حين قدم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وخطب في جامعة قرطاج (آنذاك جامعة 7 نوفمبر بقرطاج)، لخص لنا العلاقة التونسية الفرنسية كما كان يراها في مشروع خمسة زائد خمسة على أنها علاقة مخططٍ بمنفذٍ، صانع قرارٍ بيدٍ صنائعية، آنذاك، كانت شركات ما وراء الحدود Offshore companies سياسة دولة في تونس بالفعل، ولم يفتأ العمل عليها يتكثف لما تحققه من أرباح بالجملة للطرفين: فهي توفر العمل للتونسيين وتحقق معدلات بطالة منخفضة إلى حدودٍ قياسية تسعد نظام بن علي وتجعل منه قصة نجاح.
كما توفر لصاحب رأس المال الفرنسي يدًا عاملةً رخيصة بكل معنى، وتجنبه الضرائب وتعيده إلى عصر البرجوازية الذهبي، كان واضحًا عندي، من فريق المستفيدين، ولكن يبدو أنني لم أنتبه كثيرًا وأنا أعد قائمة الضحايا، وكان علي أن أنتظر حتى تهب “رياح الشمال” أو “شرش” كما نسميها في تونس.
“شرش” هي الريح الشمالية الغربية بلغة البحارة، وهي أشدها قرسًا، إذ تسافر من المحيط الأطلسي عبورًا بأوروبا، ولا غرابة أن يستعمل المخرج وليد مطار هذه التسمية التونسية عنوانًا لفيلمه الطويل الأول، فالأحداث تقع عند أقدام البحر، في مدينتين ساحليتين متباينتين، تبدأ الريح عند إحديهما، في الشمال الفرنسي المطل على المحيط، وتلقي بردها الضاري على الساحل المتوسطي لضاحية حمام الأنف جنوب العاصمة التونسية.
شرش قصةٌ مزدوجةٌ، توحي بانفصال وتقاطع لقصتين مختلفتين، وتبطن اشتراكًا وتواصلاً لمحنةٍ واحدةٍ ولغضبٍ واحدٍ، لا يملك هرفي Hervé (فيليب غوبو Phillipe Rebbot) وفؤاد (محمد أمين الحمزاوي) قواسم مشتركة، فالأول كهلٌ وعاملٌ في مصنع أحذية بفرنسا، يملك منزلاً بسيطًا وابنًا لا يجيد السيطرة عليه، وزوجة كادحة مثله، وحلمًا بالبحر داس عليه منذ أمدٍ بالنعال التي يصنعها، والثاني شابٌ تونسيٌ لا يملك شيئًا من كل هذا.
تتميز مشاهد الفيلم ببساطة أنيقةٍ، تنفر من تكثيف العناصر، وترنو نحو اللقطة الواسعة
تهب ريح الشمال مع بداية الفيلم، حين يقرر الكبار تسريح العمال تمهيدًا لنقل المصنع إلى تونس، لا يملك هرفي إلا أن يوافق، إذ لم يكن يومًا رجل المواجهات، وفي المقابل، يظفر فؤاد بعمل الفرنسي الرتيب مقابل حفنة مالٍ يتبخر أسرع من سكرته.
يتكون لفؤاد حلمٌ بسيطٌ: كريمة زميلة المصنع ورفيقة الدرب وابنة الجيران، تبدو حياة فؤاد بناءً فتيًا ترتفع أركانه مع نمو علاقته بكريمة، لأول مرة يفكر في الترقية وفي الكد والاجتهاد، وفي إيجاد حلولٍ متواضعة لمستقبله، في بيئة تعاديه وتلفظه.
تغزل العولمة نسيج العلاقة بين المصيرين المتباعدين، وبفضل اقتصاد السوق وشركات ما وراء الحدود وإعادة التأهيل والتقاعد المبكر والشراكة الاقتصادية، وغيرها من المفاهيم المربكة، تترابط القصتان وتؤثر إحداهما على الأخرى.
لقد عمل وليد مطار على هذه الزاوية الواسعة التي تسمح لكل المشاهدين جنوب الضفة وشمالها برؤية أوضح، إن ما يبدو لنا قصتين متقاطعتين، ليس إلا حكايةً واحدة، فما يراه كلا المشاهدين في واقعيهما، ليس إلا جزءًا من المشهد الكبير، لقد اتسع المشهد السينمائي عند وليد مطار ليتجاوز الواقع، ويرنو نحو الحقيقة!
تتميز مشاهد الفيلم ببساطة أنيقةٍ، تنفر من تكثيف العناصر وترنو نحو اللقطة الواسعة، لا بغاية استعراضية، ولكن بغاية تقديم الشخصية في سياقها، ودفع المشاهد إلى اتخاذ مسافة تأملية كافية تجاه الأحداث البسيطة.
يساهم النفس الساخر في الدفع نحو هذا الأسلوب التأملي، حين نعود إلى مشهد هرفي وهو يدفع الجرار خارج إطار الصورة، ثم يعود راكضًا نحو مركبه، سوف يخيل إلينا أن وليد مطار يقف خلف القمرة (كاميرا) ضاحكًا، لا يتنصل المخرج التونسي من تعاطفه مع العاملين، لكنه لا يتحول إلى تفاعلٍ أو انفعال، بل يحافظ على تلك المسافة التي تسمح برؤية الظاهرة بكامل جسمها داخل الإطار، يتحول هرفي وفؤاد إلى أنموذجين، عينتين من الفكرة، دون أن ينتقص ذلك من الاستحقاق الدرامي.
من خلال بنية الفيلم، لا يحاول المخرج أن يضع شمال الضفة في مقارنة بجنوبها
تعرف الشخصيات من خلال أعمالها، فؤاد وهرفي من خلال قطع الجلد التي يقتطعانها، فيرونيك Véronique زوجة الفرنسي من خلال عملها في المطبخ أو في المسبح، فنسن Vincent من خلال لعبة الفيديو العنيفة، إلخ، وهو اختيار عمليٌ رائع لا يترك مجالاً للتفلسف، إذ يحدد لكل شخصية منذ البداية إطارًا تتحرك فيه، نعرف منذ النظرة الأولى، أن كريمة ستلعب دور الحبيبة الملهمة، ونعرف منذ وقفة المطبخ أن فيرونيك ستلعب دور الزوجة المساندة لا غير، لا يتطور أحدٌ من هذه الشخصيات فيخرج عن النسق الذي قدم به، سوى فنسن Vincent ابنه الذي انتقل من حمل السلاح في ألعاب الفيديو، إلى حمل الصنارة فحمل السلاح في البحرية.
لكن لهذه البنية دورًا آخر أكثر بلاغةً، “أنت عملك” على عكس مقولة تشك بالنك Chuck Pahleniuk في نادي القتال، تحمله في بطاقة الهوية مثل الاسم والجنسية، ويتعرف الناس عليك ويعاملونك على أساسه، ولا شك أن منزلتك الاجتماعية تخضع لهذا الجزء من الهوية أكثر من غيره، في حالة بطلينا يختلف الأمر بل يكاد ينعكس.
إذ لا يمكن أن يعرف هرفي بنفسه كصانع أحذية، فهو لا يعرف منها، سوى تفصيل قطعة وحيدة من الجلد، تتوارى هوية الصياد ثلاثين عامًا تحت زي المصنع الأزرق، تكاد تذوب تحت ضغط آلةٍ سوف تلفظه عاريًا من كل إرثٍ أو إنجاز.
أما فؤاد، فحاله أسوأ، فهو لا يملك ولو عملاً مزيفًا، ولا يملك أن يحلم بالصيد في شاطئٍ تفتك فيه البضاعة ولا تشترى (ولعله يعرف أكثر من خلال مشاعره، فهو يحلم بصيد الغزالة ابنة الجيران، لا سمك الأعماق، ولذلك اختار المخرج له من الأسماء فؤادًا))، وهو ليس إلا أحد مستويات المقارنة الخاسرة التي تحتمها بنية الفيلم.
بوستر “فيلم الشرش”
من خلال بنية الفيلم، لا يحاول المخرج أن يضع شمال الضفة في مقارنة بجنوبها، بل على العكس، يحاول أن يقتفي إبرة النظام العالمي التي تربط مصيرهما وتلقي بكليهما في الظلام، يؤثر رخص اليد العاملة في تونس، على نظيرتها الفرنسية، فتتسبب في بطالتها، وتؤثر اتفاقيات التأهيل والسوق الحرة التي فرضها المستثمرون على اليد العاملة التونسية، فترضخ للابتزاز المفضوح بلا سند، ويكرس مطار لذلك تقنيات متنوعة، تبدأ مع الباخرة التي تصل الضفتين في مشهد ثلاثي الأبعاد بسيط ومفضوح ولكن يفي بالمعنى، ثم تتواصل مع الطائرة التي تقل الفرنسي وزوجته، فالباخرة التي تقل فؤاد إلى مصيره المجهول.
يتوطد الاشتراك في المصير من خلال استخلاف فؤاد لهرفي على الآلة، وعلى اللاهوية، كما يعتمد المخرج على عناصر متشابهة في حياتيهما أهمها البحر ومظاهر الفقر في المدينتين، وما استعمال المركب الصغير كمكان للقاء الحبيبة، إلا إمعانٌ في هذه الفكرة، فلا ننسى أن المركب في حياة هرفي، هو مكان الحلم، وأداة تحقيقه.
أخيرًا، ينتهي المطاف بهذه المقاربة إلى التقاطع المكاني في مشهد يمثل ذروة الفيلم وزينته الأبرز، هناك في تونس، عند تقاطع طريق المطار بقطار الضاحية الجنوبية، يجلس هرفي قرب زوجته متأملاً من بعيدٍ، ذلك الشاب الذي افتك له عمله وهو يجلس بشكل انتحاري، عند باب القطار المفتوح موليًا بظهره لحبيبته التي قررت بالفعل تركه.
يحاول وليد مطار تفادي المقارنة، ولكنه يفشل، فالمقارنة تفرض نفسها عليه حتى من باب الواقعية، والمشهد الذي يجمع البطلين (مرة واحدة لا ثاني لها) يفرض بدوره المقارنة، فالفرنسي رغم بطالته، عائدٌ من رحلة سياحيةٍ رائعةٍ (بالنسبة له على الأقل، فما قدمه المخرج ـ عمدًا ـ عن السياحة في تونس يثير الاشمئزاز)، أما التونسي فكان عائدًا من يوم عملٍ محبطٍ أدرك فيه أن لا مستقبل له هناك، ولا مستقبل له ربما مع حبيبته، وبينما يأتي الفرنسي إلى تونس بالطائرة، يستقل فؤاد حاوية البضائع وخطر الموت ليبحث عن مستقبلٍ في الضفة الأخرى.
نجح الفيلم أيما نجاح في الموازنة بين بساطة القول وثقل معناه
كل شيء نراه سيئًا في الجانب الشمالي، يصبح أكثر سوءًا في الجنوب، مطبخ العائلة الفرنسية بسيطٌ لكنه واسع نظيف يتمتع بالأدوات العصرية التي لا يمكن أن تتخيلها في مطبخ كذلك الذي تستعمله أم فؤادٍ، هرفي عاطلٌ، لكنه مع ذلك يملك دخلاً متواضعًا، وزوجةً تعمل وابنًا على مشارف الجيش، أما فؤاد فلا يملك أكثر من أم مريضة يحتاج لأن ينفق على دوائها.
وحين يضطر الفرنسي أن يخالف النظام، فهو لا يعدو أن يعمل دون رخصة، أما فؤاد فهو يستعمل هاتفًا مسروقًا ليكسب ود الحبيبة، ويستعمل حبيبةً ضائعة، ليكسب عمى ضابط الديوانة (الجمارك)، ويستعمل الحاوية التي كان يملأها أحذيةً، ليكسب هجرةً تسمى “غير شرعية”.
لقد نجح الفيلم أيما نجاح في الموازنة بين بساطة القول وثقل معناه، فقد بنيت القصة بشكل متين عبر الضفتين، بحيث يحاول كل مشهد تقريبًا أن يمهد لما بعده، دون التورط في تعقيدات قد تفتح ثغرات سردية، وكتب الحوار بشكل بسيط ومباشر بأيدٍ متمكنة لم تجد حرجًا في استعمال الكلام البذيء دون رقابة ذاتية، ولئن أغضب ذلك الكثير من التونسيين، فإن تأثيره على سمة الواقعية واضحة، خصوصًا إذا ما عقدت المقارنة مع أعمال تونسية أخرى، لم تكن هناك مبالغة في الكلام السوقي، ومن جلس في مقهى شعبيٍ تونسيٍ سيؤكد ذلك.
والأكيد أن وليد مطار كان مثقلاً بهاجس الواقعية، ربما بشكل مبالغ فيه، وفي كل مشهد، تظهر قمرة (كاميرا) الناقد فتهزأ من نقاشات العاطلين في المقاهي، أو من خدمات السياحة في بلد يعتبر نفسه سياحيًا، أو من برامج مكتب التشغيل، أو من حكمة المهاجرين الشباب، إلخ.
لكن أغلب هذه الإشارات الساخرة يمر عرضًا على المشاهد إن لم يكن يخص ضفته، ولئن كان احتمال فهم التونسي لتفاصيل مشهد إقالة هرفي قائمًا، فإن احتمال فهم الفرنسي لتفاصيل مشهد التنشيط السياحي في النزل يكاد يكون مستحيلاً، خصوصًا أن قمرة المخرج ـ كما ذكرت ـ محمولة على مدار الواقعية، فلم تبدر من المشهد مبالغة تدفع للتشكيك وإعادة التأويل.
في غفلة من المشاهد المنشغل بتتبع القصة، خاط لنا قطعًا كثيرة يشكل كل منها قصة مستقلة، شركات ما وراء الحدود، الاستثمار اللاإنساني، مهازل السياحة، بل إنه لم يسه عن التطرق إلى الإرهاب في علاقته بالسياحة
يدفع هاجس الواقعية الاجتماعية (حتى لا أقول اشتراكية) وليد مطار إلى التأثر بالمخرج البريطاني كين لوتش Ken Loach، ولئن كان الاختلاف واضحًا بين دانييل بلايك الذي اختار المقاومة، وهرفي الذي زج به في المعمعة بشكل مضحك، فلا يمكن أن نخطئ تقارب النفس الساخر بين الحوارين اللذين افتتح بهما الفيلمان (أتحدث هنا عن الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية “أنا، دانييل بلايك” I Daniel Blake)، ذات السذاجة البريئة التي تفضح منظومة النهب منذ بداية الفيلم، وتضع يدها في غير تكلف أو حرجٍ على المذنب المباشر، لا يدعي وليد مطار أنه يعرف الحل، ولا يدعي أنه يفهم تفاصيل المشكل، كما عبر عن ذلك في مشهد الذبابة الأخير، لكنه قطعًا يعرف الجاني.
لم يفلت شيء من صورة وليد مطار تقريبًا، فقد ألح على حضور مختلف عناصر العلاقة الفرنسية التونسية في المشهد، وفي غفلة من المشاهد المنشغل بتتبع القصة، خاط لنا قطعًا كثيرة يشكل كل منها قصة مستقلة، شركات ما وراء الحدود، الاستثمار اللاإنساني، مهازل السياحة، بل إنه لم يسه عن التطرق إلى الإرهاب (في أقل مشاهد الفيلم عفوية برأيي) في علاقته بالسياحة، وانتهاءً بما يؤرق المستثمر الأوروبي وحكومته: الهجرة اللاشرعية أو الحرقة، ولقد برهن السيناريو على عبقريته مرة أخرى حين جعل “الحرقة” تبدو كتتويجٍ ومرحلة طبيعية لكل ما سبقها من جرائم اقترفتها المنظومة.
ينقل فيلم شرش السينما التونسية إلى مستوى أعلى رفقة أعمالٍ ناجحة أخرى أبرزها “على كف عفريت” لكوثر بن هنية ونحبك هادي لمحمد بن عطية، لم نعد نتساءل هل القادم فيلمٌ أم لا، بل صرنا نسأل هل هو جيد جدًا أم فيلم عادي، وهو التساءل الأدنى الذي يستحقه المشاهد التونسي بالنظر إلى مدى عشقه للشاشة الفضية.