أصدرت محكمة العدل الدولية مساء الجمعة الفتوى القانونية الخاصة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، والتي تضم غزة والضفة الغربية بما فيها القدس.
جاءت الفتوى حافلة بالمضامين القانونية التأسيسية، ولكن مع دلالات سياسية مهمة جدًا، وبالطبع مقاربات وقراءات لافتة للقيادة الفلسطينية الرسمية/ السلطة ومنظمة التحرير، والفصائل وتحديدًا حركة حماس، إضافة إلى الحكومة الإسرائيلية والأمم المتحدة والمجتمع الدولي بشكل عام.
بداية؛ تعد محكمة العدل الدولية المؤسسة القانونية الأرفع بالعالم، ورغم أن فتاويها غير ملزمة مؤسساتيًا ورسميًا ولكنها ذات قيمة كبيرة أخلاقيًا وقانونيًا وسياسيًا.
قانونيًا، تضمنت الفتوى أسس وقواعد مهمة جدًا وحتى ذات طابع تاريخي واستراتيجي، على رأسها تأكيد عدم قانونية الاحتلال والوجود الإسرائيلي بالأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها القدس، كما رفض أي تجليات أو وقائع مستدامة ناتجة عنه بما في ذلك الاستيطان.
المحكمة أشارت كذلك الى الفشل في حماية الفلسطينيين باعتبار ذلك مسؤولية الاحتلال، مع فرض قوانين مدنية وعسكرية مجحفة ضدهم، وحقهم في التعويض عن الاحتلال بحد ذاته، وعدم تمكينهم من الاستفادة من ثرواتهم وممتلكاتهم بالأراضي المحتلة.
الفتوى القانونية المهمة كانت إشارة إلى تمييز ذا طابع عنصري من الاحتلال ضد الفلسطينيين دون أن يصل الأمر إلى حد الحديث عن فصل عنصري. لكن مع التأكيد على انتهاك “إسرائيل” واجباتها بموجب معاهدة عدم التمييز العنصري 1965، كما تنص عليها معاهدة حماية المدنيين تحت الاحتلال 1959، وبالطبع معاهدة جنيف الرابعة.
وبناء عليه، دعت المحكمة بوضوح إلى إنهاء الاحتلال، ومطالبة المجتمع الدولي بعدم التعاطي معه، ورفض وجوده بحد ذاته، والوقائع المستدامة بما فيها الاستيطان.
الفتوى تضمنت كذلك الإشارة الى الطابع المستدام للاحتلال ومنع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة باعتباره حق أصيل له وفق المواثيق والقوانين الدولية.
بناء علية جاءت المقاربة وردود الأفعال الفلسطينية من القيادة الرسمية وفصائل المقاومة مرحبة بفتوى المحكمة، التاريخية فعلًا، لتأكيدها على الحقوق الفلسطينية كما يراها الفلسطينيون، بما فيها الحق الأصيل بمقاومة الاحتلال ونزع الشرعية عنه مع مطالبة المجتمع الدولي بتنفيذه، وبالتالي مساعدة الشعب الفلسطيني على نيل حقوقه وتقرير مصيره بنفسه، ويشمل ذلك إقامة دولته كاملة السيادة والاستقلال.
الفتوى وجدت كذلك تأييدًا كبيرًا لامس حدود الاحتفاء من المنظمات الأممية كونها جاءت متطابقة مع مقاربة أو توصيف تلك المنظمات للقضية الفلسطينية وممارسات “إسرائيل” غير الشرعية بالأراضي المحتلة، مع الدعوة أيضًا لترجمته على أرض الوقائع وعدم إبقائه في الخانة التاريخية والنظرية.
أما إسرائيليًا، فشهدنا خطاب دعائي معتاد ومنفصل عن الواقع – هتسوفا، وهو مصطلح باللغة العبرية لا نظير حرفي له بالعربية ولا لغات العالم الحية الأخرى بينما تبدو كلمة وقاحة الأقرب إليه– حيث تهرب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من مواجهة مضامين ودلالات القرار، واندفع نحو الإيديولوجية المنغلقة بالادعاء أن الشعب اليهودي لا يحتل أرضه في انفصام عن استناد “إسرائيل” نفسها في إعلان تأسيسها إلى قرار التقسيم 181 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في تشرين ثاني/ نوفمبر 1947.
إلى ذلك، شهدنا انفلاتًا معتادًا لحلفاء نتنياهو، لا سيما وزيري المالية بتسلئيسل سموترتيش والأمن القومي إيتمار بن غفير وصل إلى حد الدعوة لضم الضفة الغربية كلها وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، واجترار عبارات وجمل منفصلة عن الواقع من قبيل معاداة السامية والعالم يقف ضدنا.
وبالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية الرسمية، ومع دخول عطلة السبت لن تتضح الصورة تجاه الفتوى قبل صباح الأحد، لكن ثمة قلق وخشية من تداعياتها السلبية الهائلة على الدولة العبرية وعلاقاتها الدولية في أبعادها المختلفة، الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، مع اليقين من مضمونه القانوني حتى قبل صدوره، حيث عقد اجتماع لافت ومهم الأربعاء 17 تموز/يوليو بإدارة مجلس الأمن القومي التابع لرئاسة الوزراء ومشاركة الجهات المعنية –وزارات الخارجية والعدل والجيش والمؤسسة الأمنية- أي قبل صدور الفتوى رسميًا بـ48 ساعة تقريبًا، وكانت توقعات عامة بمضمونه القانوني وبلورة خطط للعمل على تطويق تداعياته السلبية الحتمية على الدولة العبرية ومصالحها وعلاقاتها الخارجية.
في الموقف الدولي كان الترحيب عامًا بالفتوى الصادرة عن أعلى مرجعية قضائية في العالم، مع نقاش حول الخطوة القادمة التي حدد معالمها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش عبر حديثه عن نيته النظر بشكل رسمي في كيفية وضع الفتوى موضع التنفيذ.
في السياق الدولي أيضًا، قال أحد المسؤولين الأمميين ذات مرة إن القضية الفلسطينية لن تحل بساحات القضاء والمحاكم على أهميتها، وإنما بساحات الرأي العام. من هنا، فإنّ أهمية ومركزية الفتاوى القانونية الواضحة ضد الاحتلال والمؤيدة للحق الفلسطيني تترسخ بعد الذهاب بها إلى ساحات وميادين الرأي العام العالمية، خاصة بالعواصم والحواضر المؤثرة بالقرار الدولي وطلب حكم الرأي العام والجماهير ومساعدتها لتنفيذ الشرعية الدولية تحديدًا فيما يخص إقامة الدولة الفلسطينية ورفض الاحتلال والتعاطي معه، والسعي لإنهائه عبر المقاطعة والحصار وعزل الدولة العبرية لإجبارها على الانصياع للشرعية الدولية وإرادة الرأي العام المستندة إليها.
إن القيادة الفلسطينية الحالية عاجزة وفاشلة ومنفصلة عن الواقع، وغير قادرة على القيام بالمهام الجسام المطلوبة من الفلسطينيين لاستثمار هذا القرار التاريخي، فقد فرّطت سلطة أوسلو من قبل في فتوى المحكمة الدولية عام 2004 – التاريخية والاستراتيجية حول الجدار الفاصل بالأراضي المحتلة، والتي طالبت بتفكيكه وتعويض المتضررين منه – حيث قبلت القيادة غير الجديرة بتبادل الأراضي مع الاحتلال ما نسف الأسس القانونية الصلبة لفتوى الجدار، وشرعن الاستيطان غير القانوني من جهة أخرى.
أخيرًا، إن هدف تفكيك الاحتلال وروايته وكيانه يحتاج بلا شك إلى صبر ونفس طويل والأهم استراتيجية فلسطينية صلبة ومتماسكة وقابلة للتطبيق، وقيادة توافقية موحدة تعمل على تنفيذها، ضمن أطر ومؤسسات مهنية ذات مصداقية وجدارة تحظى بثقة الأصدقاء والحلفاء ودعمهم.