بعد مضي 3 أعوام على اتخاذ السودان قرار المشاركة مع التحالف العربي بقيادة السعودية في عملية عاصفة الحزم لقتال الحوثيين باليمن، تصاعدت الدعوات إلى سحب القوات السودانية من العملية المثيرة الجدل خاصةً بعد تفاقم الخسائر في صفوف الجنود السودانيين وآخرها مقتل العشرات منهم في كمينٍ نصبه الحوثيون قرب مدينة ميدي في شمال غرب اليمن، كما نقلت وكالات الأنباء فجر الخميس السابع من أبريل/ نيسان الحالي.
وتقول التفاصيل إن الحوثيين استدرجوا الجنود السودانيين إلى صحراء “ميدي” ثم زادوا على ذلك بإطلاق صاروخ باليستي ما أدى إلى مقتل 100 جندي على الأقل.
أغلب السودانيين مع سحب القوات فورًا من اليمن
الفاجعة الأخيرة لم تكن كسابقاتها، حيث خلّفت غضبًا شديدًا في أوساط السواد الأعظم من الشعب السوداني وأظهر استطلاع أنشأته إحدى الصفحات على موقع فيسبوك أن نحو 90% من السودانيين يؤيدون سحب القوات من اليمن وبشكل فوري.
استبيان قامت به أحد الصفحات السودانية شارك فيه حوالي 1500 شخص
وفي الوقت الذي أحجم فيه حلفاء المملكة عن المشاركة بقواتٍ برية، أعلنت حكومة السودان استعدادها للدفع بقوات لدعم هذه العملية، ووصلت في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2015 الدفعة الأولى منها إلى ميناء عدن.
لم يشأ الرئيس السوداني عمر البشير أن يُعلن حجم قواته الحقيقي بل صرّح بأنها “محدودة ورمزية ولن تتجاوز حدود لواء من المشاة“. لكن وزير الإعلام قال فيما بعد إن الحكومة أرسلت نحو 6000 جندي، وتشير تقديرات غير رسمية أن العدد الحقيقي للقوات السودانية المشاركة في حرب اليمن يقترب من 10000 جندي ينتشرون في جنوب اليمن وغربه في المخا ومعظم هذه القوات من مليشيا “الدعم السريع” التي استعانت بها الحكومة السودانية سابقًا في قتال الحركات المسلحة بإقليم دارفور المضطرب.
والقرار الذي اتخذه عمر البشير بشأن إرسال القوات إلى اليمن، وجد امتعاضًا شديدًا من سودانيين كُثُر في الداخل والخارج، خصوصًا أن البشير اتخذ القرار بمفرده من العاصمة السعودية الرياض وليس من داخل السودان، مما دفع البعض للحديث عن وجود صفقة سرية بموجبها يرسل السودان قوات لمحاربة الحوثيين وأنصار الرئيس اليمني السابق علي صالح مقابل تقديم دعمٍ ماليٍّ ينقذ الخزينة السودانية التي تعاني الإفلاس وانعدام النقد الأجنبي منذ انفصال الجنوب عام 2011 وضياع عائدات البترول.
وما زاد الطين بلة أنه ومنذ دخول الجنود السودانيين للأراضي اليمنية في مارس/ آذار 2015 وحتي اليوم تتكتم وزارة الدفاع السودانية عن أخبارهم وترفض نشر الحقائق عن مستجدات العملية التي طالت دون جدوى. فالقوات المسلحة السودانية تتكتم على أعداد الجنود المشاركين في عاصفة الحزم ناهيك عن أعداد القتلى والجرحى.
تصاعدت أواخر العام الماضي وتيرة المطالبات من سياسيين وبرلمانيين سودانيين بالانسحاب من اليمن
المرة الوحيدة التي أعلن فيها السودان رسميًا خسائر جنوده، كانت في أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، حيث اعترف قائد ما يعرف بقوات “الدعم السريع” الفريق محمد حمدان حميدتي، خلال حوارٍ أجرته معه صحيفة “الجريدة” السودانية، بحجم خسائر القوات السودانية المشاركة في التحالف الذي تقوده الرياض في اليمن وقال إن 412 من القوات السودانية بينهم 14 ضابطًا، قتلوا، خلال المعارك في اليمن، فيما لم يحدد حميدتي، عدد الجرحى، إلا أنه من المتوقع أن يكونوا أضعاف أعداد القتلى.
ولكن البعض شكّك في دقة الأرقام التي ذكرها قائد الدعم السريع، ووُصفت خطوة الإعلان عن القتلى السودانيين بأنها أقرب إلى تلويحٍ بالانسحاب، أو تعبير عن التذمر وعدم الرغبة بالبقاء في الحرب اليمنية.
وتصاعدت أواخر العام الماضي وتيرة المطالبات من سياسيين وبرلمانيين سودانيين بالانسحاب من اليمن . وتحولت المطالبات إلى قضية رأي عام تضغط على الحكومة، خصوصاً مع تواتر أنباء عن تململ في صفوف الجنود السودانيين هناك وعن خلافات بينهم وبين الإماراتيين في الجنوب وفي جبهة المخا الساحلية التي شاركت فيها القوات السودانية بفعالية، خلال العام الماضي.
أسباب المشاركة
تتعدد الأسباب التي دفعت الرئيس السوداني إلى إعلانه المفاجئ بمشاركة القوات المسلحة في حرب اليمن، ويمكن تلخيص أبرز الأسباب فيما يلي:
اقتصاديًا، يرجح أن البشير وُعد بمساعداتٍ اقتصادية ضخمة وعلى ذلك اتخذ القرار المصيري لوحده دون أن يُعرض على البرلمان ولا حتى الحزب الحاكم. أما من الناحية السياسية، كان السودان بحاجة إلى دعم حليف كالمملكة للمساعدة في رفع العقوبات الأمريكية المفروضة منذ 20 عامًا، ورفع اسم البلاد من قائمة الدول الداعمة للإرهاب.
ربط السودان المشاركة في حرب اليمن بأسباب عقائدية
وربما شجّع البشير على اتخاذه قرار المشاركة في حرب اليمن أن الخرطوم قطعت علاقتها الدبلوماسية الوثيقة مع إيران بصورة مفاجئة مطلع العام 2016 بقرارٍ فردي من الرئيس بناءً على توصية مدير مكتبه السابق طه عثمان دون الرجوع إلى وزارة الخارجية وذلك تضامنًا مع خطوة السعودية التي اتخذت القرار نفسه. وقبل ذلك بعامين قامت السلطات السودانية بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في الخرطوم، بحجة أنها تجاوزت التفويض الممنوح لها كمراكز ثقافية.
جدير بالذكر أن السعودية كانت قد منعت عبور طائرة البشير عام 2013 عندما كان في طريقه إلى العاصمة الإيرانية طهران للمشاركة في تنصيب الرئيس حسن روحاني، ولكن الرئاسة السودانية ابتلعت الإهانة ولم تحتج حتى باستدعاء سفير المملكة على الأقل.
دينيًا، ربط السودان المشاركة في حرب اليمن بأسباب عقائدية، حيث أعلن الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني قبل 3 أعوام، أن مشاركة بلاده تأتي لأجل حماية الحرمين والسعودية من عدوان إيران ولدعم الشرعية اليمنية. وأكملت السلطات السعودية هذا السيناريو فحين يُقتل الجنود السودانيون تقوم المملكة بدفنهم في مقبرة البقيع الشهيرة في المدينة المنورة ويشهد جمع من السودانيين المقيمين هناك تشييع جثامين مواطنيهم، ونلفت إلى أن الرئيس البشير زار قبور بعض منهم في يونيو/ حزيران 2017.
تحالفات متناقضة بينما تقاتل القوات السودانية في تحالفٍ يضم دولة الإمارات، فإن الأخيرة تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا الذي يهاجم النظام السوداني ويتوعده بالتدخل العسكري، كما يتحالف الرئيس السوداني مع السعودية قائدة التحالف وهي التي تراجعت عن اتفاق سابق يتعلق بالحدود البحرية بين السودان والمملكة إذ أقرّت اتفاقية “تيران وصنافير” الموقعة بين الرياض والقاهرة مصرية مثلث حلايب المتنازع عليه بين السودان ومصر، الأمر الذي دعا وزير الخارجية السوداني “المقال” إبراهيم غندور إلى طرح فكرة لجوء بلاده لتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة.
حرص الرئيس البشير على الاحتفاظ بعلاقاتٍ وثيقة مع إسطنبول فمنح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حق إدارة جزيرة سواكن على ساحل البحر الأحمر رغم انتقادات السعودية والإمارات ومصر.
وتفيد تسريبات بأن البشير كان قد طلب من السعودية الوفاء بالتزاماتها المالية التي بَنَى عليها المشاركة في حرب اليمن، لكن ولي العهد محمد بن سلمان طالبه في المقابل بقطع العلاقات مع قطر وهو القرار الذي رفض الرئيس السوداني اتخاذه، إذ إن الدوحة كانت الداعم الوحيد لنظامه طيلة السنوات الماضية إلى جانب إيران التي تكفلت بالدعم العسكري والسياسي.
كما حرص الرئيس البشير على الاحتفاظ بعلاقاتٍ وثيقة مع إسطنبول فمنح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حق إدارة جزيرة سواكن على ساحل البحر الأحمر رغم انتقادات السعودية والإمارات ومصر. ولا ننسى الإشارة إلى أن حكومة عمر البشير اتهمت من قبل السعودية بالتورط في دعم متمردي جنوب السودان بقيادة الراحل جون قرنق في مطلع تسعينيات القرن الماضي .
مكالمة ابن سلمان هل أوقفت سحب القوات السودانية؟
عقب المجزرة الأخيرة التي راح ضحيتها ما يفوق ال100 جندي سوداني، أوشكت حكومة البشير على إصدار قرار بسحب القوات من اليمن استجابةً للغضبة الشعبية الواسعة خاصة وأن الفضائيات ووسائل الإعلام التي يسيطر عليها الحوثيون، بالإضافة إلى وسائل إعلام أخرى مقربة من إيران أخذت تصف الجنود السودانيين “بالمرتزقة”.
حتى إن قادة أحزاب سياسية تعالت أصواتهم مؤخرًا للمطالبة بسحب الجيش، ومنهم غازي صلاح الدين رئيس حركة الإصلاح، الذي قال لفرانس برس “الناس يسألون عن الفائدة التي حصلنا عليها من قرار (إرسال قوات الى اليمن) لكنهم لا يحصلون على إجابة“.
على الأرجح أن مكالمة محمد بن سلمان لعبت دورًا في الإبقاء على القوة السودانية ولو لفترة مؤقتة
واعتبرصلاح الدين أن “لا هدف سياسيًا واضحًا وراء هذا القرار، لافتًا إلى أنه كان يتطلب موافقة البرلمان “وهذا لم يحدث“
وفي هذه الأثناء تلقى الرئيس البشير اتصالًا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالتزامن مع إعلان وزارة الدفاع السودانية، عن استمرار مشاركة قواتها ضمن قوات التحالف العربي الذي تقوده السعودية في حرب اليمن.
لنتوقف قليلًا عند التطورات الأخيرة، من النادر أن يجري ولي العهد السعودي بنفسه اتصالًا مباشرًا مع قادة الدول خاصةً دولة فقيرة مثل السودان، لولا أن هناك حدث جلل تطلب ذلك، وقد أفصحت وكالة الأنباء السودانية أن ابن سلمان والبشير اتفقا على عقد لقاء ضمن جلسات القمة العربية التي استضافتها مدينة الظهران السعودية وهو ما تم بالفعل.
على الأرجح أن مكالمة محمد بن سلمان لعبت دورًا في الإبقاء على القوة السودانية ولو لفترة مؤقتة فهناك العديد من الأنباء التي تتواتر عن قرب استعانة أبوظبي بقواتٍ أوغندية كبديلٍ في حالة سحب السودان لقواته .
تهديدات حوثية وتذمر قادة عسكريين وقانونيين في السودان
ذكرنا أن مكالمة ابن سلمان مع البشير ربما تكون لعبت دورًا في الإبقاء على القوات السودانية أو تأجيل سحبها على الأقل، إذ إن مصادر نون بوست تؤكد وجود حالة تذمر غير مسبوقة في صفوف قادة القوات المسلحة السودانية، فقبل فترة صرّح اللواء “متقاعد” المعز عتباني لموقع (الجزيرة نت) بأنه “يجب سحب القوات السودانية اليوم قبل الغد، ليس لصالح إيران وإنما لصالح السودان بكل المقاييس الوطنية والسياسية, كما أنه ليس ذلك الغرض الذي يجعل من الجيش السوداني مستمرًا في الحرب باليمن“ .
على الصعيد القانوني، تقدم المحامي عمرو بن العاص محي الدين بعريضةٍ إلى المحكمة الدستورية ضد قرار إرسال قوات سودانية إلى اليمن
وبعد جلسةٍ مغلقة بالبرلمان السوداني مع وزير الدولة للدفاع علي سالم أُعلن فيها عن استمرار المشاركة في حرب اليمن، تقدّم رئيس شعبة القوات المسلحة بلجنة الأمن والدفاع بالبرلمان الفريق خليل محمد الصادق، استقالته من الشعبة التي ظل يتولاها منذ العام 2015م، ولوح بتقديم استقالته من المجلس الوطني نهائيًا، مبررًا الخطوة بأنها لأسباب خاصة، لكن الرجل يشكو في المجالس الخاصة من تعاظُم دور مليشيات حزبية على حساب القوات المسلحة (الجيش القومي).
ونشير إلى أن القوة التي تقاتل في اليمن معظمها من قوات “الدعم السريع” وهي مليشيات تحتفظ بوضعية خاصة ومنفصلة عن القوات المسلحة النظامية.
اليمنيون أيضًا دخلوا على الخط، فقد هدد العميد شرف لقمان، المتحدث الرسمي باسم القوات المتحالفة مع “أنصار الله”، قائلًا “إن قواته قادرة على ضرب مطار الخرطوم ردًا على مشاركة السودان في التحالف الذي تقوده السعودية باليمن.
وعلى الصعيد القانوني، تقدم المحامي عمرو بن العاص محي الدين بعريضةٍ إلى المحكمة الدستورية ضد قرار إرسال قوات سودانية إلى اليمن. وتلتمس العريضة، التي نُشرت على نطاق واسع في وسائط التواصل الاجتماعي، من المحكمة اعتبار القرار غير دستوري، وبالتالي إعادة القوات إلى السودان وتعويض المتضررين من الشعب اليمني.
هل سيحسب البشير القوات من اليمن؟
دائمًا ما نقول إنه يصعب التكهن بقرارات الرئيس البشير السياسية والأمنية وغيرهما، خاصةً بعدما أقال وزير خارجيته إبراهيم غندور إثر تصريحات مغاضبة للرجل الهادئ، فوجود غندور على رأس الدبلوماسية السودانية كان يشكل توازنًا لمؤسسة الرئاسة رغم تجاوز عمر البشير له عدة مرات وتدخلاته المباشرة في صميم عمل وزارة الخارجية. ولكن الأرجح أن تستمر “ورطة” مشاركة السودان في حرب اليمن رغم الجدل المثار حولها ورغم الكلفة السياسية والأخلاقية للأسباب الآتية:
قد يتخذ عمر البشير قرارًا مفاجئًا في أي وقت بسحب القوات من اليمن تبعًا لتطورات الأحداث وتقلبات السياسة التي لا يستقر لها حال
أولًا، الحرص على الاحتفاظ بالاستثمارات السعودية في السودان والتي تقدر ب11مليار دولار حسب السفير السعودي علي بن حسن جعفر فربما تعمل المملكة على سحبها في حالة اتخاذ قرار مفاجئ بسحب القوات من اليمن.
ثانيًا، لا يزال الرئيس السوداني يأمل في مساعدات اقتصادية مباشرة من الرياض وأبوظبي وربما حصل على تعهدات جديدة من ولي العهد السعودي في زيارته الأخيرة للمملكة والتي استمرّت أسبوعًا كاملًا!
ثالثًا، تنتظر الخرطوم من السعودية مكافأتها بالسعي لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد أن اتضح للأولى أن قرار رفع العقوبات الاقتصادية لم يكن مجديًا في ظل وجود اسم البلاد ضمن قائمة الإرهاب.
وأخيرًا يضع البشير في اعتباره أن القيادة السعودية الحالية قد تتخذ قرارًا متهورًا بطرد ما تبقى من العمالة السودانية داخل المملكة إذا قام بسحب القوات، رغم أن آلاف السودانيين قد عادوا بالفعل من السعودية بعد القرارات الجديدة التي نفّرت الأجانب.
ومع ذلك قد يتخذ عمر البشير قرارًا مفاجئًا في أي وقت بسحب القوات من اليمن تبعًا لتطورات الأحداث وتقلبات السياسة التي لا يستقر لها حال.