يندمج الأطفال في بداية سنوات حياتهم في عالم الخيال المليء بالشخصيات الخارقة والأحداث المزيفة والمعجزات المستحيلة، وغالبًا ما تكون معتقداتهم الخيالية في ذروتها خلال مرحلة ما قبل المدرسة، بسبب جميع برامج الكرتون والقصص والدمى التي تعج مرحلة الطفولة، وذلك إلى أن يبدأ هذا التفكير السحري بالتلاشي مع أولى خطوات التعلم المنهجي والدخول إلى عالم المنطق وقوانينه.
يقول أينشتاين بأن “الخيال أكثر أهمية من المعرفة”، فلا شك أن قيود التفكير المنطقي قد تغلق الباب أمام سيل الاحتمالات والأسئلة التي يغرق فيها عقل الطفل، وبذلك تصد جميع الأفكار الإبداعية والخلاقة، لذلك شجعت بعض الدراسات العلمية على عدم الاستهانة بخيال الأطفال وما ينتج عنه من سلوكيات وتعبيرات.
ماذا قال الخبراء عن التفكير السحري لدى الأطفال؟
اعتقد العلماء بأن الخيال وسيلة الأطفال للهروب من ضغوط الواقع وهيمنة الأسرة، ولذلك يلجأ إلى التعامل مع الأصدقاء الخياليين والدمى ويصدق المعجزات والأحداث المستحيلة، أو لأغراض المتعة والتسلية، فلم تتلقى هذه الأنشطة أي أهمية قيمة، وأشار الخبراء إلى ضرورة تجنب الأفكار الخيالية لتنتج أجيال واعية وناضجة فكريًا.
ولكن في الآونة الأخيرة، أدرك الباحثون بأن هذه الممارسات الخيالية تلعب دورًا بالغ الأهمية في مساعدة الطفل على فهم الواقع والتعلم والتعرف على الآخرين والأحداث التي جرت وتجري من حوله، ولا شك بأنها بمثابة بوابته نحو المستقبل والتي تسمح له اختيار هويته ومهنته المستقبلية، كما وجدوا بأن الأطفال يعيدون تمثيل الأحداث التي تخفيهم أو تجذب انتباههم، وهذه الأفعال قد تكون خير دليل للوالدين عند تربية طفلهم.
لاحظ العلماء بأن الأطفال المصابين بالتوحد لا يشاركون في ألعاب الأدوار التمثيلية، وهذا ينبه إلى وجود ضعف اجتماعي لديهم وخلل في التواصل مع الآخرين
ولفهم هذه السلوكيات بشكل أدق، قامت عالمة النفس، جاكلين وولي، في جامعة تكساس بدراسة هذا الجانب الخيالي في حياة الطفل لتعرف على قدرته في التمييز بين ما هو واقعي أو خيالي وقدرته على ملاحظة الإشارات التي تدل على ذلك، وبالتالي فهم طبيعة الأطفال الذين يعانون من التوحد أو تأخر النمو، فمثلًا لاحظ العلماء بأن الأطفال المصابين بالتوحد لا يشاركون في ألعاب تقمص الشخصيات الأخرى -سواء الحقيقة أو الخيالية- أو الأدوار التمثيلية، وهذا ينبه إلى وجود ضعف اجتماعي لديهم وخلل في التواصل مع الآخرين.
جمعت الخبيرة وولي نحو 91 طفلًا وسألتهم ما إذا كان بابا نويل وعامل النظافة شخصيات حقيقة أم لا، ليجيب 70% من الأطفال في سن الثالثة بأن بابا نويل شخصية حقيقية، وبالمقابل أجاب 78% من الأطفال في سن الخامسة بأن عامل النظافة شخص حقيقي، بينما اعتقد 83% من الأطفال في سن السابعة بأن بابا نويل حقيقي، وفي سن التاسعة اعتقد الثلث فقط بوجود سانتا كلوز، في حين اتفق الجميع على أن عامل النظافة هو شخص واقعي.
هذه النتائج المثيرة للاهتمام، ساقت أستاذة وولي إلى سؤال آخر وهو ما سبب تصديق الأطفال ببابا نويل في سن السابعة رغم امتلاكهم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي أو لا منذ سن الثالثة؟، لتكون الإجابة بأن بالرغم من الأطفال في هذا العمر يفهمون معنى حقيقي وما هو ليس كذلك، إلا أنه يمكن تضليلهم بسهولة عبر الكلمات المقنعة التي يستخدمها الكبار، وأشارت وولي إلى جانب مهم في الدراسة، وهو أن غالبية الأطفال كانوا مسيحيين، وقد تكون معتقداتهم الدينية زادت من تمسكهم بهذه الشخصية، ولو أجريت هذه الدراسة على مجموعة ذات خلفية دينية مغايرة لربما انخفض عدد المؤمنين بوجود بابا نويل.
في تجربة أخرى هدفها تتبع الإشارات الأكثر إقناعًا لأفكار الأطفال، جمعت الدكتورة وولي 44 طفلًا وأخبرتهم عن شخصية باسم “ساحرة الحلوى” وهي سيدة لطيفة تأتي في العيد لتقديم الألعاب لهم وعرضت صورتها أيضًا للأطفال، فكانت النتائج بأن حوالي ثلثي الأطفال اقتنعوا بواقعية هذه الشخصية وخاصة الأطفال الذين زارتهم الساحرة فيما بعد.
من المهم متابعة الوالدين لأحاديث الطفل مع المخلوقات الخيالية للتعرف على مشاعره وأفكاره
المثير للاهتمام بأن الأطفال الأكبر سنًا عن غيرهم، وهم بعمر خمس سنوات، كانوا أكثر تصديقًا من الأطفال الذين كان عمرهم 3 سنوات، وبذلك، يتضح دور الدلائل والكلمات في إقناع الطفل وتضليله حول الواقع أو الوهم بالرغم من سنه أو نموه الإدراكي.
بناء على هذه التجارب، أشارت وولي إلى أهمية التفكير السحري لدى الأطفال وما يرتبط به من صفات وتنبؤات حول سلوكيات الطفل، فعلى سبيل المثال، يتميز الأطفال الذي يملكون خيالًا واسعًا بقدرة كبيرة على الإبداع والابتكار، عدا عن الذكاء الاجتماعي وما يلحقه من قدرة على استيعاب أفكار الآخرين وظروفهم، إضافة إلى إمكانية استخدام أصدقاء الأطفال الخياليين لمساعدتهم على مواجهة الضغوط، فقدرة الطفل على اقتباس شخصيات أخرى والتظاهر هو مصدر قوة لهم، وأداة إلهام للتفكير وطرح الأسئلة والاكتشاف.
وفي ذات الوقت، نبهت من إفراط الطفل في العالم الخيالي، لإن ذلك قد يمنعه من تقبل الواقع أو يخلق منه شخصًا مضطرب اجتماعي، كما من المهم متابعة الوالدين لأحاديث الطفل مع المخلوقات الخيالية للتعرف على مشاعره وأفكاره.
كيف يساعد الخيال الطفل على التعلم؟
نشرت عالمة النفس، دينا ويسبيرج، دراسة تضم 154 طفلًا من إحدى رياض الأطفال ذات الدخل المنخفض، وعلى مدى أسبوعين، قرأ لنفصهم الفريق الباحث قصصًا واقعية حول الطبخ والزراعة، وقرأ للنصف الآخر كتبًا خيالية تحتوي على قصص التنانين والقلاع، وأثناء القراءة، تعلم الأطفال مفردات وكلمات جديدة، وعقب كل جلسة سمح للأطفال باللعب مع الدمي وتأدية الأدوار التمثيلية التي وجدت في القصص المقروءة، واختبر الفريق معرفة الأطفال بالكلمات الجديدة فبل البرنامج وبعده لقياس ما اكتسبوه من هذه الفعالية.
الخيال فرصة الأطفال ليكسبوا بصيرة فريدة تلهمهم على إيجاد حلولًا أفضل، فالقليل من الخيال في المواد التعليمية قد يكون له آثار عميقة على الأطفال.
وانتهت النتائج على أن تعلم كلا الفريقين المفردات الجديدة، وكان الفرق أن الأطفال الذين استمعوا إلى قصص الخيال كانوا أكثر قدرة على شرح معانيها من الذين سمعوا قصصًا واقعية، وهذا يعبر عن نمو في المهارات اللغوية لدى المجموعة التي تعرضت للحكايات الخيالية، وقد يكون هذا حل لمحاربة العجز اللغوي بين الأطفال، وأوضحت الباحثة ويسبيرج بأن الخيال فرصة الأطفال ليكسبوا بصيرة فريدة تلهمهم على إيجاد حلولًا أفضل، فالقليل من الخيال في المواد التعليمية قد يكون له آثار عميقة على الأطفال.