ترجمة وتحرير: نون بوست
التقيت أنا ورفيقي في فصل الربيع في سراييفو، أو سراي بوسنة بالتركية وتعني قصر أو بلاط البوسنة. كانت المدينة ذات يوم تمثّل أقصى الحدود الغربية التي وصلت إليها الإمبراطورية العثمانية في القرن الرابع عشر، تاركةً وراءها العديد من العلامات المألوفة – الأذان في المساجد، والنوافير المتدفقة في الساحات، وعددًا لا يحصى من التقاليد الصوفية – مما يجعلها نافذة فريدة على التاريخ الإسلامي في أوروبا.
واليوم، تستحضر البوسنة أيضًا ذكريات أسوأ إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. في التقارير الأخيرة، يعتبرها حلف الناتو من بين “الشركاء المعرضين للخطر” مع ازدياد تدخّل موسكو في شؤونها منذ غزو روسيا لأوكرانيا في سنة 2022.
تاريخ البوسنة وجغرافيتها السياسية مألوفة بالنسبة لي، فبعد أن شهدتُ الحرب والنزوح خلال طفولتي غير المستقرة – بين الجزائر ولبنان وسوريا والسعودية – عندما كانت عائلتي تحاول الصمود في مواجهة الحرب والركود الاقتصادي، أردت أن أرى كيف يمكن أن تبدو دولة تواجه تحديات موازية لتحديات الشرق الأوسط في أوروبا.
بينما كنت أهم بالنزول من سيارة أجرة المطار بالقرب من الفندق الذي أنزل فيه في المدينة القديمة، لاحظت الضوء الأصفر الخفيف المنبعث من مصباح الشارع المرصوف بالحصى، الذي علِق لفترة وجيزة في عجلة حقيبتي. استحوذ المشهد على سحر العالم القديم الذي ذكّرني بأماكن عثمانية أخرى مثل حلب التي دمّرتها الحرب السورية التي استمرت 13 سنة، وفكرتُ في أن سراييفو ربما تكون مثالًا لمكان ضاع في الحرب والحصار يجد طريقه للعودة من حافة الهاوية على الرغم من أنه يواجه تصدعات داخلية تفسح المجال للاستغلال الأجنبي.
كنا لا نزال في شهر رمضان خلال فترة تواجدنا هناك، وبمجرد أن جلسنا على طاولة لشخصين في الخارج، سمعنا صوت مدفع الإفطار التقليدي من بعيد، وهو مدفع ناعم أيقوني لا يزال منتشرًا في جميع أنحاء الأراضي العثمانية السابقة. ووفقًا لبيانات التعداد السكاني، فإن نصف البوسنيين تقريبًا مسلمون بينما ثلثهم من الصرب المسيحيين الأرثوذكس و15 بالمائة من الكروات الكاثوليك.
تزامنت زيارتنا أيضًا مع الذكرى السنوية لحصار سراييفو سيء السمعة، الذي بدأ بعد شهر تقريبًا من إعلان البوسنة والهرسك – إحدى الجمهوريات الست المنبثقة عن تفكك يوغوسلافيا – استقلالها في آذار/مارس 1992 في استفتاء أوصت به المجموعة الأوروبية. صوّت البوشناق – وهي تسمية يشير بها المسلمون البوسنيون إلى أنفسهم – والكروات لصالح الاستقلال، بينما عارض القوميون الصرب الاستقلال وقاطعوا التصويت مستائين من فكرة أن يصبحوا أقلية في البوسنة والهرسك التي تشكلت حديثًا.
بدت هذه الانقسامات مألوفةً، فالأشخاص الذين وُلِدوا من أمة واحدة ويتحدثون لغة واحدة يتصورون أنفسهم منفصلين عن بعضهم البعض، ومنحازين بشكل مريح لثقافة بلد أجنبي أكثر من أبناء بلدهم. في البوسنة والهرسك، يعتبر القوميون الصرب في البلاد أنفسهم على أنهم امتداد لدولة صربيا، الحليف الروسي القديم، ويشيرون إلى البوشناق بصيغة التحقير، ويطلقون عليهم اسم “الأتراك”. (وقد شكّل القوميون الصرب لاحقًا جمهورية صرب البوسنة، كاستمرار لحزبهم العسكري الذي تم دمجه في الاتفاق الثلاثي بين البوشناق والكروات والصرب في البلاد في اتفاقات دايتون التي استضافها الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون في أوهايو سنة 1995. ولا تزال جمهورية صرب البوسنة اليوم كيانًا انفصاليًا).
وفي سنة 1992، رغم التطهير العرقي الذي بدأ في الشمال، ظلّت الاحتجاجات في العاصمة سراييفو سلميةً حتى وقوع هجوم قاتل في 5 نيسان/أبريل. كان ذلك اليوم يتوافق مع عطلة نهاية الأسبوع التي تُحيي ذكرى تحرير سراييفو من ألمانيا النازية واليوم الذي كان من المقرر أن يدخل فيه استقلال البوسنة والهرسك حيز التنفيذ، كما أنه كان اليوم الأول من عيد الفطر، في عطلة لمدة ثلاثة أيام تُقام فيها الولائم والاحتفالات مع الأحباء. بدلاً من ذلك، قُتلت امرأتان بنيران قناصة في شارع لا يبعد كثيرًا عن المكان الذي كنت أتناول فيه أنا ورفيقي إفطارنا. وقد تم تخليد ذكراهما بصورة في معرض دائم في متحف الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. كانتا متعانقتين، وقد حاولتا الاحتماء ببعضهما البعض من الرصاص. واليوم، يتم تذكرهما كأول ضحايا الحصار، وهي نقطة حزينة لرحيل السلام المفترض.
ما أعقب موتهما كان ثلاث سنوات وعشرة أشهر من الحصار – أي أطول بسنةٍ من حصار لينينغراد – مما جعله لفترة من الزمن أطول حصار في العصر الحديث لعاصمة حتى حصار الغوطة (دمشق) الذي انتهى في سنة 2018 بعد خمس سنوات وأسبوع واحد.
وبعد أن كنت شاهدًا بشكل شخصي على حصار الغوطة، ومع اطلاعي على حصار سراييفو، نشأت عندي ألفة مهووسة. فالوحشية البشرية لها وجه متجانس بغض النظر عن السياق، وفي كلا الحصارين كانت هناك أزقة للقناصة حيث كان الأجداد والأمهات والأطفال يركضون للنجاة بحياتهم، وأحيانًا كان ذووهم الذين يعودون إلى جثثهم التي سقطت، يصابون ويقتلون أيضًا بنيران القناصة. كانت هناك عائلات جائعة تصطف في طوابير الخبز تنتظر دون أن تحصل على دورها، وقصفت الصواريخ منازل الناس، وحوّلت المباني السكنية إلى هياكل من الخرسانة المحطمة والفولاذ الملتوي الذي يكشف عن حياة الناس التي توقفت.
كانت الأعمال البطولية التي قام بها أشخاص عاديون مألوفة أيضًا. فقد قرأت قصة عن إسلام دوغوم داخل متحف الإبادة الجماعية في سراييفو، وهو عداء ماراثون محلي غادر سراييفو عدة مرات خلال الحرب وشارك في مسابقات دولية مختلفة، بما في ذلك ألعاب البحر الأبيض المتوسط، حاملاً علم البوسنة والهرسك. وخلال هذه الرحلات، كان يتواصل مع اللاجئين والمنفيين من بلده ويجمع المساعدات ليعود بها إلى سراييفو ويهرّبها عبر نفق الأمل الذي بُني في الأشهر الأولى من الحصار وظل الطريق الوحيد للدخول إلى المدينة أو الخروج منها حتى نهاية الحرب. وجد دوغوم نفسه من بين أكثر أبناء بلده امتيازًا بحكم قدرته على السفر، فخدم مواطنيه من خلال العمل في التهريب.
إنها قصة مألوفة للملايين على مدار العقود الأخيرة في العديد من الصراعات، إذ يجد المدنيون العاديون أنفسهم مضطرين لتهريب كل ما يحتاجونه من أدوية وأغذية وأموال على متن سياراتهم لأحبائهم العالقين في أوطانهم والذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدة، بغض النظر عن مخاطر هذا النقل. أنا الآن شاهد على أصدقاء يفعلون ذلك لمساعدة أحبائهم العالقين في غزة، كما فعلت أنا مع أحبائي خلال الحرب في سوريا.
من أكثر التفاصيل المؤسفة التي صادفتني في حصار سراييفو الوجود المروّع الموثق “للسياح الذين يصطادون البشر”، وهو مصطلح مرعب صاغه المخرج السينمائي ميران زوبانيتش في فيلمه الوثائقي “رحلات سفاري سراييفو”، حيث زعم أن الأجانب الأثرياء كانوا يدفعون أموالاً مقابل إطلاق النار على الناس في سراييفو المحاصرة، وكان أحد هؤلاء “السائحين” هو الكاتب الروسي الراحل إدوارد ليمونوف، وهو منشق سوفييتي هاجر إلى الولايات المتحدة، ثم عاد إلى روسيا في سنة 1991 وأسس حزبًا قوميًا متطرفًا. ورغم أنه من غير الواضح ما إذا كان قد دفع ثمن هذه الفرصة الدنيئة، إلا أنه تم تصويره في موقع إطلاق نار صربي في 22 حزيران/يونيو 1992، وهو يقبل دعوة من الزعيم الصربي البوسني رادوفان كارادزيتش لإطلاق النار من مدفع رشاش، مصوّبًا إياه على شوارع سراييفو في الأسفل حيث أطلق عدة رصاصات، وتوقف لفترة وجيزة للسماح لكارادزيتش بضبط حامل المدفع ثلاثي القوائم قبل أن يواصل المهمة. توقفت عيناي على التلفاز الذي كان يعرض هذه اللقطات في حلقة متكررة داخل متحف الإبادة الجماعية، وحاولت أن أفهم لماذا – وكيف – يمكن لزميل كاتب يتطلب عمله تنمية الحساسية تجاه الحالة الإنسانية، أن يقسو بسهولة ليقتل بدم بارد.
أجد أن الحرب تقلب المجتمع رأسًا على عقب، ليس فقط من خلال آثار الدمار التي تتركها، وإنما أيضًا من خلال دفع ما يبقى في العادة خفيًا إلى السطح، مثل العاصفة التي تجرف الوحل من مجرى النهر. يجد المرء في هذا الوحل العلة الأخلاقية للمجتمع، والأجزاء الخفية والدنيئة من الطبيعة البشرية التي يدفعها العنف والكوارث إلى السطح. ويمكن للحرب أيضًا أن تبرز أفضل ما في الإنسانية. خلال الحرب في سوريا، رأيت كلا الأمرين في كل مكان نظرت إليه تقريبًا: رأيت أناسًا يعانون من الجوع تحت الحصار يتقاسمون الطعام القليل الذي بحوزتهم مع الآخرين، وأناس لم يكن لديهم سبب وجيه للكراهية صوّبوا سلاحهم وقتلوا أناسًا غرباء. ذات مرة رأيت مسلحًا مجنونًا يصوّب سلاحه نصف الآلي ويطلق النار على حمار لم يفعل شيئًا. وفي مرة أخرى كنت عالقًا في زحمة السير خلف شاحنة محملة بأفراد ميليشيا مسلحين عندما لاحظت أحدهم يصوّب بندقيته نحوي من مكان جلوسه على سرير الشاحنة، وهو يحدق في وجهي مبتسمًا بخبث. ربما كان يأمل أن يرى في عيني من وراء نظارتي الشمسية أي شعور مريض بالقوة كان يشعر به، لحسن الحظ، تحركت حركة المرور وصرف انتباهه شيء آخر.
استأجرت أنا ورفيقي سيارة وقدناها عبر الطرق الخلفية، وتوقفنا مرارًا للتنزه في الغابات التي كانت نقية وجميلة في جميع أنحاء البوسنة. كانت الصنابير العامة توفر المياه النقية من الجداول، ومن حولنا كانت هناك مزارع صغيرة تملكها عائلات تربي الخراف والنحل، ولم تكن حرارة الصيف قد حلت بعد، لذا بدا كل شيء مثاليًا في ظاهره.
لكن أحد الجوانب المذهلة في قيادة السيارة عبر البوسنة والهرسك هو ترسيم حدود الأراضي من قبل جمهورية صرب البوسنة الانفصالية، وقد رأينا هذا الأمر كثيرًا: علم جمهورية صرب البوسنة (الذي يشبه العلم الروسي) المرفوع على سارية فوق نصب تذكاري للحرب الصربية أو ساحة عامة يمكن رؤيته عند دخولنا إلى إحدى البلدات معلناً عن الأراضي التي تسيطر عليها جمهورية صرب البوسنة. وتواصل هذه الأراضي، التي تشغل جزءًا كبيرًا من المناطق الشمالية والجنوبية الشرقية من البوسنة والهرسك، زرع هوية متميزة ومنفصلة غارقة في القومية الصربية، وتدرّس مناهجها الخاصة بها في المدارس، بما في ذلك روايتها للحرب والحصار، والتي تنكر فيها إلى حد كبير الجرائم التي ارتكبت باسم الصرب.
تسعى صربيا إلى توحيد مناهجها المدرسية مع مناهج جمهورية صرب البوسنة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الوضع المحفوف بالمخاطر بالفعل للأمة الصربية المدعومة من روسيا داخل دولة البوسنة والهرسك، وهي الدولة التي تأمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ذات يوم. (مع ذلك، يقول العديد من السكان المحليين إن هذا الهدف نبيل للغاية نظرا للبنية السياسية والاقتصادية الصعبة لبلادهم، حتى من دون تعقيد وجود دويلة داخل الدولة). وحتى اللافتات التي تحمل أسماء المدن على جانب الطريق تكشف عن ساحة معركة منخفضة المستوى من أجل تقسيمات إقليمية، مع كتابات على الجدران التهجئة السيريلية أو اللاتينية للمدينة. وتستخدم البوسنة والهرسك الحروف اللاتينية بينما تستخدم صربيا وجمهورية صرب البوسنة السيريلية، على الرغم من أن كلاهما، وكذلك الكروات، يتحدثان نفس اللغة السلافية، وإن كان بلهجات مختلفة قليلاً.
ذكّرتني هذه الانقسامات، إلى جانب الحكومة الفاسدة ومتعددة الطوائف، بالوضع في لبنان حيث فشلت السلطات أيضًا في توحيد المناهج المدرسية التي تُدرّس السرد الوطني. ومن خلال إحالة رواية تاريخ البلاد وحربها الأهلية إلى أهواء الرواة الطائفيين، يظل الوعد بنشوب صراع طائفي آخر في الأفق على الدوام. ويبدو أن هذا هو الحال أيضاً في البوسنة والهرسك.
في 24 أيار/ مايو، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إنشاء يوم سنوي لإحياء ذكرى مذبحة سريبرينيتسا، ما أثار استياء زعيم صربيا وصرب البوسنة ميلوراد دوديك، الذي سارع إلى عقد مؤتمر صحفي وأعلن أنه “لم تكن هناك إبادة جماعية في سريبرينيتسا”. وقالت ياسمين مويانوفيتش، عالمة سياسية ومؤلفة كتاب “البوشناق: أمة بعد الإبادة الجماعية”، لصحيفة نيو لاينز إنه ردا على تصويت الجمعية العامة، شوهدت قوات الشرطة الخاصة للجمهورية الاشتراكية الصربية منتشرة حول سربرينيتسا في استعراض للقوة. وأضافت: “من الواضح جدًا أن المقصود من ذلك هو محاولة تخويف ومضايقة وإرهاب السكان المحليين فيما يتعلق بالتصويت في الأمم المتحدة”. وأضافت مويانوفيتش أن هناك “تصاعدا مثيرا للقلق في الهجمات” ضد البوشناق العائدين إلى منازلهم في الأجزاء الشمالية والشرقية التي يديرها الصرب من البوسنة والهرسك، بعد طردهم خلال الحرب. بشكل عام، تدهور الوضع اليومي لمجتمع البوشناق في أجزاء من جمهورية صرب البوسنة وتنتشر ثقافة الخوف حيث تصاعد خطاب دوديك وسياساته خلال العام ونصف العام الماضيين”.
بينما كانت زيارتنا للبوسنة والهرسك تقترب من نهايتها، حان الوقت أخيرًا لنشهد على سربرنيتسا. لقد ذهبت إلى أماكن أخرى حيث ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وحيث لم يتحقق سوى قدر ضئيل من العدالة والمصالحة، وحيث تظل هناك حقيقة مروعة غير معترف بها وتعتبر مجرد “رأي” اعتمادًا على “الجانب الذي تقف فيه” أو حقيقة مفادها أن لا أحد يجرؤ على النطق.
في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قمت بزيارة مدينة حماة السورية. حدث ذلك بعد سنوات قليلة من المذبحة الشائنة التي ارتكبها نظام الأسد سنة 1982 ضد انتفاضة محلية، مما أسفر عن مقتل جماعي لأكثر من 20 ألف شخص، بما في ذلك، كما هو معتاد في أعمال الإبادة الجماعية، عائلات بأكملها. وأكثر ما أذهلني في المكان، عندما كنت أسير في شوارعه، هو مدى حذر الناس ومدى ترددهم في استقبال شخص غريب وكيف اختلف سلوكهم المشبوه عن حسن الضيافة في أماكن أخرى من البلاد.
أتذكر أحد جوانب حماة التي كانت تقشعر لها الأبدان بشكل خاص: عندما وجدت نفسي أسير فوق تلة محاطة ببناء جديد نسبيًا. كان موقع المقبرة الجماعية حيث قام النظام بإلقاء جثث القتلى بعد القتل الجماعي، ثم غطاها بالتراب وقام ببناء موقف للسيارات. إن الصمت الذي أعقب ذلك، وغياب الاحتجاجات الدولية دون عواقب لمرتكبي الجرائم أو تحقيق العدالة للضحايا، كان معلقا بثقله في الهواء.
واليوم في سوريا، والعديد من البلدات في العراق ولبنان وأماكن أخرى في المنطقة، ناهيك عن الحرب المستمرة في غزة، أصبحت حماة مجرد واحدة من بين العديد من الأماكن الحزينة. وتساءلت: هل سيطارد هذا الشعور سريبرينيتسا أيضًا؟
كان من المستحيل تفويت زيارة النصب التذكاري للإبادة الجماعية في سريبرينيتسا على جانب الطريق عند اقترابنا من المدينة، حيث يوجد أكثر من 6000 قبر محدّد، بما في ذلك عدد قليل من القبور الجديدة. ومع استمرار العثور على قبور غير مميزة في جميع أنحاء البلاد، يتم استخراج الرفات والتعرف عليها قبل إعادة دفنها في المقبرة التذكارية. وصادف أنه كان ثاني أيام عيد الفطر عندما وجدنا أنفسنا هناك أنا ورفيقي. ومن حولنا، كان هناك سيل مستمر من العائلات تتوافد لزيارة أحبائهم الموتى، كما هو معتاد في العيد عند العديد من المسلمين، لأنه كما هو الحال دائمًا، يكون الموت أصعب على الأحياء.
على الجانب الآخر من الشارع، كانت هناك مباني مهجورة كانت تؤوي قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة، حيث انكشفت بشكل مأساوي واحدة من إخفاقات المجتمع الدولي العديدة. في الساعات الأولى من يوم 6 تموز/ يوليو 1995، هاجمت القوات الصربية سريبرينيتسا وقوات حفظ السلام الهولندية (الكتيبة الهولندية) المتمركزة هناك كجزء من قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة.
خلال الأيام القليلة التالية، سقطت القرى المحيطة ببلدة سريبرينيتسا وموقع الأمم المتحدة في أيدي القوات الصربية، على الرغم من طلبات الكتيبة الهولندية المتكرّرة للحصول على الدعم من الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي – وهو الدعم الذي لم يأتِ قط لأسباب لا تزال غير واضحة. ومع تشديد القوات الصربية حصارها للمنطقة، فرّ البوشناق سيرًا على الأقدام، وشقّوا طريقهم إلى مدينة سريبرينيتسا التي سقطت في أيدي الصرب في الحادي عشر من تموز/ يوليو من تلك السنة. ولم تخف القوات الصربية نواياها، ولا طبيعة الصراع طويل الأمد لهذا الصراع.
أعلن الجنرال الصربي البوسني راتكو ملاديتش لدى دخوله المدينة التي صنفتها الأمم المتحدة منطقة آمنة: “لقد حان الوقت للانتقام من الأتراك هنا”. وكان ملاديتش يشير إلى معركة كوسوفو، حيث هزم العثمانيون أميرًا صربيًا سنة 1389. تبع ذلك المزيد من النزوح. وشكّل الرجال والفتيان البوسنيون طابورًا وانطلقوا إلى الغابة، بهدف عبور الأراضي الصربية إلى الأراضي البوسنية والهرسك الآمنة. وبدأ نحو 30 ألف امرأة وطفل ومسن التحرك نحو مجمع الأمم المتحدة بحثًا عن ملاذ ومساعدات إنسانية.
حاول الجنود الهولنديون المساعدة فقاموا بفتح فتحة في سياج مجمعهم للسماح بدخول أكبر عدد ممكن من اللاجئين، وهو عدد لم يكن كثيرًا، نظرًا للمساحة المحدودة والمراحيض الفائضة وتضاؤل الإمدادات الغذائية والطبية. لقد استمروا في طلب الدعم من المجتمع الدولي – عمليات الإنزال الجوي للمساعدات الإنسانية والغطاء الجوي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي لم يأتِ أبدًا. (مؤخرا اعتذرت الحكومة الهولندية للمحاربين القدامى في الكتيبة الهولندية، واعترفت بأنهم أُرسلوا في مهمة “ثبت في نهاية المطاف أنها مستحيلة التنفيذ”، مع خذلان العالم لضحايا الإبادة الجماعية في سربرينيتسا “بأبشع طريقة”.
وهناك لقطات لملاديتش وهو يخاطب اللاجئين، ويعدهم بعدم تعرض أي منهم للأذى لأنهم كانوا على وشك أن يتم نقلهم (قسرا) في حافلات خارج الأراضي الصربية – وهي الوعود التي لم يكن لديه أي نية للوفاء بها. واقترح أن يذهب النساء والأطفال أولاً، من أجل الفروسية، كما أشار ضمنًا. ولكن في الواقع، كان لديه خطط أخرى للرجال. بدأت حافلات الإخلاء في الوصول، ومع وقوف قوات حفظ السلام التابعة للكتيبة الهولندية، بدأ الصرب فصل الرجال والفتيان عن بقية اللاجئين. كما أسر الصرب الآلاف من الرجال والفتيان البوسنيين من الطابور الذي انطلق سيرًا على الأقدام إلى الغابة.
على امتداد الأيام القليلة التالية، أعدمت القوات الصربية بشكل منهجي وبدم بارد نحو 8000 رجل وصبي بوسني. لقد فعلوا ذلك في المروج والمزارع العسكرية وفي المباني المدرسية المهجورة وداخل المراكز الثقافية السابقة. وروى الناجون في وقت لاحق قصصهم المرعبة خلال شهاداتهم في لاهاي.
تمكنت أنا ورفيقي من دخول المجمّع المهجور تقريبًا، والمغلق أمام الجمهور، وسرنا عبر بعض مبانيه غير السليمة التي ظلت قائمة دون تغيير منذ الحرب. داخل أحد المستودعات، برزت حفرة مربعة داكنة مملوءة بالمياه في الأرضية الخرسانية الناعمة ولكن القذرة. كان هناك حيوان بحجم خنزير يطفو على سطحه، منتفخ وميت منذ فترة غير معروفة من الوقت. لقد بدا ذلك كناية مناسبة عن الفظائع التي شهدها هذا المكان، الفظائع التي عجزت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة عن منعها.
بينما تستمر البوسنة والهرسك في مواجهة إنكار الإبادة الجماعية، والخلافة بين الفصائل، والتدخل الأجنبي المتزايد، ماذا يخبئ المستقبل؟ هل هي دولة فاشلة مثل بعض الدول التي كنت أعتبرها موطني ذات يوم؟ لقد طرحت هذا السؤال على بيتر ليبمان، مؤلّف كتاب “النجاة من السلام: النضال من أجل التعافي بعد الحرب في البوسنة والهرسك”. وأجاب قائلا: “الإجابة المختصرة هي أن البوسنة والهرسك هي شكل خاص من أشكال الدولة المختلة التي يحكمها ساسة محليّون فاسدون في ظل التمكين الكامل من المسؤولين الدوليين”. وأضاف ليبمان أن البلاد لا تزال “في شكل ما بعد الحرب ولم تتح لها الفرصة بعد لتكون دولة، لذلك لا يمكن أن تكون دولة فاشلة بالتعريف الكلاسيكي”.
ربما يعبر أحد المشاعر التي لاحظناها أنا ورفيقي أثناء التنزه عن المزاج العام السائد في البلاد. وجاء ذلك ردًا على تساؤل السائحين بصوت عالٍ، باللغة الإنجليزية، عما إذا كان بإمكانهم ركن سياراتهم بالقرب من بداية الطريق فأتى شرطي وقال “نعم، نعم، لا بأس” ثم تعطيه 10 قروش. وأكد لهم رجل محلي في منتصف العمر بضحكة مكتومة “هذه البوسنة. إنه الغرب المتوحش”. وكان ذلك أيضًا مألوفًا.
المصدر: نيولاينز