تبيّن المشاهد التي ينشرها الجنود الإسرائيليون على صفحاتهم بوسائل التواصل الاجتماعي، والتي يزخر بها تطبيق “تيك توك” خاصةً، والمشاهد التي يتم تفرغتها من ذاكرة المسيّرات الإسرائيلية وخوذ الجنود، والصور المسربة من معتقل “سديه تيمان” وغيرها، امتداد التوغل العسكري الإسرائيلي من البرِّ إلى منصات العالم الافتراضي، بحالةٍ مشهدية تعكس فيها فاشيةُ الصور ساديّةَ الجيش وعَدواها في المجتمع الإسرائيلي عامةً، بتجلي مظاهر الانتقام والدفع به حد شرعنته وتطويعه رؤيويًا لتحقيق الاعتياد البصري بوصفه هدفًا من أهداف الاحتلال لحرب الصورة، وأداةً تكرّس هيمنة المستعمِر وتوسع دائرة استهدافاته ومسارحها.
وهو ما يكشف اليوم أكثر عن العقلية الاحتلالية العنيفة، بينما كانت قد اعتادت “إسرائيل” في حروبها السابقة على غزة وفي امتداد سلوك عنفها في كامل الأراضي المحتلّة وفي فضاءات السلطة فيها، شرعنة السلوك الذي تصوره الكاميرات بحجة الانتماء للمقاومة، وفق دعايتها التي تصف كل المدنيينن العزل بإنهم إرهابيون ومقاتلون سلّموا أنفسهم، وتصوير بعض سلوكيات جنودها على أنها حالات فردية.
مسارح رقمية للعنف الإسرائيلي
يوثق جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، بشكلٍ متزايد، كل أفعال إبادتهم الجماعية لقطاع غزة بتنوع أشكالها التي طالت كل مكوناته البشرية والمكانية على صفحاتهم الخاصة على المنصات الإلكترونية، بما يشير إلى حقيقة إدماج النزعة العسكرية في الثقافة الرقمية الإسرائيلية، من خلال إزاحة العنف الإسرائيلي إلى مجال الإنترنت وعسكرة تقنياته، حتّى صارت أداة تنقل (مرئيًا/رقميًا) تجلّيات العنف الصهيوني وتعبيراته الإبادية، بعملية وسعت مسارح العمليات العسكرية وغيرت فهمنا للوظيفة والغايات السياسية للتقنيات الرقمية.
وعلى الرغم من أن فعل التصوير هو أرشفة زمنية للعنف والتعذيب والانتهاك الاستعماري، وأن الصور والفيديوهات هي شهادات توثق سادية الاحتلال رقميًا، لا يمكن إغفال سياسة الاحتلال من وراء غاية النشر من خلال العلاقة الرمزية الصورية بسياق العنف الاستعماري.
إضافة إلى التساؤل عن الحقائق المحجوبة بتجميد الحدث بالتصوير، بمعنى ما الذي يكشفه سياق الصورة باعتبارها جزءًا من الحدث الواقعي الكلي عن ما يجري قبل وبعد ودون عدسة التصوير، فللصورة عنفها وهناك عنف يرسمه مضمونها، تبينه القراءة البصرية لها باعتبارها خطابًا استعماريًا مرئيًا للحرب يخاطب مشاعر وحواس المتلقيين ووعيهم.
شهوانية الكيان للاستباحة
يُبرز نشر الصور وكيفية تفاعل المجتمع الإسرائيلي معها، الإجماع الصهيوني على العنف، وشهوانية الانتقام بوصفها امتدادًا لمزاجٍ إسرائيلي عام يدعمها ويطلبها من خلال تماهي أفراد المجتمع الإسرائيلي مع عنف المؤسسة العسكرية، بما يعكس سادية الكيان وليس جنوده فقط، فهو صورة من صور العنف الصهيوني الذي “مهما تنوعت أشكاله وتجلياته، يمكن القول بأنه جزء عضوي من الظاهرة الصهيونية نفسها“.
وفي حرب الإبادة الحالية تتضح أكثر ذهنية العنف والإذلال والإخضاع لدى المستعمِر بفعل تطبيع المجتمع الإسرائيلي للعسكرة الرقمية، فاليوم تتم مشاركة الدعوات “المدنية الإسرائيلية” للانتقام العنيف ضد الفلسطينيين بفرح على وسائل التواصل الاجتماعي ويستخدم العسكريون الإسرائيليون صور السيلفي كمنصات علاقات عامة في خضم التوغلات العنيفة على غزة.
ذلك يعني أن ما نشاهده في وسائل التواصل الاجتماعي العبرية، ليس إرهابًا أو سلوك عنف فردي أو مؤسسي منفرد (مؤسسة الجيش) وسياسة ممنهجة لدى جنود الاحتلال فقط، بل هو انعكاس لعنف بنيوي متجذر وينتجه الكيان باستمرار، كما أن الممارسات ليست جديدة، وإنما ظهرت للعلن بسبب دور التكنولوجيا، وما الصور إلا شواهد.
وفي خطابات القادة الإسرائيليين ودعوات التهجير ونزع الأنسنة واستخدام النووي، وما سبق ذلك من شهادات جنود المجازر السابقة في الطنطورة والخليل مثلًا، ما يثبت وصفها بأنها سلوكيات استعمارية عامة، وأن “هذا المنطق من مَوْضَعة الذات الصهيونية في خانة القادر على الانتهاك، وموضعة الآخر الفلسطيني كشيء في خانة القابل للانتهاك، هو جزء من المنطق الاستعماري“.
التوظيف الإسرائيلي لمجال العنف الحربي
يستثمر الاحتلال في آليات اشتغال الصور ومدلولاتها عند المجتمعين: الإسرائيلي والفلسطيني، من خلال الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية للصور، وتأثير البعد التداولي لها على الانطباع الجمعي أو الانفعاليات الجمعية.
فيوظف الصور سياسيًا في إطار سياسات الإرهاب والعنف البصري، ويستخدمها أداةً وسلاحًا في مشروعه الاستعماري، كما يتم تجنيد ممارسات وسائل التواصل الاجتماعي العادية ومستخدميها في المشروع العسكري للدولة.
فلسطينيًا، يكون توظيف الصور، استعماريًا، من منطلق الأثر التصويري على نفس المستعمَر ووعيه وصموده، وفق سلطة الصورة وتأثيرها النفسي والسياسي عليه، فتكون وظيفة البصري من العنف الرمزي الذي يمارسه محتواه على الفلسطيني، من خلال المعنى الذي تنتهكه الصورة والذي تنتجه في ذات الوقت.
أولًا: يراد بما ينشر استهداف الكل الفلسطيني بحرب نفسية، بتصدير غزة (بصريًا) لهم كبيئة عنف لردع باقي الجغرافيا الفلسطينية. وهذا استهداف لقيم وروح المقاومة ووعي الفلسطيني بها، وكسر للصمود والتماسك والثبات المعنوي، لرفع كلفة المقاومة على الشعب وفرض الخضوع بالإذلال والتحقير والتعذيب.
وثانيًا: يعكس ما ينشر كيف يحقق الاحتلال هذا الاستهداف مستخدِمًا المرجعيات الثقافية والاجتماعية والقيمية التي تشكل سلوكيات الفلسطيني ومنها المقاومة، فغالبية الصور الاستعمارية التي صورت التعرية والإذلال وتطويع النفس والجسد، نقلت فعل استباحة المعاني التي يمتلكها الجسد العربي الشرقي الإسلامي، وتعمد الاحتلال انتهاك قيم الكرامة والحياء والخصوصية والرجولة والأنوثة وغيرها، فوظّف المعاني الشرقية في ممارساته السلطوية، ليتمكن من استهداف الحمولة الاجتماعية والثقافية والسياسية للفعل النضالي والكفاحي.
أما إسرائيليًا؛ فيكون توظيف الصور من منطلق دورها في صناعة الحدث، وتقديمها لخطابٍ بصري يخدم السردية التي يهدف الإسرائيلي إلى الترويج لها بتصدير الصور للمجتمعين على أنها حالة أو صورة نصر إسرائيلي: حربي وسياسي واجتماعي. ويبدو أنه بهذه الحرب خاصةً ارتكزت المؤسسة العسكرية على المجتمع الإسرائيلي بشكلٍ كبير، فسوقت له الصور في إطار هيمنة “إسرائيل” على جسد الأرض الفلسطينية وجسد المستعمَر بما يخدم فوقيتها الاستعمارية في العقلية الصهيونية، لاستعادة صورة الجيش “الذي لا يقهر” ومنظومة “الردع الإسرائيلي” التي حجمتها المقاومة في السابع من أكتوبر.
وهنا يلاحظ كيف تعمل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كأداة يمكن من خلالها للجماهير “المدنية” داخل “إسرائيل” وخارجها دعم جيشها وسياسات القومية المتطرفة، كما تُفهم أفعال الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير وغيره من المتطرفين في تصدير الجنود للمجتمع الإسرائيلي على أنهم أبطال قوميون، كسياسة يُرجى بها استدامة عقدة التفوق العسكري والبشري عند المستعمِر.