كان للمنفذين بشرة بيضاء وبنية قوية، مكثا مدة طويلة أمام المسجد يتفحصان وجوه المصلين في انتظار الشخص المستهدف، استقلا دراجة نارية أطلقا منها عشر رصاصات على أجزاء مختلفة من جسم الضحية في أثناء توجهه لصلاة الفجر في المسجد القريب من منزله في مدينة جومباك شمال العاصمة الماليزية كوالالمبور، لكن رأسه كان المطلوب هذه المرة.
عالم الطاقة الفلسطيني والأكاديمي في جامعة ماليزية خاصة فادي البطش بات حتى الآن آخر ضحايا حرب استهداف الأدمغة التي يقودها جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”، فطريقة اغتياله والحرفية التي تم بها التنفيذ وتوقيتها؛ أي قبل يوم واحد من سفره إلى تركيا، لم تترك لعائلته أي مجال للشك في هوية من يقف وراء تيتم أبناء فادي الثلاث.
لكن السؤال المطروح هنا: أي تهديد هذا الذي كان لخبير الهندسة الإلكترونية فادي البطش أن يشكله على الدولة أو الجهة التي اغتالته حتى تضرب عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية وترسل قاتليها ليطلقوا النار عليه وهو على أرض دولة أخرى.
فادي البطش.. مهندس المقاومة
لم يسلم البطش كغيره من الفلسطينيين من مسلسل الغدر الإسرائيلي الذي طالهم في وطنهم، فذهب بعيدًا في محاولة للعيش في دول أكثر أمنًا وحمايةً، لكنه وجد نفسه أمام لعنة تطارده، تُدعى “جهاز الموساد الإسرائيلي”.
إنه فادي محمد البطش، عالم ومهندس وأكاديمي فلسطيني شاب مختص في الهندسة الكهربائية، وُلد في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال، فقد 18 شخصًا من أفراد عائلته في قصف إسرائيلي استهدف منزلهم بحي الشجاعية، خلال الحرب على غزة عام 2014.
تميز العالم الفلسطيني بتفوقه وإنجازاته العلمية القيمة، وعمل محاضرًا في جامعة ماليزية خاصة بعد حصوله على درجتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من الجامعة الإسلامية بغزة أواخر عام 2009، وعقب ذلك تمكن من الحصول على قبول الدكتوراة من جامعة مالايا الماليزية.
كان البطش أول عربي يحصل عام 2016 على منحة “خزانة” الماليزية، وهي الأولى في ماليزيا من حيث الجودة، ومن أفضل الجوائز العالمية، ما أهله للحصول على درجة الدكتوراة في الهندسة الكهربائية “إلكترونيات القوى” من جامعة مالايا الماليزية، وتحقيقه جملة من الإنجازات العلمية في مجال الطاقة.
صور من مكان عملية اغتيال الباحث والمخترع الفلسطيني فادي البطش من غزة والذي اغتيل برصاص مجهولين صباح اليوم في ماليزيا pic.twitter.com/oI59HCuZjB
— شبكة أخبار فلسطين (@24NEWSPS) April 21, 2018
وفي تعقيبه على هذه المنحة، قال البطش حينها: “أردنا أن نوصل رسالة للعالم أن الفلسطيني مصر على إبداعه، ولا توقفه أي حدود”، وأشار إلى أن هذه المنحة “كانت مخصصة للطلبة الماليزيين فقط، قبل أن توافق الحكومة على إدراج الطلبة الفلسطينيين فيها”.
نجح البطش في أثناء مسيرته القصيرة في ابتكار جهاز يعتمد تصميمه على تكنولوجيا إلكترونيات القوى، ثم توصيله بشبكة نقل الطاقة الكهربائية وتحسين كفاءة الشبكة بنسبة تصل إلى 18%، وفي حال تطبيق فكرته، يحقق البحث عدة فوائد، أهمها تقليل الفقد في الطاقة الذي ينتج عن عملية نقل الطاقة الكهربائية من محطات توليد الطاقة الكهربائية عبر خطوط النقل إلى المستهلكين، إلى جانب تحسين كفاءة شبكة نقل الكهرباء عمومًا.
ورغم بعده عن وطنه ظلت القضية الفلسطينية في قلبه، ووجه آخر منشور له عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى روح الشهيد الصحفي الفلسطيني ياسر مرتجى الذي ارتقى برصاص الاحتلال في أثناء تغطية الأحداث شرق غزة.
لكنه لم يكن يعلم أنه سيلحق في 21 من أبريل/نيسان 2018 بمن كان ينعاه منذ ساعات، فقد تمكنت منه “إسرائيل” من خلال أذرعها الاستخبارية؛ وذلك في إطار سعيها لإضعاف حركة المقاومة الإسلامية “حماس” من خلال تتبّع الخبراء الذين يطوّرون قدراتها العسكرية المقاومة.
الموساد والأدلة الدامغة
عقب حادث الاغتيال، تغيرت وجهة وسائل الإعلام العبرية وكأنها تقدم الدليل على ضلوع “إسرائيل” فيها، لكن دون أي تعليق رسمي من حكومة الاحتلال، وحين يتحدث الإسرائيليون عن جيشهم ومخابراتهم، يصعب التخلّص من نبرتهم الاستعلائية التي تريد الترويج لبطولاتهم وحسّهم الإنساني.
وألمحت عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى دور الموساد في حادث الاغتيال، ووصفت القناة الإسرائيلية الثانية البطش بأنه “مهندس كهربائي وخبير في الطائرات بدون طيار في ماليزيا”، ونشرت القناة العبرية العاشرة خبرًا على موقعها الإلكتروني بعنوان “اغتيال مهندس حماس في ماليزيا”.
قد يعزز توجيه أصابع الاتهام لـ”إسرائيل” هو ما ذهب إليه نائب رئيس الوزراء الماليزي حين قال إن منفذي عملية الاغتيال على علاقة بجهات استخبارت أجنبية، مضيفًا أن حكومته ستطلب من الشرط الدولية تعقب المنفذين
وادعى موقع “تيروريزم” العبري أن “حماس نشطت في ماليزيا منذ عدة سنوات، وعملت قبل حرب 2014 على تجنيد طلاب من الضفة الغربية”، وفي الماضي اتهمت “إسرائيل” أيضًا ماليزيا بتدريب قوة خاصة لحركة حماس على استخدام الطائرات الشراعية لتنفيذ عمليات دقيقة داخل “إسرائيل“.
وأشار رونين بريغمان معلق الشؤون الاستخبارية ومؤلف كتاب “حرب الظل.. التاريخ الخفي لاغتيالات الموساد الإسرائيلي” إلى مسؤولية جهاز “الموساد” عن اغتيال البطش، مشيرًا إلى أن المعلومات المتوفرة لدى “إسرائيل” تفيد بأن البطش يعد عضوًا في وحدة سرية خاصة تابعة للجهاز العسكري لحركة حماس ومتخصصة في تطوير السلاح المتقدم، ما دفعها لاغتياله.
https://twitter.com/hamasinfo/status/987597348456067073
وتعقيبًا على وصف حركة حماس للبطش بفارس من فرسانها تميز بتفوقه وإبداعه العلمي من أجل القضية الفلسطينية، اتهامها لما قالت إنها “يد الغدر” دون الإشارة بالاسم لـ”إسرائيل”، قال بريغمان: عندما توجه حركة حماس اتهامات للموساد بتصفية البطش، فإن هذا يعني أن حركة حماس لا تكذب دائمًا”، وكان القيادي بحركة الجهاد الإسلامي حماس في فلسطين، خالد البطش، وجه اتهامات صريحة لجهاز الموساد الإسرائيلي بالوقوف خلف حادثة اغتيال الباحث في علوم الطاقة.
قد يكون التصريح الذي أجمعت عليه وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن المهندس البطش أنه “خبير في تصنيع الطائرات” بمثابة تلميح عن مسؤولية الموساد عن اغتيال البطش كما سبق واغتال الزواري في تونس الذي اتهمته سابقًا بتصنيع الطائرات.
لكن ما قد يعزز توجيه أصابع الاتهام لـ”إسرائيل” – بصرف النظر عن قاعدة فتش عن المستفيد – هو ما ذهب إليه نائب رئيس الوزراء الماليزي حين قال إن منفذي عملية الاغتيال على علاقة بجهات استخبارت أجنبية، مضيفًا أن حكومته ستطلب من الشرط الدولية تعقب المنفذين.
وهكذا تضحى عملية اغتيال البطش مثالًا على ما أراد الكاتب والخبير الأمني ميخائيل بار زوهار والصحافي نسيم ميشعال إظهاره في كتابهما “الموساد.. أكبر مهام جهاز المخابرات الإسرائيلي” كفعل بطولي وحق مشروع لدرء الخطر عن الكيان المحتلّ.
استهداف العقول العربية
يأتي استهداف فادي البطش ضمن مسلسل اغتيال الموساد للكفاءات الفلسطينية والعربية المستمر الذي يستهدف بين الحين والآخر العلماء والشخصيات البارزة في كثير من البلدان بهدف عدم منح أي تفوق للوجود العربي والإسلامي في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، وعادة لا يعترف بعملياته التي ينفذها حول العالم.
أكد ذلك المؤتمر الشعبي الفلسطينيي في ماليزيا عقب اغتيال البطش بأن عملية الاغتيال تأتي ضمن سلسلة الاستهداف المستمر لعلماء وكفاءات فلسطين، من هنا، نجد أن مسلسل الاغتيالات الإسرائيلي الذي ينتهجه الموساد لاستهداف أبرز الشخصيات الفلسطينية لن تنتهي حلقاته.
بعد عام 1948 أصبحت اغتيالات العقول والمفكرين سياسة راسخة عند قادة “إسرائيل”
وتأكيدًا للحديث عن تكثيف “الموساد” أعمال مراقبته لجميع العلماء العرب والمسلمين في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فقد قُتل عدد كبير من العلماء العراقيين بعد غزو البلاد في 2003، فضلًا عن اعتقال آخرين، وتمكّن عدد آخر من الهرب، ووفقًا لما تناقله العراقيون، حينذاك، فإن الموساد الإسرائيلي كان يملك أسماء جميع العلماء العراقيين، خاصة العاملين في مجال التصنيع العسكري والكيميائي، وعمل على ملاحقتهم وتصفيتهم.
وتلفت حادثة اغتيال العالم العراقي الجبوري، وقبلها اغتيال التونسي الزواري، النظر إلى وجود دعم من عقول عربية لحركة حماس التي تتبنّى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يؤكّد أن الحركة تملك قوة تصنيعية لا يُستهان بها، ودليل ذلك تبنّي جهاز الموساد الإسرائيلي ملاحقتهم.
وبعد عام 1948 أصبحت الاغتيالات سياسة راسخة عند قادة “إسرائيل” لا سيما أنهم شاركوا في عدد كبير من الاغتيالات المبرمجة، وعلى رأس هؤلاء بعض الشخصيات التي تبوأت منصب رئيس وزراء “إسرائيل” من قبيل إسحق شامير وإسحق رابين وآرييل شارون وشمعون بيريز ومناحم بيجن، حيث انضووا في إطار العصابات الصهيونية، الهاغانا، والشتيرن والأرغون وغيرها من العصابات الصهيونية، بحسب “الحياة”.
تعددت الاغتيالات والموساد واحد
لم تكن تلك هي الحادثة الأولى التي تشير فيها أصابع الاتهام إلى علاقة الموساد بجرائم اغتيال حول العالم، حيث إنه عادة لا يعترف الجهاز بتلك العمليات، لينضم “البطش” إلى قائمة طويلة.
وسبق فادي البطش العديد من الشخصيات الفلسطينية البارزة التي استهدفتها المخابرات الإسرائيلية، وباتت سياسة الاغتيالات التي تتبعها “إسرائيل” من أبرز الأسلحة التي يستخدمها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ووسيلة يستعاض بها عن تنفيذ عمليات عسكرية واسعة.
شملت عمليات الاغتيال التي قام بها “الموساد” قادة المنظمات الفلسطينية ومنها اغتيال غسان كنفاني في بيروت، ووائل زعتر ومحمود الهمشري في إيطاليا، وحسن بشير أبو الخير في قبرص، والقائمة تطول
وتعيد واقعة البطش إلى الأذهان حادث اغتيال العالم التونسي محمد الزواري في صفافس التونسية خريف 2016، حيث كان مشرفًا على تطوير حركة حماس لطائرات بدون طيار، وحينها اتهمت الحركة “إسرائيل” بالوقوف وراء اغتياله، فيما لم تنف “إسرائيل” التهمة، بينما أشار محللون عسكريون إسرائيليون إلى أن خشية “إسرائيل” من تطوير الزواري لطائرات انتحارية مسيرة ذاتيًا قد تستهدف العمق الإسرائيلي، وهو ما كان دافعًا لاغتياله.
ومن أبرز العلماء الفلسطينيين الذين تم اغتيالهم الدكتور نبيل أحمد فليفل، وهو عالم الذرة الفلسطيني الذي استطاع دراسة الطبيعة النووية، كما اغتيل محمود الهمشري، وهو طبيب وممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الحكومة الفرنسية، بالعاصمة الفرنسية باريس من خلال عبوة ناسفة زرعت في منزله في ديسمبر 1972.
حتى الطلبة لم يسلموا من سلاح الغدر الإسرائيلي، فعزيز مطر طالب فلسطيني كان يدرس الطب في جامعة روما، اغتيل أمام منزله في يونيو 1981 في العاصمة الإيطالية، أما عدنان الغول فكان كبير المهندسين القساميين، واغتيل في أكتوبر 2004 بعد أكثر من 14 عامًا من المطاردة المتبادلة بينه وبين الاحتلال.
وفي يناير 2010، اغتيل محمود المبحوح، أحد قيادات حركة حماس، في أثناء وجوده في أحد فنادق دبي بالإمارات، واتُّهم جهاز “الموساد” بالوقوف وراء العملية التي أحدثت ضجة إعلامية كبيرة، وفي فبراير 2016، اغتيل القيادي في الجبهة الشعبية، عمر النايف، على يد جهاز الموساد الإسرائيلي، داخل السفارة الفلسطينية في بلغاريا، بعد سلسلة تهديدات تلقّاها بحكم تاريخه النضالي.
كما شملت عمليات الاغتيال التي قام بها “الموساد” قادة المنظمات الفلسطينية ومنها اغتيال غسان كنفاني في بيروت، ووائل زعتر ومحمود الهمشري في إيطاليا، وحسن بشير أبو الخير في قبرص، والقائمة تطول.