مع هكذا أصدقاء .. الاستقرار هو الترنيمة الدائمة والعلامة المميزة للملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز. ولذلك فهو على استعداد لدفع أي ثمن من أجل الحفاظ عليه. تراه تارة يطلق سراح الجهاديين من السجن ليذهبوا للقتال في سوريا وتارة يتراجع عن سياسته تلك ويصدر إنذاراً لهم بالعودة إلى وطنهم خلال أسبوعين. وتراه يوماً قادراً على إثارة التوترات الطائفية بين السنة والشيعة وفي يوم آخر تراه متآمراً وممولاً للانقلابات العسكرية في مصر. وتراه يوماً يدعو إلى إصلاحات بسيطة داخل البلاد بينما يعلن في الوقت نفسه الإسلاميين جماعات إرهابية خارجها.
إلا أن الأمر الذي لا يستطيع ضمانه من خلال هذه الآليات المعقدة هو: الاستقرار، سواء كان ذلك داخل المملكة أو داخل الدول الحليفة لها. فعشية زيارة باراك أوباما إلى المملكة يوم الجمعة، تعرض بيت آل سعود لهزات كبيرة، إذ أمر الملك هيئة البيعة، وهي الجهة التي تناط بها مهمة نقل السلطة داخل بيت آل سعود، بتعيين خليفة لولي العهد الحالي الأمير سلمان بعد أن تؤول السلطة إليه.
ما من شك في أن أعمار هؤلاء الأشخاص، ناهيك عن وهنهم بدنياً، تملي درجة الحساسية التي تتصف بها عملية تعيينهم في هذه المناصب. فالسن المتقدمة لهذه النخبة (تسعون عاماً للملك عبد الله وتسعة وسبعون عاماً للأمير سلمان) تؤذن، لا ريب، بسلسلة من المعارك على القيادة مستقبلاً الأمر الذي سيسهم في تآكل الاستقرار. ولذلك، فإن من الأهمية بمكان تعبيد الطريق أمام الأبناء من الجيل الثاني، ثلاثة منهم يشغلون مناصب حساسة هم: الأمير سعود الفيصل في منصب رئيس الوزراء، والأمير محمد بن نايف في منصب وزير الداخلية، والأمير متعب، وهو ابن الملك عبد الله، في منصب وزير الحرس الوطني.
والآن، أصدر الملك عبد الله مرسوماً يعين بموجبه الأمير مقرن خليفة لسلمان، مع العلم أن مقرن رغم بلوغه الثامنة والستين من عمره فهو الأصغر سناً في ترتيب الأمراء الإخوة. صياغة المرسوم بدت غريبة نوعاً ما، إذ بدأت بالنص على أن سلمان نفسه هو الذي طلب من مقرن أن يكون ولي عهد له، ثم مضى ليؤكد أن المرسوم غير قابل للنقض أو التفسير على نحو آخر من قابل كائن من كان، ولعل مثل هذا النص المانع لأي تبديل فيه يهدف إلى قطع الطريق مستقبلاً على أي مستخلف في السلطة إن راودته نفسه تغييراً أو تبديلاً.
لم يرد شيء بخصوص ابن الملك عبد الله الأمير متعب، والذي يتوقع في مرحلة لاحقة أن تتم ترقيته إلى منصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وهي خطوة على طريق تعيينه في منصب ولي عهد الأمير مقرن.
لقد أضعف ترتيب المستخلفين موقع الأمير سلمان بشكل كبير، ولعله بدد الفرصة أمام أخ غير شقيق آخر هو الأمير أحمد بن عبد العزيز.
إذن، من تداعيات هذا المرسوم أنه يبعثر أوراق مجموعة متنفذة ضمن النخبة الحاكمة. ويمكن استشعار غضب أفراد هذه المجموعة من خلال تغريدة صادرة عن الأمير خالد بن طلال، وهو شقيق الأمير الوليد بن طلال الذي يأتي في المرتبة السادسة والعشرين حسب تصنيف مجلة فوربس لأثرى أثرياء العالم. فقد توعد خالد بن طلال بالكشف عن تفاصيل “الصفقة المخزية التي يتم إبرامها” من قبل حارس باب الملك مع حلفاء في الداخل والخارج. فبالنسبة لهذه المجموعة بات خالد التويجري، وهو ابن عبد العزيز التويجري، شبيهاً بالكاردينال ريشيليو صاحب الحظوة عند الملك الهرم والشخصية المكروهة.
كل ذلك سيؤثر على الولايات المتحدة وعلى أوباما، فالتويجري، والأمير بندر، الذي أعلن هذا الأسبوع تعافيه من المرض وعودته إلى ممارسة نشاطه، وكذلك محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، كلهم غارقون حتى آذانهم في المؤامرات والدسائس داخل بلادهم وخارجها.
ما يجمع هؤلاء معاً ليس الخوف من إيران، رغم ما بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من خلافات حول طريقة التعامل معها. وليس الحرب الأهلية في سوريا، رغم أن الإمارات العربية المتحدة ما تزال تحتضن عدداً من أفراد عائلة الأسد بينما تصر المملكة العربية السعودية على تغيير النظام في دمشق. إن الذي يجمعهم معاً هو الحاجة إلى الاستمرار في التحكم بمقاليد الأمور في مصر التي أصابوا في اعتبارها اللاعب الأهم القادر على تغيير الأوضاع في العالم العربي.
من بين هؤلاء الثلاثة، استثمر محمد بن زايد كل أوراقه السياسية في تمويل استمرار القمع في مصر؛ بشكل تجاوز أشكال القمع التي شهدتها عهود حسني مبارك وأنور السادات وحتى جمال عبد الناصر. ففي هذا الأسبوع وحده أصدرت محكمة مصرية أكبر عدد من أحكام الإعدام الجماعية في تاريخ البلاد، إذ حكمت بالإعدام على 529 من أنصار جماعة الإخوان المسلمين دفعة واحدة. محمد بن زايد كان الوجهة التي يمم نحوها عبد الفتاح السيسي بعد شهور من التقلب والتردد، وذلك قبيل استقالته من منصب وزير الدفاع وإعلان ترشحه للرئاسة. من الجدير بالذكر أن أوباما أيضاً قابل محمد بن زايد مؤخراً.
بعد خمسة أعوام من الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة والذي دعا فيه إلى صفحة جديدة مع العالم العربي، مايزال أوباما بلا سياسة سواء تجاه مصر أو تجاه الشرق الأوسط بأسره، وكل ما لديه هو القعود عن فعل أي شيء ذي بال. وإذا كانت أمريكا اختارت القعود إلى جانب السياج في وضع المتفرج فحسب أثناء الصحوة العربية، فلا هي حمت عملاءها المستبدين من الغضب الشعبي ولا هي وقفت إلى جانب التحول الديمقراطي الذي تبع ذلك، فإنها الآن تسحب بعيداً عن السياج من قبل أقدم حلفائها في المنطقة: المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والأردن وإسرائيل.
لم تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الأوسط لأنها تجد نفسها باستمرار “تشفط” باتجاهه كلما حاولت الابتعاد. وفي نفس الوقت لا تجدها قادرة على ضمان التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية. فوزير الخارجية الأمريكي جون كيري يستغل كل فرصة متاحة ليؤكد للجنرالات في مصر بأن التخفيضات المحدودة في المساعدة العسكرية الأمريكية والتي أعلن عنها بعيد المجازر الأربع التي ارتكبها العسكر في آب (أغسطس) الماضي سوف يتم التراجع عنها. ولكن، سواء كان صديقاً أم خصماً، لم يعد كيري يتمتع بنفس القدرة على التأثير على جنرالات مصر، بل بات يفقد نفوذه شيئاً فشيئاً. قد يتمكنون عاجلاً أم آجلاً من الحصول على طائرات الأباتشي العمودية، ولكن في نفس الوقت لن تكسب أمريكا مقابل ذلك المزيد من النفوذ داخل مصر.
لن يصعب على المرء تحديد ملامح المخاطر المحدقة جراء العودة إلى الموقف التقليدي القديم الداعم للملكيات والأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط. فالعالم العربي لم يعد كما كان إذ هزت الثورات العربية أركانه وخضته حتى النخاع. إن أي سياسة أمريكية تجاه الشرق الأوسط عمادها الدسائس الداخلية في بيت آل سعود، ضمن دعائم واهية أخرى، قد تكون لها نتائج كارثية ولن يكتب لها البقاء طويلاً ، على كل حال.
الحافز الحقيقي من وراء قرار بيت آل سعود تصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية كان تقريراً داخلياً خلص إلى أن الإسلام السياسي هو أكبر خطر يتهدد النظام السعودي. لماذا؟ بالضبط لأن الإخوان المسلمين يحاولون خلق حالة تصالحية بين الإسلام والديمقراطية. من الجدير بالذكر أن نفس هذا التقرير الداخلي صنف إيران في المرتبة الثالثة من حيث خطرها على المملكة.
يكون مخطئاً الرئيس أوباما إذا سمح لنفسه الخضوع لإملاءات نظام يفكر بهذه الطريقة ويصنف الخطر الذي يتهدده بهذا الشكل، فالنظام الملكي السعودي يخشى الديمقراطية، التي لا يعتبرها منسجمة مع الإسلام كما يفهمه أو كما يريده. حري بأوباما أن يتذكر ما خاطب به الطلبة في القاهرة قبل خمسة أعوام، وأن يتدبر في مدى إحباط أعماله، أو انعدامها، لكثير من تطلعات وآمال هؤلاء الطلبة.