيخة حسينة واجد، بيانًا هددت فيه المتسببين في عمليات القتل والنهب وأعمال العنف بالملاحقة والحساب، دون أن تحدد هوية المقصود بهذا الوعيد، بل شبهت المشاركين في تلك الاحتجاجات بالخونة الذين قدموا المساعدات للجيش الباكستاني خلال حربه مع بنغلاديش عام 1971، ما أدى إلى زيادة درجة حرارة المشهد الذي وصل إلى الغليان، وفي النهاية سقط 105 قتلى وأصيب المئات من المدنيين ورجال الشرطة.
تعزيز سلطة حسينة
تهدف تلك الاحتجاجات التي اندلعت والمستمرة لقرابة 6 سنوات، منذ 2018 وحتى اليوم، وإن تأرجحت بين الصعود والخفوت، إلى إنهاء نظام المحاصصة، واعتماد نظام جديد يجعل التعيين في الوظائف الحكومية على أساس الكفاءة والجدارة وأن يُمنح الجميع الفرص المتساوية في الالتحاق بتلك الوظائف التي باتت حلمًا لمعظم الشباب في ظل تزايد معدلات البطالة خلال الآونة الأخيرة.
المعارضون يرون أن هذا النظام يخدم رغبة الشيخة حسينة التي تحكم البلاد منذ 2009 في فرض سيطرتها الكاملة على الدولة وعسكرتها بشكل ممنهج، وتوظيف كل المؤسسات لتعزيز قبضتها على السلطة من خلال تعيين الموالين لها في الوظائف الحكومية، فيما يتهمها حقوقيون بالرغبة في القضاء على كل المعارضة لتعزيز سلطتها.
الخبير في شؤون بنغلادش في جامعة أوسلو، مبشر حسن، يقول في حديث لوكالة “فرانس برس”، إن المتظاهرين “يحتجون على الطبيعة القمعية للدولة، ويشككون في قيادة حسينة ويتهمونها بالتمسك بالسلطة عنوة”، فيما يصف أستاذ السياسة في جامعة إلينوي علي رياض تلك الاحتجاجات بأنها “فورة السخط الكامن بين الشباب الذي تراكم على مر السنين بسبب حرمانهم من حقوقهم الاقتصادية والسياسية”، وتابع: “أصبحت حصص التوظيف رمزًا لنظام مزيف”.
وقد شهدت معدلات البطالة ارتفاعًا ملحوظًا خلال الأعوام الثلاث الأخيرة مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك، حيث هناك أكثر من 32 مليون شاب عاطل عن العمل (من إجمالي 170 مليون نسمة عدد السكان الكلي) بخلاف عمل شريحة ليست بالقليلة في وظائف لا تلبي الحد الأدنى من مقومات الحياة، بحسب وكالة “رويترز”.
طفرة اقتصادية ولكن..
شغلت الشيخة حسينة منصب رئيسة وزراء بنغلاديش 5 فترات (الأطول حكمًا كرئيس وزراء في العالم)، الأولى كانت ولاية واحدة من 1996 – 2001 قبل أن يُمنى حزبها “رابطة عوامي” بهزيمة في انتخابات 2001 بعد فوزه بـ60 مقعدًا فقط في مجلس النواب مقابل 200 مقعد لغريمه الحزب الوطني البنغالي، ثم 4 فترات متتالية منذ عام 2009 إلى عام 2024.
حققت حسينة خلال فترة حكمها طفرة هائلة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي تحديدًا، تفوقت بها على نمور آسيا، حيث تراجعت معدلات الفقر من 31.5% إلى 20.5%، كما ارتفع متوسط نمو الناتج المحلي السنوي الإجمالي في المتوسط بنسبة 7% ووصل إلى ذروته عام 2021 حين وصل إلى 8%، وأصبحت بنغلاديش من بين أسرع 5 اقتصادات نموًا في العالم، كما احتلت المرتبة 41 من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
ويرجع البعض تلك الطفرة إلى اهتمام حسينة وحكوماتها بالتعليم والمرأة، حيث وصل عدد الأطفال الذين أكملوا تعليمهم الابتدائي إلى 98% مقارنة بـ30% أوائل الثمانينيات، كما شهدت المرأة في عصرها تقدمًا ملحوظًا، حيث تفوقت على الرجل في نسب التعليم ومحو الأمية، لتتحول المرأة البنغالية من أكثر نساء العالم فقرًا إلى رائدات أعمال كان لهن دورهن الملموس في نهضة البلاد.
كما أوكل للمرأة هناك بإدارة مصانع الملابس، لتتحول بنغلاديش إلى أكبر مصدر للملابس في العالم بعد الصين، بخلاف دورهن الواضح في المنظمات الخيرية والإنسانية ومساعدتهن في حملات تطعيم الأطفال والترويج للمراحيض وتعليم القرويين والحد من زواج الأطفال.
لكن في المقابل، كانت القبضة الأمنية الوجه القبيح لتلك التجربة، حيث اتُهمت رئيسة الحكومة طيلة فترات حكمها الممتدة لقرابة 20 عامًا بتزوير الانتخابات وقمع المعارضة وتعزيز هيمنتها على الساحة، ما دفع المعارضة لإعلان انسحابها من الانتخابات أكثر من مرة.
وفي الانتخابات العامة التي جرت في يناير/كانون الثاني 2024 التي بموجبها بدأت حسينة ولايتها الخامسة كرئيسة للحكومة، اتهمها الحزب الوطني البنغالي المعارض باستهداف أنصاره، لافتًا إلى أنه خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى بداية الانتخابات اعتُقل أكثر من 20 ألف من قادة الحزب وأعضائه وأنصاره، من أجل التمهيد لحسم الماراثون لصالحها مبكرًا دون منافسة.
وخلال السنوات الأخيرة ومنذ جائحة كورونا وما شهده العالم من أزمات اقتصادية طاحنة، تعرضت بنغلاديش لهزات قاسية، ساهمت في ارتفاع معدلات البطالة وتراجع المستوى المعيشي وانخفاض معدلات النمو، الأمر الذي أثار غضب الشارع لا سيما أن الحكومة بدأت في محاباة أنصار رئيسة الوزراء وتعيينهم ومنحهم الامتيازات المعيشية، ما أجج مشاعر الاحتقان والتمييز لدى عامة الشعب الذي انتفض مطالبًا بالعدالة وتوحيد المعايير.
المشهد مفتوح على السيناريوهات كافة
وصلت الاحتجاجات هذه المرة إلى مستويات غير مسبوقة طيلة السنوات الـ6 الماضية، منذ اندلاعها تنديدًا بنظام المحاصصة عام 2018، حيث غلق الطرق واقتحام السجون وتهريب نزلائها وإحراق عدد من المقار الأمنية والإعلامية والصدام العنيف مع الشرطة، الأمر الذي ينذر باحتراب أهلي، خاصة بعد نزول أنصار الحزب الحاكم للشارع والصدام مع المعارضين.
وأمام هذا المشهد الملتهب هناك 3 سيناريوهات محورية أمام الشيخة حسينة للتعامل مع تلك الاحتجاجات المتصاعدة، لا سيما بعد إصرار المحتجين على الاستمرار في فعالياتهم حتى تحقيق مطالبهم:
الأول: الاستجابة لمطالب المحتجين وإلغاء نظام المحاصصة، وهنا قد تفقد رئيسة الوزراء جزءًا من حاضنتها الشعبية المتمثلة في القاعدة الجماهيرية لحزب “رابطة عوامي” الحاكم، كونه المستفيد الأول من هذا النظام الذي يلبي طموحات أبنائه وأحفاده في التوظيف الحكومي الذي تحول إلى حلم للجميع في السنوات الأخيرة.
الثاني: الاستمرار في العناد ورفض مطالب المحتجين، الأمر الذي قد ينذر بمزيد من التصعيد خاصة بعد سقوط 105 قتلى وأضعافهم من المصابين، وهو التصعيد الذي من المتوقع أن يُدخل البلاد في نفق من الدماء والأشلاء ويضع المجتمع على حافة حرب أهلية، المعارضون المؤججون برغبات الثأر لإخوانهم من جانب، وأنصار الحزب الحاكم والمؤسسة الأمنية بشقيها، الشرطي والعسكري، المدافعون عن مكاسبهم، من جانب آخر.
الثالث: مسك العصا من المنتصف، وامتصاص غضب الثائرين، من خلال عدة خطوات منها اعتذار الشيخة حسينة للمحتجين عن سقوط قتلى، والتعهد بملاحقة المتورطين ومحاسبتهم، واستمالتهم من خلال التعهد بإعادة النظر في نظام المحاصصة، بما يلبي طموحات المعارضين، كأن يتم تخفيض نسبة الوظائف، أو أن تكون هناك ضوابط وشروط أكثر تعقيدًا، تحقيقًا لمبدأ تكافؤ الفرص وترسيخ العدالة بين الجميع.
وفي الأخير فإن المشهد الراهن في بنغلاديش وحالة الفوضى التي تخيم على الأجواء تفتح الباب على مصراعيه أمام السيناريوهات كافة، فهل تنجح الشيخ حسينة في استدعاء إرث أبيها، مؤسس بنغلاديش ورئيسها السابق، الشيخ مجيب الرحمن، لتبريد نار الاحتجاجات بمناهضتها للظلم الذي عانت منه سابقًا، ونصرتها للعدالة المنشودة، أم سيقودها طموحها اللامتناهي واستبدادها إلى إدخال البلاد في نفق من الصعب التكهن بمآلاته؟