ألقى الرئيس الأمريكي جو بايدن بقرار تنحيه عن الترشح لخوض انتخابات الرئاسة المقررة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، حجرًا ثقيلًا في مستنقع السياسة الأمريكية المضطرب بطبيعة الحال، ما تسبب في فورة ارتباك شديدة بعثرت معظم الأوراق، وفرضت واقعًا جديدًا دفع الجميع لإعادة النظر في التعاطي معه.
بايدن (81 عامًا) وبشكل مفاجئ وفي الوقت الذي أصر فيه على خوض هذا الماراثون وهزيمة منافسه الجمهوري دونالد ترامب، أعلن تنحيه ودعمه لنائبته كامالا هاريس (59 عامًا) لخلافته في السباق نحو البيت الأبيض، في واقعة لم تعرفها الساحة الأمريكية منذ عام 1968 حين قرر الرئيس الأسبق ليندون جونسون عدم الترشح لولاية ثانية، مع الفارق الواضح في أن الرئيس الحالي بدأ بالفعل حملته الانتخابية مقارنة بسلفه الذي قرر التنحي مبكرًا.
يأتي هذا القرار – الذي قوبل بترحيب كبير من الديمقراطيين وترقب من الجمهوريين – في وقت يعاني فيه المشهد السياسي الأمريكي من أجواء مشحونة جراء محاولة اغتيال ترامب التي ألقت بظلالها القاتمة على الساحة برمتها، فأي تأثير يمكن أن تُحدثه تلك الخطوة في السباق الانتخابي المنتظر الذي لم يتبق عليه سوى 104 أيام فقط؟
أخيرًا.. بايدن يرضخ للضغوط
تعرض بايدن منذ مناظرته مع ترامب في 28 يونيو/حزيران الماضي إلى موجات متلاحقة من الانتقادات التي تبعتها ضغوط، لحثه على الانسحاب من السباق ومنح الشعلة لمرشح آخر قادر على مواجهة الجمهوريين ومنافسة ترامب الذي بدأ أكثر حيوية وحماسة من المرشح الديمقراطي.
وطالب عدد من النواب الديمقراطيين بايدن بإعلان تنحيه طواعية عن الماراثون، على رأسهم القيادي في الحزب وعضو لجنة الخدمات العسكرية بمجلس النواب فى الكونغرس آدم سميث الذي قال “أداء الرئيس بايدن خلال مناظرته مع منافسه ترامب كان كاشفًا للحالة الصحية للرئيس بايدن على نحو يدعو للقلق”، مطالبًا إياه بالتخلي عن فكرة الاستمرار في السباق الرئاسي في ظل ظروفه الصحية الحالية.
سميث أشار إلى أن هناك حقيقة لا تقبل الشك يجب على بايدن مراعاتها، وهي أن الناخب الأمريكي لم يعد مقتنعًا بأدائه العام في تلك الظروف الصحية التي يعاني منها، ومع تقدمه في السن لن يكون قادرًا على الاستمرار في منصبه لفترة رئاسة قادمة، فيما بدا القلق يخيم على الديمقراطيين من تراجع حظوظهم في حال إصرار بايدن على الاستمرار في الترشح.
وفي المقابل تجاهل بايدن كل تلك الضغوط والانتقادات، التي وصلت إلى تراجع بعض المانحين لحملته الانتخابية، معتبرًا نفسه الشخصية المثلى لإدارة الولايات المتحدة في هذا التوقيت، مؤكدًا بأنه لن ينسحب من الترشح إلا “إذا جاء الرب وأخبرني بذلك” على حد قوله.
ثم جاء الإعلان عن إصابته بفيروس كورونا، حسبما نقلت عنه السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارين جان بيير، التي قالت إنه سيعزل نفسه في منزله بولاية ديلاوير وسيواصل القيام بجميع واجباته خلال فترة العزل، وهو الخبر الذي فسره البعض على أنه فرصة للرئيس لإعادة النظر في وضعيته الانتخابية بما يحفظ ماء وجهه.
وعلى مدار اليومين الماضيين، وفي خضم الضغوط التي تعرض لها بايدن، لا سيما بعد إطلاعه على نتائج استطلاعات الرأي التي جرت خلال الآونة الأخيرة وكشفت تراجع شعبيته بشكل ملحوظ أمام منافسه الجمهوري، ليس في الولايات الـ6 الحاسمة التي يمكن أن تقرر الانتخابات فقط، ولكن كذلك في الولايات ذات المزاج الديمقراطي مثل فرجينيا ومينيسوتا، ومن ثم لم يجد أمامه سوى التنحي والانسحاب من السباق الانتخابي حسبما ذكرت وكالة “رويترز”.
قوبل قرار التنحي بترحيب كبير من الديمقراطيين الذين يرون أن إبعاد بايدن عن الانتخابات قد يعزز فرص الحزب في المنافسة مرة أخرى، بعدما مالت الكفة بشكل ملحوظ لصالح الجمهوريين خلال الأيام الماضية، وإن كان الأمر يتوقف على اختيار المرشح المناسب القادر على مواجهة ترامب في معركة يتوقع أن تكون تكسير عظام بين الطرفين.
كامالا هاريس.. المرشح الأبرز
وضع بايدن الديمقراطيين في زاوية ضيقة بإعلان دعمه لنائبته كامالا هاريس لخلافته في السباق الانتخابي، وهو الترشيح الذي لا بد أن يحظى بتأييد الغالبية من قادة الحزب وأنصاره لعدة أسباب، على رأسها أنه ترشيح الرئيس وفي الوقت ذاته فإن هاريس تعد المرشح الجاهز حاليًا لخوض السباق في هذا الوقت الضيق، بحكم منصبها على مدار 4 سنوات كنائبة للرئيس.
وبعد ساعات قليلة من تنحي بايدن ودعمه لهاريس، أعلن قرابة 107 أعضاء برلمانيين من الحزب الديمقراطي دعمهم لها كمرشحة للرئاسة، مقابل عضوين فقط طالبا بفتح باب الترشح لانتخابات تمهيدية خلال الأيام المقبلة، في مقابل نحو 104 أعضاء لم يحددوا موقفهم بعد، ومن أبرز من أعلن دعمه لها الرئيس الأسبق بيل كلينتون وهيلاري كلينتون، وحاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو، وحاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، وكذلك الزعماء الديمقراطيون في الـ50 ولاية أمريكية.
وفي المقابل امتنع عدد من القادة الديمقراطيين عن إعلان دعمهم لهاريس، منهم الرئيس الأسبق باراك أوباما ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، فيما ذهبت تقارير أخرى إلى اعتزام بعض الأسماء المنضوية تحت لواء الحزب الديمقراطي الترشح من بينهم السيناتور جو مانشين، وذلك بعدما تواصل معه مانحون للنظر في الترشح للرئاسة.
وفي رسالة وجهتها لمؤيديها، أعلنت هاريس بدء حملتها الانتخابية خلال الأيام المقبلة، معربة عن تشرفها بالحصول على تأييد بايدن لخوض تلك الانتخابات، لافتة إلى أن الظرف الحالي والانتخابات المقبلة ليست عادية، فيما وجهت دعوتها للأميركيين للتبرع لحملتها.
وعلى الفور وبعد ساعات من تلك الرسالة أعلنت مجموعة “أكت بلو” (المسؤولة عن جمع التبرعات لحملة الانتخابات الرئاسية للحزب الديمقراطي، وتسهل جمع التبرعات عبر الإنترنت للمرشحين الديمقراطيين) عن جمع 46.7 مليون دولار لدعم حملة هاريس، لتسجل أكبر عملية جمع تبرعات ليوم واحد في 2024 لصالح الحزب الديمقراطي.
بورصة المرشحين.. ليست هاريس وحدها
رغم اعتقاد البعض أن هاريس هي الخيار الأكثر جاهزية لتمثيل الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، حيث تتمتع بشخصية قيادية استقلالية بشكل كبير، ولها سجل حقوقي واجتماعي مُرضي بالنسبة للأمريكيين، وحققت نجاحات كبيرة في بعض الملفات على رأسها ملف الإجهاض، والحزب الديمقراطي يتجمّع بسرعة حولها، لكن آخرين يرون أنها ليست المؤهلة لهذا المنصب في الوقت الحالي، لا سيما بعد إخفاقها في ملفات حيوية مثل الهجرة، هذا بخلاف أنها محسوبة على بايدن في فشله في التعاطي مع العديد من القضايا التي تهم الناخب الأمريكي.
ويرى أنصار هذا الرأي أن بايدن الذي تأخر في قرار الانسحاب، فتح المجال أمام الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي باختياره هاريس التي يرون أنها أضعف من غيرها من المرشحين المحتملين، كونها من المحتمل أن تواجه تحديين كبيرين يتعلقان بالنوع والعرق في مجتمع ذكوري أبيض، هذا بخلاف الثقل السياسي والجماهيري الذي يتمتع به مرشحون آخرون مقارنة بمرشحة بايدن.
وعليه وفي ظل تحفظ البعض على اختيار هاريس لخوض السباق، فهناك أسماء أخرى قد تفرض نفسها على المشهد خلال الأيام القادمة، رغم حالة الدعم الشكلي للديمقراطيين لنائبة الرئيس، أبرزهم:
غريتشن ويتميرت (53 عامًا).. تشغل منصب الحاكم الـ49 لولاية ميشيغان منذ يناير/كانون الثاني عام 2019، وتتمتع بشعبية كبيرة في تلك الولاية، لها نشاط بارز في الحقل التعليمي والصحي ولديها رؤية ذات شعبية كبيرة في استراتيجيات الإصلاح البنيوي.
جافين نيوسوم (57 عامًا).. حاكم ولاية كاليفورنيا، وعمدة مدينة سان فرانسيسكو السابق، ويعد من الرافضين لإزاحة بايدن عن الماراثون الانتخابي، حيث قال في مقابلة مع شبكة “إم إس إن بي سي” عقب مناظرة بايدن – ترامب إنه “لا يوجد حزب يدير ظهره لمرشحه بسبب أدائه في إحدى المواجهات”.
جي بي بريتزكر (59 عامًا).. من أغنياء أمريكا، إذ تبلغ ثروته 3.5 مليار دولار، وهو حاكم ولاية إلينوي الـ43، شريك إداري ومؤسس مشارك لشركة بريتزكر كروب، وعضو عائلة البريتزكر صاحبة سلسلة فنادق “حياة” وأحد أشد المعارضين لترامب وخاض ضده جولات سجالية قبل ذلك أكثر من مرة.
ميشيل أوباما (60 عامًا).. رغم أنها أكدت أكثر من مرة عدم اهتمامها بالترشح للرئاسة، فإن حظوظها في خوض التجربة كبيرة كونها صاحبة شعبية وجماهيرية كبيرة، فسبق أن تصدرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة “إبسوس” قبل ذلك بفارق كبير عن ترامب (50% مقابل 39% لترامب).
وهناك أسماء أخرى مطروحة على بورصة التكهنات من بينها وزير النقل في حكومة بايدن الحالية، بيت بوتيجيج (42 عامًا) الذي شغل منصب عمدة مدينة ساوث بيند الصغيرة بولاية إنديانا عام 2011، كذلك حاكم بنسلفانيا، جوش شابيرو (51 عامًا) الذي يتمتع بدعم كبير داخل الولاية.
كيف يتم اختيار المرشح؟
هناك طريقتان لاختيار الحزب الديمقراطي لمرشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حسبما نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير لها، هما: التصويت الافتراضي المبكر الذي يضمن مرشحًا جديدًا يتم الاتفاق عليه قبل المؤتمر العام للحزب والمقرر له 19 أغسطس/آب القادم، ويحصل على أغلبية تصويت المندوبين.
وفي حالة عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية يتم اللجوء إلى الطريقة الثانية وهي المؤتمر المفتوح، حيث يتنافس أكثر من مرشح، وهو السيناريو الذي لم يعرفه الديمقراطيون منذ عام 1968، وهنا قد يتحول المؤتمر إلى ما يشبه معارك انتخابية مصغرة، تصل فيها المنافسة إلى مستويات متقدمة من الفوضى، وفي ظل ضيق الوقت فإن الحزب قد يجد نفسه في مأزق حقيقي.
وهنا إذا ما تعدد المتنافسون على منصب المرشح الديمقراطي فإن الحزب قد يجد نفسه أمام أعداد لا حصر لها من الجولات الانتخابية التمهيدية، وهو أمر مرهق سياسيًا وله تداعيات ليست بالجيدة على حظوظ الحزب، كما حدث في 1924 حين احتاج الديمقراطيون إلى 103 جولات من التصويت ليستقروا في النهاية على مرشح واحد يمثلهم، ووقع الاختيار وقتها على جون ديفيس، الذي مُني بهزيمة قاسية أمام الجمهوري كالفن كوليدج.
بعثرة أوراق ترامب
بعيدًا عن محاولة ترامب وحملته التقليل من قرار تنحي بايدن عن السباق، وأنهم ماضون في ذات الاستراتيجية والأجندة الانتخابية بصرف النظر عن هوية المرشح القادم، إلا أن ما حدث سيكون له بلا شك تداعياته القوية والمؤثرة على السباق الانتخابي المقبل ونتائجه المتوقعة، وذلك من زاويتين:
أولًا: افتقاد حملة ترامب لأحد أبرز محاورها الاستراتيجية في استهداف الديمقراطيين، وهي صحة بايدن، التي كانت الضلع الأهم في هجوم الجمهوريين على الرئيس وإبداء المخاوف بشأن صحته المتراجعة وتأثير ذلك على الأداء السياسي العام ومستقبل الولايات المتحدة.
وبعد غياب تلك الركيزة التي انتفت تمامًا بانسحاب بايدن، ليس هناك من سبيل أمام حملة ترامب سوى البحث عن أدوات أخرى لكسب ثقة الناخب الأمريكي وتفتيت شعبية الديمقراطيين، وهو ما سيكون له تبعاته بالفعل على حظوظ الطرفين في الماراثون القادم.
ثانيًا: بهذا الانسحاب يتخلى بايدن عن الضغوط الانتخابية وحساباتها التي كان لها أثرها بطبيعة الحال على أدائه السياسي في ضوء المقاربات والحسابات الانتخابية، ومن ثم فلديه اليوم أريحية كاملة في التعاطي مع مختلف المسائل دون ضغوط، ما قد يؤهله لتحقيق إنجازات عدة في بعض الملفات الداخلية والخارجية خلال الأشهر المتبقية من حكمه.
وعليه يمكن القول إن هناك فرصة جيدة أمام بايدن حتى نهاية هذا العام لتحسين جماهيرية الحزب الديمقراطي ومرشحه في الانتخابات المقبلة، عبر أداء مغاير نسبيًا عما كان عليه في الفترات الماضية، بما يعالج مظاهر القصور التي عانى منها منذ بداية حكمه، واستعادة شعبية الديمقراطيين المتراجعة بسبب فشله في التعاطي مع حزم من الملفات التي على رأسها الهجرة والضرائب، داخليًا، وحرب غزة والحرب الأوكرانية، خارجيًا، ولذا يتوقع أن تشهد الأشهر المتبقية من حكم بايدن أداءً مختلفًا بشكل كبير عما كان عليه طيلة الـ42 شهرًا المنقضية.
وفي الأخير فإن صدمة انسحاب بايدن من السباق الانتخابي القادم، وإن كان مطلبًا ديمقراطيًا، لكنه سيلقي بظلاله المؤثرة على المشهد السياسي الأمريكي، داخليًا وخارجيًا، ليواجه الحزب الديمقراطي وحتى منتصف أغسطس/آب القادم تحديًا خطيرًا سيشكل بصورة كبيرة ملامح مستقبله السياسي، فيما يعد ترامب الخاسر الأكبر من تلك الخطوة التي لم تكن في حساباته ولا حسابات حملته.