كيف يصطاد الموساد الإسرائيلي طفرات البجع الأسود من صفوف القسام؟ كان سؤالاً صعباً أوقعني في حيرة طويلة، فقائمة الاغتيال عام ٢٠١٨ كانت مركزة على النوابغ الجدد.
لا تخفي “إسرائيل” قلقها من توصل المقاومة الفلسطينية لتقنيات عالية وجديدة، خصوصاً في أنظمة الحرب السيبرانية، وميدان المعركة غير المباشر، أقصد به هنا الرؤية العلوية، أي حرب الجو، التي تسعى المقاومة لامتلاكها عبر المقاتلين الجدد المتخصصين، لا يعرف أحد منهم أن يطلق رصاصة من بندقية لكنه قادر على رفع الطاقة المتولدة من محرك طائرة الدرون التي تمتلكها حماس ١٥% ، لتمكث فترة أطول في الجو بنفس كمية الوقود المستخدمة، أو قادر على تحويل هذه الطائرة لـ “كماكازي” بمحركين نفاثين أقوى أضعافاً مما تملكه حماس محمل بصاروخ ينفجر نحو الهدف وبالكاميرا.
في السابق بعد حرب ٢٠١٤ تخوفت “إسرائيل” من شكل الحرب القادمة، فهي تعتقد أن حماس ستسير أسراباً من الدرونز نحو مواقع عسكرية محددة، كذلك تفرض احتكاراً تاماً على الجو لطائراتها المقاتلة فوق غزة.
كانت تعليقات الإسرائيليين أن نجاحاً آخرًا حققه أصحاب “مضارب التنس الشقر” نسبة إلى أعضاء خلية الموساد التي قتلت القيادي القسامي محمود المبحوح، مسؤول الإمداد الخارجي للقسام في دبي عام ٢٠١٠، كانوا مرتزقة يبحثون عن المال وقتلة محترفين، اليوم تعود نفس الملامح الأوروبية الشقراء القاتلة بدون مضارب التنس لتغتال فادي البطش في كوالالمبور، صاحب براءة اختراع في مجال الطاقة وحاصل على العديد من الجوائز العلمية والتكريمات الدولية في نفس المجال.
كيف يختار الموساد هدفه بعناية؟
ذات مرة وقعت عيني على تقرير استخباري أمريكي يكشف كيف تستخدم “السي آي إيه” المصادر مفتوحة المصدر للحصول على معلومات هامة من الأكاديميين والباحثين النوابغ في بلادهم، الأمر لا يتعدى إقامة مؤتمر علمي متخصص ودعوة الباحثين لحضوره بأوراقهم العلمية الجديدة، حيث يتم تغطية تكاليف السفر والمكافآت المالية المغرية للباحثين لحضور المؤتمر، وتسرق الاستخبارات كافة المعلومات من أجهزة الحاسوب الخاصة بالباحثين بمجرد اتصالها في أحد الكوابل الخاصة للعرض أو للطاقة الكهربائية في قاعات المؤتمر أو فندق المبيت.. لا شك أن حجم المعلومات كبير ومهم.
يمكن تتبع نشاط الشهيد المهندس فادي البطش وأماكن حراكه بالكامل عبر الفيسبوك أو تويتر وغيرها
على نفس الشاكلة يعمل الموساد بطريقة تتبع المصادر المفتوحة، وقد حدثني أحد الاصدقاء أن خبيراً في السايبر مقيم في أحد الدول الأوروبية استطاع تحديد مكان بيته بالضبط في إسطنبول خلال دقائق معدودة من دخوله على الفيسبوك دون أن يلحظ هو ذلك، وأرسل له الموقع المحدد تماماً، إنها المرحلة الثانية لجمع المعلومات التي تتعلق بأحد المطلوبين في ظل وجود أحدث تقانة للسايبر في وادي السليكون بتل أبيب، ووجود ثاني أكبر مكاتب شركة غوغل وفيسبوك بنفس المكان بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنا يمكن تتبع نشاط الشهيد المهندس فادي البطش وأماكن حراكه بالكامل عبر الفيس بوك، أو تويتر وغيرها لا سيما أنه كان نشطًا عليها، وكذلك يمكن تتبع مساره العلمي من خلال ما ينشر من أبحاث محكمة. وهنا يذكر أن الاحتلال الإسرائيلي من أكثر دول المنطقة انفاقاً على البحث العلمي، والدراسات الأكاديمية.
لا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولاكد، فإنهم حينئذ لايمثلون الحق، ولا يكونون أهله، وهم كسالى قاعدون.
— د. فادي البطش (@FADIALBATSH1) March 29, 2018
إحدى آخر تغريدات المهندس البطش على تويتر
كيف يختار الموساد ساحة الاغتيال جغرافياً؟
ذات يوم وجه سؤال من أحد الحاضرين لرئيس أركان حماس الشهيد أحمد الجعبري عام ٢٠١٢ قبل اغتياله بقليل: أيهما أكثر ضرراً، أن يستشهد عشرة مقاتلين من القسام أم يقصف مخزن كامل من السلاح؟ أجاب أن مخزن كامل من السلاح أقل تكلفة من رحيل مقاتل مدرب جيداً على وسائل القتال والتطوير، ففي وقت سابق كان السلاح شحيحاً ورحيل عشرة خير من دمار مخزن صغير، لكن المعادلة اختلفت تماماً عند القسام.. ولكن لماذا كانت الضربة الثانية للموساد ماليزيا بعد تونس؟
لا تعترف “إسرائيل” رسمياً بمن تقتلهم عبر الموساد وتظل المعلومات طي الكتمان حتى يسمح الإفراج عنها بعد ٢٥ عام، عدم اعتراف “إسرائيل” ناتج عن ثقتها العالية بإخفاء معالم القاتل وأدوات القتل، إلى الآن لم تعترف رسمياً بقتل المبحوح أو الزواري ما يعني أن لا دليل ملموس في ظل غياب القتلة وعدم اعترافهم، خوفًا من اتخاذ اجراءات دبلوماسية ضدها.
في السياق الآخر يعلم الاحتلال الإسرائيلي أن نتيجة اغتيال عنصر محترف ينضم للمقاومة الفلسطينية لصالحها -ما دامت قادرة على الانكار أو اخفاء الدليل- فتخلصها من أحد النوابغ الذي يساعد حماس في مجال التطوير يبقي على الفجوة بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة للتفوق في ساحة المواجهة القادمة، لكن لماذا اختار الاحتلال ماليزيا؟
الزواري عمل في مصنع للأسلحة في السودان إضافة إلى أن رسالته العلمية كانت عن غواصة بحرية يتم تسيرها عن بعد
ماليزيا الدولة الشرق آسيوية ذات الاقتصاد الناشئ تسعى للاستقرار الدائم، وعدم إثارة أي مشاكل على أرضها، لقد جاء توقيت اغتيال المهندس فادي البطش مضبوطاً تماماً في فترة تشهد فيها ماليزيا انتخابات في التاسع من مايو المقبل، تثير هذه الحادثة القلق لدى المستويات الرسمية والمعارضة أيضاً، لذلك يعلم الاحتلال الإسرائيلي أن إجراءات مشددة قد تتخذها ماليزيا مستقبلاً اتجاه الفلسطينيين القادمين إليها خصوصاً فحص سلوكهم الأمني والعسكري، وخلفياتهم الانتمائية، وهو ما تريده “إسرائيل” بالضبط.
وكذلك تونس في السابق التي شهدت مرحلة انتقالية عصيبة وتحديات اقتصادية وهشاشة في الدولة كافية لأن تخلق حادثة اغتيال الزواري توتراً كبيراً في ساحتها الداخلية وهذا ما قاله راشد الغنوشي زعيم النهضة تعليقاً على حادثة اغتيال الزواري: “لو استشارني محمد الزواري لنصحته ألا يسلك ذلك الطريق، وهو شهيد تونس والقضية الفلسطينية التي هي قضية الأمة العربية، لكن نحن لا نشارك، ونعتبر أن النضال في فلسطين مشروعًا، إلا أننا نعتبر أن عملنا السياسي في تونس فقط”.
هل القسام مخترق؟
لا يمكن النفي تماماً او قطعًا، فعامل الاستخبارات البشري ضروري لمساندة استخبارات الآلة، وهنا نقدم نموذج مقارن بين حوادث الاغتيال الثلاثة، ابتداءًا بالمبحوح مسؤول إمداد حماس بالصواريخ، كان قد اعتقل لدى النظام السوري على خلفية تهريب صواريخ جراد إلى سوريا كانت قادمة من أحد الدول التي لم يفصح عنها، قادمة لغزة، قبل أن يفرج عنه، إضافة إلى أنه مطلوب خطير للاحتلال الإسرائيلي، فقد شكل مجموعة عسكرية من أوائل خلايا القسام في غزة في الانتفاضة الاولى ١٩٨٧ قبل مغادرته قطاع غزة.
وزير الاستخبارات الإسرائيلي: “في حال تم تنفيذ عمليات ضد الإسرائيليين بالخارج سنستهدف قادة حماس بغزة”
أما الزواري، فقد عمل في مصنع للأسلحة في السودان، إضافة إلى أن رسالته العلمية كانت عن غواصة بحرية يتم تسيرها عن بعد، وبالرغم من أنهم كانوا يتحركون بأسماء مزورة وجوازات مزورة، وبدون مرافقين، وكانت تحركاتهم أشبه بالسرية إلا أن علاقاتهم مع أي أشخاص على رأس المراقبة الإسرائيلية، جعلهم في دائرة البحث والمراقبة على مدار الساعة، ولا ينفي ذلك استخدام العنصر البشري.
هل تنقل حماس المعركة للخارج؟
رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية اتهم الموساد بالوقوف وراء اغتيال البطش، قائلاً إن: “إسرائيل نقلت الصراع بيننا وبينها إلى الخارج”، مؤكدا “أن الشعب الفلسطيني لديه حساب مفتوح مع إسرائيل”.
ورداً على تهديدات هنية، قال وزير الاستخبارات الإسرائيلي يوسي كاتس وفق ما نقلته صحيفة يديعوت احرونوت: “في حال تم تنفيذ عمليات ضد الإسرائيليين بالخارج سنستهدف قادة حماس بغزة”. وتبقى قدرة حماس على تسجيل القضية ضد مجهول أو إخفاء الدليل هو ما تحتاجه للرد على عمليات كهذه.