كان “أوسكار شندلر” من آخر المرشحين ليكون على قائمة الشخصيات التي ساعدت اليهود أيام محرقة الهولوكوست، فقد كان نازيًا لعائلة ألمانية العرق، رجل أعمال انتهازي للفرصة يقلب الأمور دومًا لمصلحة أمواله، أحب الاستمتاع بحياته بأي وسيلة ممكنة، ولم يظهر أبدًا كشخص سيكون تاريخه حافلًا بالتمجيد من الملة التي بغضها وقهرها عرقه.
لم يكن أوسكار شندلر شخصًا عابرًا على اليهود في الحرب العالمية الثانية، فتاريخه حافل بإنقاذ ما يقرب من 1000 عائلة يهودية من أكثر المعسكرات النازية التي قضت على اليهود، معسكر “أوشفيتز”، لم يكتف اليهود بوضع أوسكار شندلر على قائمة ذكرى محرقة الهولوكوست الموجودة تقريبًا في أغلب البلاد الغربية في العالم ومتاحف الكيان الصهيوني فحسب، بل خصصت له البروباجندا الإسرائيلية أيضًا واحدًا من أهم أفلام الهولوكوست وأكثرها شهرة وتأثيرًا بعنوان “قائمة شندلر” الحاصل على عدة جوائز أوسكار وكان تأثيره النفسي على المشاهدين سببًا لتعاطف الكثيرين مع وجود اليهود على أرض فلسطين المحتلة وسببًا في جعل الفيلم على قائمة أفضل الأفلام المُنتجة في تاريخ السينما.
استطاع الكيان الصهيوني استغلال الهولوكوست جيدًا في حملة البروباجندا التي تمنحه الحق في الوجود على أرض فلسطين المحتلة، وتمنحه تبريرا تاريخيًا للنكبة، لكي يدعم فكرة أن وجود الكيان القومي لليهود رد اعتبار لكل ما تعرض له اليهود على يد ألمانيا النازية، فنجد تماثيل تعبر عن المأساة التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية في أغلب العواصم الأوروبية، ونجد كثيرًا من صور شخصيات يهودية خلدها التاريخ في المتاحف والمعارض، أهمها النصب التذكاري الأساسي الذي وضعه الاحتلال في قلب الأرض المحتلة، متحف أو مركز “ياد فاشيم” المعروف بمركز النصب التذكاري لتخليد ذكرى الهولوكوست في العالم.
لم يجعل الكيان الصهيوني من “ياد فاشيم” مركزًا لتخليد ذكرى الهولوكوست فحسب، بل يعتبر مركزًا لدراسات الهولوكوست أيضًا، أُنشئ عام 1993 ليكون مركزًا لدراسة تاريخ الهولوكوست لجنود جيش الاحتلال والطلاب من “إسرائيل” وكل أنحاء العالم، ولأن الكيان الصهيوني بارع جدًا في تزييف التاريخ وإعادة كتابته كوسيلة من وسائل القومية الحديثة لضمان حق الوجود على الأرض؛ حذف من الشخصيات التي يُمجدها جدار النصب التذكاري للهولوكوست حراسًا لليهود، ساعدوهم كما ساعدهم أوسكار شندلر في الحرب العالمية الثانية، إلا أنهم اختلفوا عن “شندلر” في كونهم عربًا مسلمين.
“خالد عبد الوهاب” ليس على “قائمة الصالحين”
خالد عبدالوهاب” تونسي أنقذ العشرات من اليهود في الحرب العالمية الثانية
“الصالحين” مصطلح يشير به اليهود إلى كل من ساعدهم من غير اليهود أيام الحرب العالمية الثانية، فيطلق اليهود هذا المصطلح على كل من خاطروا بحياتهم وبالكثير من العقوبات لحمايتهم في ذلك الوقت، من أجل تقديم الملجأ لهم أو مساعدتهم في الحصول على بطاقات هوية مزيفة أو تهريبهم، فبحسب وصف اليهود لهم، يعتبرون أقلية نادرة تمتعت بشجاعة استثنائية للحفاظ على قيم إنسانية لم يتحل بها الأغلبية الذين تعاملوا مع الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية بأسلوب انتهازي أو استغلالي بحسب وصف اليهود.
ولكن دعونا نلقي نظرة شاملة أكثر على مصطلح “الصالحين” هذا، حينما نلقي نظرة على قائمة الصالحين (القائمة التي تحتوي أسماء وصور غير اليهود الذين ساعدوهم في الحرب العالمية الثانية) نراها خالية تمامًا من وجود العرب أو المسلمين، والسبب أنهم غير مطابقين للمعايير!
استطاع الكيان الصهيوني استغلال الهولوكوست جيدًا في حملة البروباجندا التي تمنحه الحق في الوجود على أرض فلسطين المحتلة، وتمنحه تبريرا تاريخيًا للنكبة
لا يعتبر السبب كلامًا مرسلًا، كان توضيح السبب الذي يشير إلى أن المنقذين أو “الصالحين” من العرب والمسلمين غير مطابقين للمعايير من مديرة قسم “الصالحين بين الأمم ” إيرينا شتينفيلدت” التي وصفت هدف المشروع أنه يبحث عن المتعاونين من غير اليهود الذين خاطروا بحياتهم وقت إبادة اليهود الجماعية وخالفوا الشعور العام من اللامبالاة تجاه المأساة الإنسانية التي تعرضوا لها، وهو مشروع لا مثيل له لـ”جريمة لم يكن لها مثيل” وما حفزهم لإنشاء هذا المشروع هو الشعور بالامتنان لهؤلاء الأشخاص.
وجدت إيرينا أن الامتنان يجب أن يكون لكل غربي ساعد اليهود، سواء كان من الأوروبيين أم الأمريكان، لقد عملت البروباجندا الإسرائيلية جنبًا إلى جنب مع مشروع تزييف التاريخ من مشروع “الصالحين بين الأمم” من أجل أن يصب في مصلحة الدولة الحديثة “إسرائيل” ليدعم صراعها في أحقيتها في أرض فلسطين بتاريخ كاذب يدعم الرواية الكاذبة، فكان لمن ساعد اليهود “معايير خاصة” لكي ينال لقب “صالح” أو في سياق آخر توازت المصالح الإسرائيلية الغربية الثلاثة وجنبًا إلى جنب مع من ينال اللقب في التاريخ.
“خالد عبد الوهاب” تونسي مسلم مولود لعائلة أرستقراطية، لم يكن من بين الثلاثة وعشرين ألف “صالح” الذين اعترفت بهم “إسرائيل” ضمن مشروع “الصالحين بين الأمم”، كتبت عنه واحدة من اليهود التونسيين “إيفا فيزل” في صحيفة “نيويورك تايمز” لتدلي بشهادتها عن الرجل العربي المسلم الذي خاطر بحياته أمام الجنود الألمان على سواحل تونس ليُخفي عائلة يهودية، النساء والأطفال والعجزة منهم ليُهربهم إلى مزرعة له تبعد 32 كيلومترًا عن أماكن وجود الجنود في الحرب العالمية الثانية.
حينما نلقي نظرة على قائمة الصالحين (القائمة التي تحتوي أسماء وصور غير اليهود الذين ساعدوهم في الحرب العالمية الثانية) نراها خالية تمامًا من وجود العرب أو المسلمين، والسبب أنهم غير مطابقين للمعايير!
تقول إيفا في شهادتها المكتوبة عام 2011: “لقد كنا ممتنين للغاية أنه يحمينا خلف جدران بيته، لقد كان لخالد عبد الوهاب إستراتيجياته الخاصة للتعامل مع الجنود الألمان، فكان يبقي العشرات منا بعيدًا عن أعينهم في المزرعة بينما يسليهم ويقيم الحفلات لهم في منزل المزرعة الرئيسي”.
على الرغم من شهادة العائلة وترشيحها ليكون عبد الوهاب واحدًا من بين “الصالحين” فإن ترشيحه ليكون العربي المسلم الأول على القائمة رُفض من مشروع “الصالحين بين الأمم” وبقي الرفض سرًا عن العلن والعائلة لمدة سنتين، حتى عادت العائلة لطلب الترشيح مرة أخرى وإعادة الإفادة بشهادات البعض ممن كانوا في المزرعة، إلا أن المحكمة قابلت العرض مرة أخرى بالرفض لكون قصة خالد عبد الوهاب لا توافي المعايير الخاصة بالمشروع، وأنه في وجهة نظرهم لم يُخاطر بحياته من أجل حماية اليهود.
لم تعان كثير من الشخصيات الغربية الموجودة على القائمة من الأذى الجسدي أو العقوبات المصيرية أو الموت بسبب حمايتهم لليهود، بل لم يتعرض الأغلبية لأي ضرر أو أذى جراء مساعدتهم تلك، وعلى الرغم من ذلك فإنهم موجودين على القائمة وتتوج صورهم وقصصهم متحف تخليد الذكرى الأساسي الموجود في القدس المحتلة أو المتاحف الموجودة في العواصم الأوروبية المختلفة.
تقول إيفا في شهادتها بصحيفة “نيويورك تايمز” إنها لا تؤمن بمشروع الصالحين ولا تؤمن أن كل ما تنعته “إسرائيل” بالصالح قد حمى اليهود فعلًا، ولا تجد أن المعايير التي يضعها المشروع خالية من التحيز، لقد رفض المشروع إدراج اسم الشخص الذي له الفضل في أن تعيش هي وأفراد عائلتها بسبب كونه عربيًا مسلمًا، ويرفضون الشهادات التي يقدمونها بأنفسهم، تتمنى إيفا أن يُدرج اسمه قبل أن لا يتبقى أي شخص يروي حكايته.
وقتما حمى الأتراك اليهود من النازيين
https://www.youtube.com/watch?v=RSJcOzio8hQ
إعلان الفيلم الوثائقي “جواز السفر التركي”
على الرغم من أن التشاؤم يسيطر على النظرة اليهودية للأتراك باعتبارهم “انتهازيين” للفرصة بالنسبة لكثير من “الإسرائيليين”، فيراهم اليهود انتهزوا الفرصة ليعاملوا اليهود كأقلية من الدرجة الثانية حتى بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة، واستولوا على كثير من تجارتهم ومحلاتهم في كثير من الأحياء القديمة في مدينة إسطنبول مثل حي بلاط في منطقة الفاتح أو منطقة طارلاباشيه في حي باي أوغلو في إسطنبول، ولكن يبدو أن للأتراك قصة من قصص الإنقاذ لم يروها مشروع “الصالحين بين الأمم”، ربما لأنها لم تناسب “المعايير” كذلك.
ساعد مجموعة من الأتراك الدبلوماسيين مئات وربما الآلاف من العائلات اليهودية التركية بين عامي 1941و1944 للهروب من النازيين، وعلى الرغم من مرور أكثر من 74 عامًا على الحدث، بدأت تفاصيل عملية الإنقاذ تلك تتكشف شيئًا فشيئًا مع تفاصيل الفيلم الوثائقي “جواز السفر التركي“.
يكشف الفيلم تفاصيل إنقاذ 20 سفيرًا وقنصلاً تركيًا في المدن الأوروبية المختلفة في باريس ومارسيليا وبودابست وهامبورغ لمئات من العائلات اليهودية التركية من الألمان النازيين، فيكشف الفيلم وثائق دبلوماسية وشهادات من موظفي الحكومة التركية والدبلوماسيين الأتراك على عملية إنقاذ السفراء والقنصليين للعائلات من اليهود الأتراك مستغلين وضع تركيا المحايد في الحرب العالمية الثانية.
حاول السفراء الأتراك منح اليهود الأتراك الموجودين في المدن الأوروبية أو من لهم أصول تركية منهم جوازات سفر وبطاقات هوية تركية من أجل أن يكونوا تحت الحماية التركية ويسهل على تركيا تهريبهم من ألمانيا النازية، وهو ما وضع السفراء في مواقف حرجة، لأن ذلك يعني سحبهم لليهود الأتراك من القطارات التي كانت تحملهم مع غيرهم من اليهود الأوروبيين إلى مصير الموت، ووضعهم في قطارات تنقلهم عبر أوروبا إلى إسطنبول.
أوضح الفيلم أن مساعدة الدبلوماسيين الأتراك لليهود لم تكن تستهدف فقط اليهود الأتراك، حيث حاولوا مساعدة اليهود الأوروبيين من خلال منحهم بطاقات هوية مزورة، كما أوضح الفيلم الوثائقي أن عمليات الإنقاذ لم تكن مدعمة ولا برعاية الحكومة التركية، حيث شرع فيها كل دبلوماسي على حدة، فلم يكن من المعتاد وجود كلمة الهولوكوست وكلمة تركيا معًا في نفس الحكاية، إلا أن الفيلم يُبين أن لليهود الأتراك حكاية للهولوكوست ولكن بنهاية سعيدة.
لا يعرف مشروع “الصالحين بين الأمم” لقصة الدبلوماسيين الأتراك مكانًا، وذلك لأنه تاريخ لا يدعم الرواية الصهيونية في أحقيتها على الأرض، ولا تدعم جهود الكيان الصهيوني في الدعاية الإعلامية المبذولة منذ أكثر من 70 عامًا في نشر البروباجندا “الإسرائيلية” في التاريخ الذي تُعيد دولة الاحتلال كتابته من جديد بحسب مصالحها.
6 ملايين ضحية: أين المليون الضائع؟
صور من مركز تخليد ذكرى الهولوكوست “ياد فاشيم”
لقد تضمنت الهولوكوست إبادة جماعية لمجموعات غير اليهود، فلم تكن فقط محرقة اليهود كما روّج لها الكيان الصهيوني بعد احتلاله لأرض فلسطين، حيث امتلأت كتب التاريخ بعبارة الستة ملايين ضحية، وعلى الرغم من أنها تقريبًا موجودة في أغلب المصادر التي تتحدث عن الهولوكوست سواء كانت كتبًا أم دراما إلا أن مراكز تخليد ذكرى الهولوكوست في “إسرائيل” التي من بين مهماتها الروتينية منذ إنشاء “ياد فاشيم” (مركز تخليد ذكرى الهولوكوست في القدس المحتلة) أن تتعقب السجلات والوثائق والشهادات لتسجيل أسماء وأعداد ضحايا وقتلى الهولوكوست، لم تجد سوى 4.7 مليون ضحية بحسب ما يزعم المركز، وليس هناك أي سجلات حتى الآن تُثبت وجود أكثر من مليون ضحية، الأمر الذي يُبرره “ياد فاشيم” بأن الضحايا لا يمتلكون الجرأة للحديث عن المأساة أو لم يتبق أي من الشهود على قيد الحياة، إلخ.
حاول السفراء الأتراك منح اليهود الأتراك الموجودين في المدن الأوروبية أو من لهم أصول تركية منهم جوازات سفر وبطاقات هوية تركية من أجل أن يكونوا تحت الحماية التركية ويسهل على تركيا تهريبهم من ألمانيا النازية
لا توجد وثائق أو شهادات تُثبت العدد الحقيقي للأطفال ضحايا الهولوكوست كذلك، فلا توجد أرقام واضحة تُثبت العدد الفعلي للقتلى من الأطفال مثلًا، فمن بين مليون ونصف طفل كما تقول الإحصاءات الإسرائيلية لم يجد “ياد فاشيم” سوى نصف العدد تقريبًا من الضحايا بعد تسجيل أسمائهم والتأكد من هوياتهم من الوثائق أو الشهادات الشفوية.
على الرغم من بشاعة الهولوكوست كونها إحدى أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية الحديث، فإن هذا لم يمنع كثيرًا من اليهود الناجين من الهولوكوست من استغلال تلك المأساة الإنسانية لاحتلال أرض فلسطين وطرد شعبها وتهجيره قسريًا لتبرير وجودهم على أرض ليست أرضهم والتحول إلى صهاينة يقترفون الجرائم نفسها التي ارتُكبت في حقهم تجاه الشعب الفلسطيني وتحويلهم نكبة الفلسطينيين إلى أعياد لاستقلال “دولة” وكيان قومي قائم على بروباجندا دعائية وتاريخ مُزيّف.