يبقى العراق في دوامة الخوف من هاجس التزوير في الانتخابات، نتيجة الإرث الذي حمله على مدى 15 سنة، من تجارب فاشلة لتلك العمليات الانتخابية بمختلف أشكالها، سواء كانت نيابية أم محلية أم حتى الاستفتاءات، فشلت في عكس إرادة الناخب العراقي بشكل صحيح، حالها حال كل العمليات الانتخابية التي تُجرى في دول العالم الثالث وغالبًا ما تشوبها عمليات التزوير وتتبعها خلافات ربما ترتقي لاحقًا إلى الاحتكام للسلاح لحلها.
وبحكم التجربة التي خرجنا بها من كل العمليات الانتخابية التي جرت بعد 2003 ولحد الآن في العراق، نجد بالنهاية أنها مجرد عملية روتينية تقوم بها المفوضية العليا للانتخابات لا جدوى حقيقية منها، طالما أن تشكيل الحكومة العراقية مرهونًا بالخارج، سواء الجارة إيران أم دولة الاحتلال الأمريكي، تلك الدولتان المسؤولتان عن تنصيب وتسمية من هو صالح لحماية مصالحهما في العراق، ليكون بأهم المراكز التنفيذية، بدءًا من رئاسة الوزراء ومرورًا برئيس البرلمان وانتهاءً برئيس الجمهورية.
وبالتالي فإن مجلس النواب سواء جاء بعملية تزوير أو عملية نزيهة ليس له من الأمر شيء سوى مشاهدة ما يدور حولهم حال المتفرجين بملعب لكرة السلة.
إن الخوف من التزوير الذي يُصرَّح به كل السياسيين العراقيين، ويجعلهم يؤيدون هذا الإجراء الذي تتخذه مفوضية الانتخابات تارة، ويؤيدون الإجراء المناقض له تارة أخرى، نابع من عدم وجود الثقة فيما بينهم، ويعلم السياسيون أكثر من غيرهم، أن حيادية المفوضية موضع شك، وهو السبب الرئيسي في هذا الهاجس والخوف الكبير من التلاعب بنتائج الانتخابات، ذلك لأنهم جميعًا لديهم ممثلين في تلك المفوضية، والجميع يعلم أنهم يحاولون انتهاز الفرصة للتلاعب بالنتائج لصالح انتماءاتهم.
لكن الأمور لم تعد مثل السابق، فحتى الكتل السياسية الشيعية التي تدير أمور البلاد منذ 2003، لم تعد كتلة موحدة بمواقفها، ودبَّ التنافس بين أحزابها المختلفة، وبرز لاعبون سياسيون جدد في البيت الشيعي، جعلها تشكك بكل عمل تقوم به المفوضية، وتنظر إليه بعين الريبة، وكثير من تلك الشكوك حقيقية، لأنهم خاضوا الكثير من عمليات التلاعب تلك، حتى بدأت تسود ثقافة بين أولئك السياسيين، بأن لا انتخابات من دون تزوير، حسب ما صرح به كثير من السياسيين.
قال الدكتور “باسل حسين” نائب رئيس مركز العراقي للدراسات الإستراتيجية: “هناك شكوك كبيرة بعمل هذه الأجهزة، بدءًا من الشركة الموردة إلى عمل الأجهزة وآلية تشفيرها”
هذا الأمر جعل المفوضية وبضغوط من تلك الكتل السياسية، تعمل على إحداث سلسلة من التغيرات والإجراءات التي تزعم أنها تضمن من خلالها عدم التزوير، حتى انتهى بها المطاف مؤخرًا إلى تجربة استخدام أجهزة العد والفرز الإلكتروني لتتجاوز الفرز اليدوي الذي تُلقى على كاهله كل عمليات التزوير في الانتخابات السابقة، عملية العد والفرز الإلكتروني التي تجاوزتها الدول المتقدمة لكثرة ما ارتكبت بها من أخطاء فنية، وعادوا إلى الفرز اليدوي لاعتباره أكثر نزاهة.
ولتسليط الضوء على عمل أجهزة العد والفرز الإلكتروني باختصار، فهي تأخذ صورة (Scanner) من ورقة الاقتراع، بعد أن يؤشر عليها الناخب للكيان السياسي الذي يريده، ثم يقوم الجهاز بالعد لتلك الأوراق ويسقط الورقة الانتخابية في صندوق الاقتراع الذي يكون الجهاز مركب فوقه، ثم يرسل البيانات من المحطة الانتخابية إلى المركز الانتخابي، وهناك يتم فرز البيانات وإرسالها إلى القمر الصناعي، بطريقة غير مشفرة عبر الأثير، وتجمع بمركز في دبي بالإمارات، ويتم معالجتها وإرسال البيانات إلى دولة أخرى مجاورة لم يتم تسميتها، بسبب عدم وجود محطة أرضية بالعراق، بعد ذلك ترسل إلى العراق بطريقة مشفرة، مما يعني أن البيانات ترسل بالأثير بشكل غير مشفر.
وفي ندوة عقدها مركز العراقي للدراسات الإستراتيجية في إسطنبول في 20 من أبريل/نيسان هذه السنة، عن أثر استخدام العد والفرز الإلكتروني على نتائج الانتخابات، قال الدكتور باسل حسين نائب رئيس المركز: “هناك شكوك كبيرة بعمل هذه الأجهزة، بدءًا من الشركة الموردة إلى عمل الأجهزة وآلية تشفيرها”، وتوقَّع الدكتور باسل حدوث فوضى كبيرة خلال الانتخابات بسبب تلكأ عملها.
واستفاض بشرحٍ تفاصيل كثيرة تدل على أن هناك نيَّة مبيتة لضرب العملية الانتخابية بالصميم من خلال استخدام هذه الأجهزة، حيث “أحاط الغموض توقيع العقد مع الشركة الكورية الذي بلغت قيمته ما يقدر بـ100 مليون دولار”.
وأوضح الدكتور باسل قائلاً: “من مراجعتنا لموقع التحليل العالمي للشركات، تبين أن تلك الشركة المسماةmiru data system وجدنا أنها شركة كورية صغيرة لا يتجاوز عدد موظفيها الـ24 عاملاً، وآخر تحديث للشركة في عام 2016، ولم نشهد للشركة أي نشاط تجاري بعد هذا العام، والغريب في الأمر أن هذه الشركة أغلقت موقعها الرسمي، وهذا ما تقوم به عادةً الشركات في حالة إفلاسها أو إغلاقها”، فهل من المعقول أن شركة بهذا الحجم قادرة على تصنيع وتوريد أجهزة بعدد 95 ألف جهاز مع خوادمها والتعهد بالقيام بعمليات التدريب عليها؟
يشير بعض الخبراء أن التصويت الإلكتروني لا يخلو من تلاعب بنتائج العد و الفرز، ومن الممكن إدخال بطاقة ذاكرة (Memory Card) وبرمجتها لتغير النتائج
وأضاف أن الجهاز المورد إلى العراق، وهو نفس الجهاز الذي تم بيعه إلى قيرغستان في انتخابات 2015 الرئاسية، وأثبت فشله، وتوقفت الشركة عن بيعه، أما موضوع الوسط الناقل للبيانات التي ترفع إلى القمر الصناعي بشكل غير مشفر، فهذه العملية تحمل مخاطر التلاعب بالبيانات بشكل كبير”.
بالمقابل قال القيادي في تيار الحكمة الأستاذ فادي الشمري: “في تجربة أجريت لهذه الأجهزة، استخدم فيها 84 جهازًا لمدة 3 ساعات، تعطل منها جهازين، وحدث خلل فني في إرسال البيانات، أما جهاز التحقق فقد عمل بشكل جيد، لكن تعطلت خمسة منها بسبب سوء استخدام الموظفين لها، كما حدث خطأ بقراءة ورقة باطلة مؤشر فيها على كيانين، لكن تم احتسابها من قبل الجهاز على أنها صالحة ومؤشر فيها لأحد الكيانات”، وأشار إلى أن في كل العراق تم اختبار 1000 جهاز فقط، رغم أن عضو مجلس المفوضين في المفوضية رزكار حمه محيي الدين قال: “المفوضية ستجري عمليات اختبار لجميع الأجهزة الموزعة في عموم العراق”، لكن الشمري استدرك قائلاً: “يجب أن لا نُشيطن المفوضية للانتخابات، فهي تحاول أن تجرب كل الخطط للوصول إلى أفضل حالة بعملها وأقلها تزويرًا”.
ويشير بعض الخبراء، أن التصويت الإلكتروني لا يخلو من تلاعب بنتائج العد والفرز، ومن الممكن إدخال بطاقة ذاكرة (Memory Card) وبرمجتها لتغير النتائج.
لكن لماذا إذًا الخلافات مستعرة بين السياسيين بشأن هذه الآلية؟ شريحة من السياسيين وبالأخص المقربين من إيران، يصرون على عدم العمل بهذه الأجهزة خوفًا من التزوير، وشريحة أخرى وهم المقربون من الولايات المتحدة يصرون على استخدام هذه الأجهزة خوفًا من التزوير إذا كان الفرز يدويًا.
وفي هذا السياق اتهم النائب عن ائتلاف دولة القانون محمد الصيهود، الولايات المتحدة الامريكية بمحاولة تزوير نتائج الانتخابات البرلمانية، وأنها وراء استخدام الجهاز الجديد لقلب العملية السياسية في العراق، بينما حذر القيادي في اتحاد القوى السنية عبد القهار السامرائي من احتمالات التلاعب بنتائج الانتخابات بالضغط على المفوضية لاتباع الخطة (ب) في عمليات العد والفرز أو اتباع آليات أخرى كاعتماد النقل عبر الأقراص أو ما شابه ذلك.
نزاهة عملية الانتخابات لا تبدأ بتحديث وسائل وآليات العملية الانتخابية، إنما الحل يكمن بتغير العملية السياسية التي أفرزت هذه النوعية من السياسيين
من هذا يتبين لنا أن المخاوف بتزوير الانتخابات نابعة من انعدام الثقة بين المكونات السياسية العراقية، فلكل مكون سياسي أجندة سياسية مغايرة عن الآخر، ولو كان هذا الاختلاف في موضوع كيفية اتخاذ أفضل السبل لخدمة المواطن، لقلنا عنها إنها ظاهرة صحية وندعو لهذا النوع من التنافس.
لكن حقيقة الأمر، أن التنافس بين السياسيين يدور حول كيفية إقصاء الطرف المنافس وإلغائه من الساحة السياسية، ولدينا على ذلك شواهد كثيرة، من إقصاء سياسيين وأحزاب كاملة عن المشهد السياسي وبأبشع الوسائل، بل وصل الأمر لتهميش مكونات أصيلة من الشعب العراقي، ومحاولة إحداث تغير ديمغرافي حقيقي في البلد، لينفرد به مكون واحد، من هنا تأتي المخاوف لكثير من الكتل لأي تحديث تقوم به المفوضية في أساليب عملها والنظر إليه بنظرة الريبة والشك.
إن نزاهة عملية الانتخابات لا تبدأ بتحديث وسائل وآليات العملية الانتخابية، إنما الحل يكمن في تغيير العملية السياسية التي أفرزت هذه النوعية من السياسيين الذين يتربص أحدهم بالآخر ويحاول إقصاءه حتى لو جعل البلد خرابًا.