من المتوقع أن تقرأ هذه الكلمات وتنساها في نفس اليوم الذي قرأتها فيه، بل من المتوقع أن تنساها بعد 20 دقيقة بالضبط من قراءتك لهذه الكلمات، ربما حدث لك هذا من قبل حينما حاولت الدراسة كثيرًا قبل ميعاد الاختبار لكي لا تنسى ما درسته، لتفاجأ في الواقع أنك نسيت كل ما درسته على الرغم من قصر المدة بين الاختبار والدراسة، ولكن دعنا نُفسر لك سبب حدوث ذلك قبل أن تنسى ما ستقرأه بين سطور هذه الكلمات.
لقد تطور الدماغ البشري مع الذاكرة لحفظ المعلومات التي تهم الإنسان من أجل محاولته البقاء على قيد الحياة في الظروف البيئية المختلفة، حفظت ذاكرة الإنسان كيفية إيجاد النار لطهي الطعام، وحفظت شكل ونوع الحيوانات المفترسة التي تُهدده، وحفظت كثيرًا من العادات التي تحافظ على استقراره وبقائه على قيد الحياة.
ولكن مع زيادة التطور والتقدم الحضاري، صار واجبًا على الإنسان تذكر معلومات أكثر تعقيدًا وأهمية، وزادت المجالات التي يستهل منها الإنسان المعارف وتعقدت النظريات وتنوعت الفرضيات وصار على الإنسان دراسة وتحليل كل منها لاستخدامها في عمليات اتخاذ القرارات في مختلف المجالات، ليس هذا فحسب بل عليه أن يحفظها في ذاكرته دومًا، مثل تعلم القوانين أو اللغات، على العكس وجد الإنسان نفسه ينسى أغلب ما يتعلمه حتى لو بعد فترة قصيرة من تعلم الشيء، إلا أن للعلم تفسيرًا لهذه الظاهرة التي أطلقوا عليها اسم “منحنى النسيان”.
منحنى النسيان يخبرنا لماذا ننسى كل شيء بسرعة
هل تصدق أن هناك معادلة رياضية تشرح لك لماذا قد تنسى المعلومات التي تعلمتها بسرعة؟ تلك الصيغة الرياضية ليست حديثة على العلم، وذلك لأن العلماء اهتموا بدراسة الميكانيكية التي تعمل بها ذاكرة الإنسان منذ قرن مضى، كان أهم العلماء الذين ساهموا في تجارب علم النفس الخاصة بالذاكرة العالم الألماني “هيرمان إيبينجهاوس” الذي قدم واحدة من أولى وأهم تجارب الذاكرة في القرن الـ19.
قضى “هيرمان” الكثير من الوقت لاختبار نفسه في تذكر العديد من مقاطع الكلمات التي لا معنى لها، ليجرب طرقًا مختلفة على نفسه لاختيار الأفضل منها في محاولة تذكر المقاطع بشكل كاف، تكونت هذه المقاطع من حرف ساكن يليه حرف متحرك وينتهي المقطع بحرف ساكن آخر مثل “RUJ” أو “POZ” اكتشف هيرمان من تكراره للتجربة عدة مرات على نفسه عدة اتجاهات يميل المرء لاتباعها حين يحاول تذكر معلومات معينة.
كان الاتجاه الأول الذي ذكره “هيرمان” في تجربته ما يُعرف بـ”تأثير المباعدة” أو “spacing effect” وهو ما اكتشفه هيرمان حينما حاول دراسة القليل من المعلومات في أوقات متباعدة بدلًا من دراسة الكثير من المعلومات في وقت واحد، وجد أن التباعد بين الأوقات وتقسيم كمية المعلومات المراد دراستها يُفيد في محاولة تذكرها بشكل أفضل.
هذا ينطبق على كل من يحاول دراسة كمية كبيرة من المعلومات في الليلة التي تسبق الاختبار، بحسب نظرية هيرمان فإن محاولة تذكر كل المعلومات التي درسها المرء في وقت واحد ستؤول بالفشل في النهاية ولن يتذكر المرء من تلك المعلومات إلا القليل، ومن هنا خرج هيرمان باتجاه آخر له علاقة بطريقة التذكر لدى ذاكرة الإنسان، وسمي ذلك الاتجاه بـ”تأثير الادخار” أو “Saving Effect”.
حاول هيرمان قياس المدة التي احتاجها ليتذكر مقاطع الكلمات المكونة من 3 أحرف التي لا تعني كلمات مفيدة، بعد أن كررها وتعلمها للمرة الثانية، ليحاول المقارنة بين الوقت الذي يحتاجه المرء لتذكر معلومات تعلمها لمرة واحدة، والوقت الذي يحتاجه لتذكر المعلومات ذاتها بعد تكرارها مرتين، وجد هيرمان أنه احتاج نصف الوقت الذي احتاجه لتذكر المعلومات في المرة الأولى ليحاول تذكرها في المرة الثانية.
يشير “منحنى النسيان” أن بمجرد تعلم المعلومات يدخل المرء فورًا في مرحلة نسيانها
اكتشف هيرمان أن النسيان لا يحدث دفعة واحدة وإنما على مراحل، حيث وصف ما يحدث في مرحلة النسيان الأولى بـ”النسيان الواعي” أما ما يحدث في المرحلة الثانية فهو نسيان لاواعٍ يستغرق من المرء وقتًا أطول لكي ينسى فيه المعلومات التي تذكرها، ولهذا استغرق هيرمان وقتًا أقل حينما حاول تذكر المعلومات التي تعلمها، وهي مقاطع الكلمات القصيرة، للمرة الثانية.
ما منحنى النسيان؟
العالم الألماني “هيرمان إيبينجهاوس”
يعتبر أهم ما خرج به هيرمان من تجاربه المختلفة على نفسه وعلى الآخرين حيال كيفية عمل الذاكرة وكيفية حفظ المعلومات هو “منحنى النسيان”، فسّر عالم النفس الألماني الطريقة العلمية التي توضح عملية تذكر المعلومات أو نسيانها من خلال منحنى شديد الانحدار يُعرف بـ”منحنى النسيان”.
يشير “منحنى النسيان” أن بمجرد تعلم المعلومات يدخل المرء فورًا في مرحلة نسيانها، ومحاولة التذكر بعد التعلم مباشرة لا تنجح كما هو المتوقع من الكثيرين، حيث يتذكر المرء قليلًا مما تعلمه في اليوم التالي للدراسة ويتذكر أكثر من ذلك في الأيام القليلة التالية، ولهذا فستكون محاولة التذكر في اليوم التالي مجرد مضيعة للوقت.
إلا أن هيرمان لم يكن متشائمًا حيال اكتشافاته تلك، لأنه وجد طريقة تساعد على جعل منحنى النسيان أقل إنحدارًا، أي في سياق آخر وجد طريقة تساعد على عدم نسيان المعلومات بشكل مباشر بعد تعلمها أو قراءتها وذلك من خلال “التكرار المتباعد”، فلا يجب على المرء تقسيم كمية الدراسة على عدة أوقات مختلفة فحسب، بل يجب عليه إعادة قراءتها من جديد على فترات متباعدة لكي يكررها بشكل متباعد وهو ما سيسهل عليه عملية حفظها في ذاكرته وعملية تذكرها.
في الصورة في الأعلى توضيح أن تكرار قراءة المعلومات وحفظها على فترات متباعدة يقلل من انحدار “منحنى النسيان” ويزيد من قوة الذاكرة في حفظ المعلومات وتذكرها لكي يغذيها الدماغ وكأنها عضلة يغذيها الجسم لتكون أقوى.
وضع هيرمان لذلك معادلة رياضية كالآتي:
R = e^(-t/s)
حيث تعني R وحدة قياس إمكانية تذكر المعلومة، وs تعبيرًا عن القوة أي قوة الذاكرة، بينما t تعبر عن وحدة الزمن إشارة إلى الوقت الذي يمر على تعلم أو قراءة المعلومة، أما عن e فهو ثابت رياضي.
يعمل العقل بسياسة “استخدمها وإلا ستخسرها” (Use it or lose it) حينما يحاول تخزين أي معلومات جديدة في الذاكرة، فإما يحاول المرء استخدامها جيدًا وتجديدها ومحاولة الحفاظ عليها في الذاكرة عن طريق تكرار قراءتها على فترات متباعدة، وإما ستخسر الذاكرة ما احتوت عليه من معلومات ويصبح من الصعب محاولة استعادتها مرة أخرى من خلال كثير من المحاولات التي لن تفعل شيئًا سوى إضاعة مزيدًا من الوقت.