تبدو صورة ولي العهد السعودي محمد ابن سلمان في جولاته الأخيرة إلى بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإسبانيا أقرب إلى موزع للصفقات والابتسامات ووعود بالمليارات ليكسب الولاءات ويشتري الذمم، لكن هل تمتلك المملكة السعودية في خزائنها ما يكفي للوفاء بما وعدت به من صفقات وما أعلنته من مشاريع ضخمة قيمتها أرقام فلكية؟
ابن سلمان.. البنك المتنقل
مع كل زيارة خارجية لولي العهد محمد ابن سلمان تطلق المملكة هالة إعلامية ضخمة، على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية كافة، تتخللها شعارات براقة وأحلام استثمارية ضخمة ووعود بقفزات قياسية في معدلات نمو الاقتصاد السعودي وتوظيف ملايين العاطلين واستقطاب أحدث أنواع التكنولوجيا العالمية.
وبالنظر إلى الجولات الأخيرة لولي العهد إلى عواصم غربية (بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإسبانيا)، فقد بدا الرجل في صورة المستثمر الكبير الذي يمتلك من الكنوز والخزائن ما يسيل له لعاب الغرب المتعطش للمال، ويعقد صفقات بالمليارات وإلى جانبها تفاهمات سياسية.
في بريطانيا وقع ولي العهد السعودي على عدة اتفاقيات في مجالات مختلفة واستثمارت تقدر بعشرة مليارات دولار في عشر سنوات، أما في زيارته للولايات المتحدة فقد وصلت الاتفاقيات الاستثمارية إلى 400 مليار دولار، يشير ابن لسلمان إلى أن اكثر من نصفها نُفِّذ.
في فرنسا وقع ولي العهد 19 برتوكول اتفاق بين شركات سعودية وفرنسية بقيمة إجمالية تزيد على 18 مليار دولار، ثم ختم زيارته إلى إسبانيا بتوقيع اتفاق إطاري لشراء سفن حربية تقدر قيمتها بنحو 2.2 مليار دولار.
في وقت تسعى فيه المملكة لتنويع اقتصادها في ظل هبوط أسعار النفط، يبدو أن معظم العناوين الرئيسية تذكر مبالغ ضخمة من المال
لكن الصورة التي لا تتناقلها وسائل الإعلام السعودية أن الاقتصاد السعودي سجل انكماشًا بأكثر من 1% في الربع الأخير من العام الماضي رغم تحسن أسعار النفط، كما تجاوز العجز في موازنة العام الحاليّ 52 مليار دولار مستندًا إلى سعر متوقع لبرميل النفط يبلغ 55 دولارًا.
الأهم من كل هذا أن الدين العام السعودي ارتفع بنسبة 38% خلال 2017 إلى نحو 117 مليار دولار مقابل نحو 84 مليار دولار في نهاية 2016، وهنا، يرى مراقبون أن المملكة توسع نشاطاتها بشكل يفوق طاقتها.
وفي وقت تسعى فيه المملكة لتنويع اقتصادها في ظل هبوط أسعار النفط، يبدو أن معظم العناوين الرئيسية تذكر مبالغ ضخمة من المال، وكأن المملكة لن تنظر في مشروع إذا كانت تكلفته أقل من مليار دولار، أو كما وصف ذلك ترامب بالفول السوداني بالنسبة للمملكة.
إلغاء مشاريع بمليارات الدولارات للحد من العجز في الموازنة
رؤية أم أضغاث أحلام؟
في ظل العجز الكبير بالموازنة العامة للمملكة يبدو الشعور الدائم لديها بأنها دولة ما زالت غنية ويمكنها تحمل تكلفة كل هذه المشاريع، لكن قد تكون الحقيقة أنها لن تستطيع تحمل المشاريع المعلنة حتى مع إدراج شركة أرامكو.
وهنا حساب بسيط يوضح ذلك، فمشروع مدينة “نيوم” وصفقة “سوفت بنك” وحدهما يصلان إلى 700 مليار دولار، إضافة إلى صفقة بقيمة 10 مليارات مع مصر لإنشاء مدينة ذكية، وصفقة مصفاة بترول مع ثلاث شركات هندية بقيمة 44 مليارًا، ومشاريع صغيرة أخرى بينها مصفاة في ماليزيا بقيمة 7 مليارات، ومجمع للبتروكيماويات في السعودية بقيمة 5 مليارات، ليكون المجموع النهائي 766 مليار دولار.
ورغم أن هذه المشاريع ليست كل ما تعاقدت السعودية بشأنها، فالافتراض أن نسبة مشاركة الرياض ستكون بالنصف، وهنا تبدأ الهالة التي رسمتها -أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم – في التلاشي بعد دخول تلك المشروعات حيز التنفيذ، ثم مرحلة التعثر ثم الفشل والتوقف.
أعلن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي الذي يرأسه محمد بن سلمان، في نوفمبر الماضي، إيقاف التعاقد على مشاريع تصل إلى 266.6 مليار دولار
إن حدث ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تتبنى فيها المملكة مشروعات لم تر النور، إذ قدرت هيئة الرقابة الإدارية، في ديسمبر 2014، عدد المشاريع التي تم اعتمادها ولم تنفذ في موعدها حتى الآن، بما يتجاوز 3000 مشروع، أهمها مشاريع الإسكان التي رُصد لها قرابة 66.6 مليار دولار قبل ثلاث سنوات، ولم ترَ النور حتى الآن، بالإضافة إلى مشاريع بناء أكثر من 12 ناديًا رياضيًا ومشاريع الصرف الصحي وتطوير الطرق المتعثرة في مدينة جدة ومكة المكرمة والرياض، ومشاريع المدن الصناعية التي يبدو العمل فيها بطيئًا للغاية.
وفي مارس/آذار 2017 أشارت هيئة المقاولين السعودية إلى أن 60% تقريبًا من المشاريع الحكومية متعثرة، وهو ما ضرب قطاع المقاولات الذي يمثل ما نسبته 20% من الناتج المحلي، ويعد الأكبر في أعداد القطاعات والأكثر تشغيلاً للعمالة الوافدة بالمملكة.
كما أعلن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي الذي يرأسه محمد بن سلمان، في نوفمبر الماضي، إيقاف التعاقد على مشاريع تصل إلى 266.6 مليار دولار، وبرر المجلس حينها، تلك الخطوة، قائلاً: “تم إيقاف التعاقد على تنفيذ المشاريع التي لا يتناسب حجم الإنفاق عليها مع العائد الاقتصادي والتنموي المرجو منها، ولا تسهم بفعالية في دعم النمو الاقتصادي أو تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين”.
المقامرة بكنز البلد الوحيد ليس الحل
ليست هذه جميع المشاريع الكبيرة التي وقعت عليها المملكة، لكن دعونا نفترض أن نسبة مشاركة الرياض في المشاريع العملاقة تصل إلى 383 مليار دولار أي النصف، فهل يمكن لها تحمل ذلك أم تكتفي المملكة بالبعض دون البعض الآخر؟
أسئلة قد يصعب الإجابة عنها، لكن موقع أويل برايس المتخصص في شؤون الطاقة العالمية يرى أن السعودية لا تستطيع تحمل النفقات التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، بسبب تذبذب أسعار النفط الذي يعتبر المورد الرئيسي للمال السعودي.
وبالنظر إلى حجم الأموال المتاحة في المملكة نجد أن صندوق الثروة السيادية في المملكة، وهو الأداة الاستثمارية الحكومية، يمتلك أصولاً بقيمة 250 مليار دولار أمريكي تحت الإدارة، ولا يزال سعر النفط أقل من السعر المستهدف البالغ 80 دولارًا للبرميل، وفي الوقت نفسه، فإن الميزانية السعودية لعام 2018 تحتوي على عجز قدره 52 مليار دولار أمريكي.
صحيفة فايننشال تايمز أجرت بعض الحسابات بشأن أرامكو وخلصت إلى أن الشركة ستحتاج إلى ارتفاع سعر التداول ليصل إلى 120 دولارًا للبرميل الواحد بحلول 2023
وحتى الآن، لا يبدو الاكتتاب العام في شركة أرامكو كافيًا لتغطية جميع النفقات المتعلقة بالمشاريع العملاقة، بينما يصر السعوديون أنفسهم على أن أكبر شركة نفط في العالم من حيث الاحتياطيات تبلغ قيمتها تريليوني دولار، لكن الخبراء المستقلين يشككون في ذلك.
في أفضل سيناريو رسمه أويل برايس، إذا افتراضنا أن قيمة أرامكو يبلغ احتياطها الإجمالي تريليوني دولار، فإن الـ5% التي تعتزم الحكومة في الرياض تعويمها ستجني عائدات تبلغ 100 مليار دولار، وإذا ما أضفنا هذا المبلغ إلى 250 مليار دولار متاحة حاليًّا في صندوق الثروة السيادية، فإن الحصيلة تنتهي بـ350 مليار دولار في أفضل الأحوال، وهذا يتنافى تمامًا مع ما هو معلن من مبالغ مرصودة للمشاريع الضخمة”.
كما أن صحيفة فايننشال تايمز أجرت بعض الحسابات بشأن أرامكو وخلصت إلى أن الشركة ستحتاج إلى ارتفاع سعر التداول ليصل إلى 120 دولارًا للبرميل الواحد بحلول 2023 لتكون قيمة أرامكو تريليوني دولار لكن إذا كان سعر النفط 64 دولارًا للبرميل فإن قيمة أرامكو لن تتجاوز 1.1 تريليون.
احتمالات النجاج معدومة
لعل ذلك ما دفع السعودية – أكبر مصدر عالمي للخام – للسعي عبر منظمة أوبك لرفع سعره إلى مئة دولار للبرميل، للإنفاق على حربها في اليمن وإصلاحاتها الاقتصادية وصفقاتها الدولية، الأمر الذي انتقده الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، معتبرًا الارتفاع الراهن في أسعار النفط غير مقبول.
وفي هذا الشأن، يرى الصحفي ليام دينينج في مقال نشره موقع بلومبرج الصحفي أن دفع السعودية أسعار النفط للارتفاع قد يلبي حاجات المملكة في المدى القريب لكنه يؤدي إلى مشاكل على المدى القريب، مشيرًا إلى أن الطريقة الوحيدة للتوصل إلى تقييم بقيمة تريليوني دولار هو تخيل حدوث أمر بطولي.
ويرى الكاتب أن المحرك الفعلي لقرارات السعودية هو ضرورة أن يكون سعر النفط في خانة المئات لتمويل مشاريعها وحروبها، ومع أن رفع السعر مغرٍ للسعودية إلا ان الخطر يكمن في اعتماد خطط ومشاريع ميزانية استنادًا إلى سعر 100 دولار للبرميل أو أكثر بينما تظهر الأرقام أن سعر النفط في السنوات الماضية لا يحافظ طويلاً على مكانه في خانة المئات وأنه يعاود الانخفاض بسرعة فيعرض مشاريع المملكة وميزانيتها للخطر.
فما الخيارات الأخرى غير زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين المقيمين، وأخذ الأموال طوعًا أو كرهًا من الأمراء ورجال الأعمال لتتمكن المملكة الغارقة في صراعات حروب وصراعات إقليمية من الوفاء بالتزاماتها المالية أمام الغرب الذي بدا مستكينًا طالما ان العنوان الأبرز في التعامل مع المملكة هو وعود بأموال وإصلاحات.