يبدو أن الشرق الأوسط على موعد مع جبهة جديدة على مسرح الأحداث السياسية والعسكرية في أعقاب استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلية منشآت تكرير النفط ومحطات الكهرباء في ميناء الحديدة اليمني، ما أسفر عن سقوط عدد من الضحايا واشتعال ألسنة اللهب لساعات طويلة في الميناء الحيوي بالنسبة لليمنيين والحوثيين على حد سواء.
تأتي العملية التي نُفذت بـ25 مقاتلة من طراز “F35” الأمريكي، بقرار واعتراف رسمي إسرائيلي ردًا على استهداف جماعة الحوثي تل أبيب بمسيرة “يافا”، ما أدى إلى مقتل إسرائيلي وجرح آخرين، وهو الاستهداف الأول من نوعه منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
عملية الحوثيين والرد الإسرائيلي عليها والذي لا يفصل بينهما سوى يوم واحد فقط تذهبان بالمنطقة إلى تدشين قواعد اشتباك جديدة قد توسع دائرة الصراع وتنقله من إطاره الجغرافي الضيق المحاصر بحدود الدولة الفلسطينية، لبنان وسوريا والأردن ومصر، إلى خارج هذا السياق، وهو ما عبر عنه وزير دفاع الاحتلال، يواف غالانت بقوله إن “النيران يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط”، في رسالة تهديد واضحة لدول المنطقة.
تفاصيل الاستهداف وسرعته ومساره والإصابات التي أوقعها، وتزامنه مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن لإلقاء كلمته المرتقبة أمام الكونغرس، تثير الكثير من التساؤلات التي تحمل في بعضها شكوكًا عن احتمالية تواطؤ عربي أو على الأقل صمت وغض للطرف، وهو ما يزيد من الوضعية الحرجة للقرار العربي سياسيًا وأخلاقيًا.
تفاصيل العملية.. من النقب إلى الحديدة
بحسب الإعلام العبري انطلقت المقاتلات الإسرائيلية من صحراء النقب التي يتواجد بها عدد من القواعد الجوية، فيما ذهبت مصادر أخرى إلى احتمالية أن تكون عملية الانطلاق تمت من دولة أخرى وهو الاحتمال الأضعف، وإن كان واردًا.
قطعت المقاتلات الإسرائيلية مسافة نحو 1900 كيلومتر قبل الوصول إلى الحديدة اليمنية المطلة على البحر الأحمر، وبحسب هذا المسار يفترض أن المقاتلات عبرت المجال الجوي لثلاث دول عربية هي: السعودية ومصر والسودان، حيث لا يوجد مسار آخر إلا إذا افترضنا صحة الاحتمال الضعيف أن تكون عملية الانطلاق تمت من دولة أخرى، وهو ما يتعارض مع ما نقلته الصحف العبرية عن شهود عيان شاهدوا المقاتلات الإسرائيلية وهي تتحرك انطلاقًا من الأجواء الفلسطينية.
استهدفت المقاتلات منشآت مدنية حيوية في الحديدة، تمثلت بـ: خزانات النفط، ومكاتب في الميناء تتبع لشركة النفط اليمنية، بجانب محطة كهرباء، ويعد الحديدة الميناء الرئيسي الذي تدخل منه التجارة والمساعدات للبلاد، فهو شريان الحياة لليمنيين، ومن هنا جاءت أهمية الاستهداف الذي أرادت به “إسرائيل” شل الحياة تمامًا في البلاد.
نفذت قوات الاحتلال تلك العملية بمقاتلات من طراز “F35” الأمريكية، والتي تتمتع بأربع مميزات رئيسية، بحسب موقع “واللا” العبري، هي: التخفي، حيث من الصعب على الرادارات اكتشافها بسبب المواد التي تغطي هيكلها، كذلك امتلاكها الكثير من أجهزة الاستشعار، إذ تحتوي على رادار متقدم وأجهزة استشعار بصرية وحرارية، ما يعزز قدرتها على تحديد الأهداف، وتحديد مسار الطيران الآمن.
علاوة على قدرتها الاستيعابية الكبيرة، إذ تتسع لـ8.1 طن من القنابل والصواريخ، وأخيرًا مداها الطويل فهي مؤهلة للطيران لمسافة 1150 كيلومترًا تقريبًا في كل اتجاه، كما يمكنها التزوّد بالوقود في الجو من طائرات التزود بالوقود الإسرائيلية القديمة، أو استخدام الصواريخ والقنابل بعيدة المدى.
أهداف “إسرائيل”
يهدف الاحتلال من وراء تلك العملية إلى تحقيق 5 أهداف وإرسال مجموعة رسائل رئيسية، أهمها:
أولًا: استعادة معادلة الردع: نجح الحوثيون ومعهم المقاومة في لبنان وغزة في تغيير معادلة الردع مع الاحتلال، وفرض معادلة جديدة تقوم على الندية والتوازن والضرب والضرب المضاد، وهو ما وضع الاحتلال في موقف صعب، وأجهض مخططات سنوات عدة حاول فيها تصدير نفسه على أنه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في رسم خريطة القوة بالمنطقة.
وجاءت عملية الحوثيين الأخيرة في تل أبيب لتهدم معادلة الردع التقليدية، وتفرض واقعًا مغايرًا، كان على الاحتلال التعامل معه بسرعة، ومن ثم جاء الرد بعد يوم واحد فقط من تلك العملية التي أحدثت ارتباكًا كبيرًا في الداخل الإسرائيلي وبعثرت كل الأوراق.
ثانيًا: استعراض القوة: الخسائر التي تكبدها جيش الاحتلال على أيدي المقاومة في غزة ولبنان، ثم في اليمن والعراق، رسمت صورة مشوهة لجيش الاحتلال الذي لم يجد حرجًا في الاعتراف بتلك الخسائر على المستوى البشري والمادي، بل لم يجد غضاضة في تسريب بعض الأخبار بين الحين والآخر عن نوعية الهزائم والخسائر التي تلقاها خلال الأشهر العشر الماضية، منها النقص الواضح في العتاد وعناصر التدريب والهزيمة النفسية التي مني بها المئات من الجنود، هذا بخلاف انهيار الجبهة الداخلية جراء حالة الشك في قدرات الجيش في التعامل مع المقاومة وجبهاتها المختلفة.
وعليه حاول المحتل من خلال عملية كتلك، – سهلة التنفيذ، وواضحة الأهداف، ولا تحتوي على أي مخاطرة في ضوء تواضع منظومة الدفاع الجوي لدى الحوثيين – استعراض القوة وتقديم رسالة للجميع بأن “إسرائيل” تمتلك القدرة والأدوات القوية للرد على أي تجاوزات بحقها، وهي الرسالة التي أعلن عنها غالانت حين أشار إلى أن ألسنة النار واللهيب الناجمة عن قصف الحديدة هي رسالة إنذار للشرق الأوسط بأكمله، وهي الرسالة التي تفتقد لأبجديات الدبلوماسية، لكنها تعكس حجم الأزمة التي يعاني منها جيش الاحتلال.
ثالثًا: رسالة مبكرة للنظام الإيراني الجديد: حاول الكيان المحتل تقديم رسالة إنذار استباقية للنظام الإيراني الجديد ورئيسه المنتخب مؤخرًا، بأن أي تجاوز للخطوط الحمراء وخرق لقواعد الاشتباك التقليدية سيقابل بالرد العنيف، وأن أي استهداف للمصالح الإسرائيلية، سواء في البحر الأحمر أم في العمق الإسرائيلي، سيكون الرد عليه بهذه الطريقة التي يرى الإسرائيليون أنها رادعة ومكلفة.
رابعًا: ترميم الصورة المشوهة: منذ بداية حرب غزة ويؤكد الإعلام الإسرائيلي ونخبته السياسية والعسكرية على فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه من تلك الحرب (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل قطاع غزة تهديدًا لـ”إسرائيل”)، وهو ما تسبب في تشويه صورة الجيش الذي لا يقهر، وتفنيد الأسطورة المزيفة لقوة الكيان وقدراته العسكرية، وعليه كان لا بد من ترميم تلك الصورة بعملية مثل الحديدة.
خامسًا: تعزيز موقف نتنياهو قبل السفر إلى واشنطن: من المقرر أن يسافر رئيس حكومة الاحتلال إلى واشنطن، الإثنين 22 يوليو/تموز الجاري، وهي الزيارة الأولى لنتنياهو إلى العاصمة الأمريكية منذ تشكيل حكومته الحالية في ديسمبر/كانون الأول 2022، ومن المتوقع أن يلقي كلمته المرتقبة أمام الكونغرس والتي يستعرض فيها مؤشرات عامة عن حرب غزة وإدارته لها.
قبل عملية الحديدة كانت أصابع الاتهام شاهرة في وجه نتنياهو وجيشه، تتهمه بالتقصير والفشل في تحقيق أي من أهداف الحرب، وتطالبه بالرضوخ لإبرام صفقة واتفاق تبادل مع المقاومة بعدما عجز الكيان المحتل في فرض كلمته عليها، ومن هنا كان لا بد من عملية كهذه يستعيد بها نتنياهو بعضًا من تماسكه المهلهل في محاولة للوقوف على أرض صلبة أمام الكونغرس، وخلال لقائه الرئيس جو بايدن، وهو التماسك الذي قد يعزز موقف المفاوض الإسرائيلي على طاولة المفاوضات بشأن الصفقة المحتملة، هكذا يتوهم الإسرائيليون.
عن التنسيق العربي.. تساؤلات حرجة
السؤال الأبرز الذي فرض نفسه بعد الإعلان عن تلك العملية: ما هو مسار المقاتلات الإسرائيلية؟ وما هي الأجواء التي عبرتها في طريقها من النقب إلى الحديدة؟ بحسب المسار المعلن عنه إعلاميًا فإن الطائرات الإسرائيلية لا بد وأن تمر عبر الأجواء المصرية والسعودية والسودانية، ليبقى السؤال: هل كان هناك تنسيق بين الاحتلال وتلك البلدان؟ بالطبع من الصعب أن تمر مقاتلات بهذا الحجم فوق تلك الأجواء دون تنسيق وإلا ستكون أهدافًا مشروعة لمنظومات الدفاع الجوي لتلك الدول.
صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، قالت في تقرير لها إن جيش الاحتلال الإسرائيلي، نسق مع السعودية من أجل تنفيذ ضرباته في الميناء اليمني، لافتة إلى أن العملية تضمنت كذلك على التزود بالوقود في الجو بطائرات “رام” بسبب المسافة الكبيرة، إلى جانب التحليق على ارتفاعات منخفضة لتجنب الرادارات، مضيفة: “يرجح أن الجيش نسق مع السعودية لعبور أجوائها، والتحليق فوق أراضيها”.
أما هيئة البث العبرية فقالت إنه تم إطلاع الأمريكيين على العملية قبل ساعات من تنفيذ الهجوم، وتم إخطار القيادة الأمريكية المركزية، منوهة إلى أن الطائرات عبر أجواء السعودية ومصر في طريقها إلى اليمن، وهو ما نفته الرياض على لسان المتحدث باسم وزارة الدفاع العميد تركي المالكي الذي قال إن: “السعودية ليس لها أي علاقة أو مشاركة باستهداف الحديدية، والمملكة لن تسمح باختراق أجوائها من أي جهة كانت”.
أما القاهرة فاكتفت في بيان لوزارة خارجيتها بالتعبير عن قلقها البالغ إزاء تلك الضربة، دون التعليق على اتهامات فتح أجوائها الجوية أمام تلك المقاتلات، مُحذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة وتحوله إلى “فوضى إقليمية”، مشددة على أهمية “تكاتف الجهود الدولية من أجل صون أمن واستقرار المنطقة”، فيما حذّر البيان “مما سبق وأن أشارت إليه (مصر) من مخاطر توسيع رقعة الصراع في المنطقة على إثر تطورات أزمة قطاع غزة، وبما سيدفع الإقليم بأسره إلى دائرة مفرغة من الصراعات وعدم الاستقرار”، فيما لم يصدر عن الجانب السوداني أي تعليق رسمي بشأن ما يتردد حول فتح أجوائه للطيران الإسرائيلي.
قواعد جديدة للاشتباك
ليست المرة الأولى التي يُستهدف فيها الداخل اليمني منذ بداية حرب غزة، إذ شنت الولايات المتحدة وبريطانيا العديد من الهجمات على أهداف ومواقع تابعة للحوثيين، وإن كانت تلك المرة الأولى التي تشن “إسرائيل” بنفسها عملية عسكرية في العمق اليمني، ومع ذلك لم تؤثر تلك الهجمات في نشاط الحوثي وعملياته في البر والبحر مستهدفًا بها دولة الاحتلال.
وبعيدًا عن سهولة العملية من الناحية التنفيذية، كونها دعائية أكثر منها ميدانية، في ظل تواضع المنظومة الدفاعية للحوثيين وتوقع الرد الإسرائيلي بعد عملية تل أبيب، إلا أنه ليس لدى الجماعة اليمنية ما تخسره وهي التي خرجت للأضواء منذ أن اعتبرت نفسها طرفًا في حرب غزة، بعد سنوات تقوقعت فيها بعيدًا عن الاهتمام الإعلامي والسياسي، ومن ثم فإن استخدام معادلة الردع معها توجه غير مضمون، وتوقع رد فعلها مسألة ليست بالسهلة.
فبعد ساعات قليلة من تنفيذ عملية الحديدة، أعلن الحوثيون عن رد سريع من خلال عملية عسكرية في مدينة أم الرشراش “إيلات”، حيث أكد جيش الاحتلال اعتراض صاروخ أرض – أرض أطلق من الأراضي اليمنية فجر اليوم الأحد، بينما قال المتحدث العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع، في بيان، إن “القوة الصاروخية في القوات المسلحة نفذت عملية عسكرية نوعية استهدفت أهدافًا مهمةً في منطقة أم الرشراش جنوبيّ فلسطين المحتلة بعدد من الصواريخ الباليستية وحققت أهدافها بنجاح”، هذا بخلاف استهداف سفينة بومبا الأمريكية في البحر الأحمر بعدد من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وإصابتها مباشرةً، بحسب البيان.
وفي الوقت الذي يؤمل فيه الإسرائيليون أنفسهم بأن تشكل عملية الحديدة ردعًا للحوثيين، إذ بهم يؤكدون – على لسان المتحدث العسكري – أن العدوان الأخير لن “يثني اليمن عن موقفه الثابت تجاه مظلومية الشعب الفلسطيني، وأن العمليات ضد السفن الإسرائيلية والبريطانية والأمريكية لن تتوقف إلا بتوقف العدوان على قطاع غزة”.
الفعل ورد الفعل، بين الإسرائيليين والحوثيين، خلال الساعات الماضية، يذهب بالمنطقة إلى مرحلة جديدة من التوتر، تتغير فيها قواعد الاشتباك، فيما يتوقع أن يظل البحر الأحمر ساحة مشتعلة الأجواء في الشرق الأوسط، في الوقت الذي يطالب فيه البعض بسرعة إنهاء الحرب في غزة والتوصل إلى اتفاق تبادل قبل أن تصل الأمور إلى طريق مسدود تتحول فيه المنطقة إلى ساحة حرب مباشرة مفتوحة على الاحتمالات كافة.