ترجمة وتحرير: نون بوست
تطمح الحكومة في الخرطوم إلى جعل السودان مركزا لاستقطاب المستثمرين، الأمر الذي تسبب في نشوب نزاعات على نطاق واسع في البلاد. وأفاد المحتجون بأنه كان بودهم أن تكون مظاهراتهم سلمية، ولكن بحلول نهاية اليوم، قُتل رجل وأصيب خمسة آخرون في منجم الذهب في منطقة وادي السنقير النائية في السودان.
لقد تجمع العاملون في الموقع، الذي يقع على بعد 400 كيلومتر شماليّ الخرطوم، للاحتجاج تنديدا بصفقة أبرمتها الحكومة السودانية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، منحت بموجبها حقوق التعدين للشركة الروسية “ميرو جولد”. ويقع هذا المنجم في واد صغير يسكنه بضعة آلاف من السكان الذين يفتقرون إلى المستشفيات، والمدارس، ناهيك عن الطرقات غير المعبدة. وحاليا، يُستغل ما تبقى من الأراضي الزراعية القليلة في استخراج المعادن.
في تصريح أدلى به لموقع ميدل إيست آي، أفاد أحمد الصايم، الذي كان من بين المتظاهرين، بأنهم خرجوا للتظاهر بسلمية بعد انطلاق أعمال التنقيب في الأرض التابعة لهم دون إعلامهم بذلك. وأشار الصايم إلى أنه “كان من بين الحراس الروس، الذين قامت الشرطة السودانية بمساندتهم، قناص قام بإطلاق النار علينا فجأة ودون سابق إنذار”.
كان الحبوب فرح، البالغ من العمر 28 سنة، من بين قادة الاحتجاج الذين قتلوا خلال هذا الاشتباك. وحسب ما أفاد به أحمد، كان فرح مستهدفا فقد سبق أن وجه اللوم إلى ولاية نهر النيل، حيث يقع المنجم، لعدم تدخلها لنزع فتيل التوتر وفك الاشتباكات.
في المقابل، أنكر والي المنطقة، حاتم الوسيلة، إطلاق الحراس الروس النار على المحتجين في الخامس من شهر آذار/ مارس، مؤكدا أن “قوات الشرطة المتواجدة في الموقع كانت مسؤولة عن حماية الشركة وموظفيها”. وأضاف الوالي “لقد حاولت الشرطة تجنب استخدام القوة، لكن عندما بدأ السكان المحليون بمهاجمة الشركة، لجأت الشرطة إلى تدابير قصوى”. وتجدر الإشارة إلى أن ميدل إيست آي اتصل بشركة “ميرو جولد” لكنها لم تقم بالرد إلى غاية تاريخ نشر هذا المقال.
أعادت الاحتجاجات وعمليات القتل التي جدت مؤخرا فتح النقاش حول من يملك حق التصرف في الموارد الطبيعية في السودان
الصراع على الأرض
أثارت وفاة فرح وتورط شركة أجنبية في الحادثة، موجات من الغضب هزت أنحاء السودان، وكانت محل انتقادات من قبل سياسيين ونشطاء من المعارضة. لقد شبه البعض ما حصل في السودان بالحادثة التي وقعت في بغداد سنة 2007، والتي راح ضحيتها 14 مدنيا عراقيا، الذين استهدفوا من قبل موظفي شركة الأمن الأمريكية الخاصة “بلاك ووتر” والتي تعرف منذ سنة باسم “أكاديمي”.
على إثر هذه الواقعة، نشر أحد رواد موقع تويتر، يدعى مصعب مارتن، صورًا لرجل يزعم أنه كان الحارس الذي ظهر حاملا بندقية إلى جانب صور القتلى والجرحى. وقد أرفق مصعب هذه الصور بتغريدة قال فيها إنه “يجب فتح تحقيق فوري، وطرد الشركة الروسية من المنطقة، وإلا ستسفك الدماء في أنحاء ولاية نهر النيل”.
في الواقع، لقد أعادت الاحتجاجات وعمليات القتل التي جدت مؤخرا فتح النقاش حول من يملك حق التصرف في الموارد الطبيعية في السودان، بينما تكثف الخرطوم من جهودها لاستقطاب المستثمرين الأجانب. ويعد السودان من الدول الفقيرة، إذ بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 1428 دولارا فقط سنة 2017، وهو ما يعادل أقل من ربع ذلك في الأردن. في نفس الفترة، بلغ معدل التضخم 26.9 بالمائة، لتحتل بذلك هذه الدولة المرتبة 222 من أصل 227، بعد كل من سوريا واليمن. ومع ذلك، يظل السودان غنيا بموارده، التي لطالما كانت سببا في تأجيج النزاعات في المنطقة.
على الصعيد الدولي، تخوض الخرطوم نزاعًا منذ عقود مع مصر حول مثلث حلايب، الواقع شمال السودان، الذي تحكمه في الحقيقة القاهرة. ونظرا لتزايد التوتر في المنطقة، التي تعد ثرية بالمعادن والنفط، أمرت الحكومة السودانية قواتها بأن تكون على أهبة الاستعداد.
خلال سنة 2017، بلغ إنتاج البلاد من الذهب 107 أطنان، بعد أن كان 93 طنا سنة 2016، مما يجعلها ثالث أكبر منتج للذهب في القارة الأفريقية بعد جنوب أفريقيا وغانا. ومن المحتمل أن تكون هذه النسب أقل من المعدلات الحقيقية، إذ أنها لا تتضمن الذهب المستخرج بشكل غير قانوني.
أدى هذا الصراع إلى فرض عقوبات دولية على السودان، والتي رُفعت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي شهر آذار/ مارس من سنة 2017
تجدر الإشارة إلى أن النزاعات القائمة حول امتلاك الأراضي ليست أمرا جديدا على السودان. فلطالما نشبت عدة خلافات خلال موسم الجفاف بين المزارين والبدو، الذين يبحثون عن أراضي خصبة يرعون فيها ماشيتهم. وعادة ما يتم تسوية هذه المسألة من خلال المفاوضات القبلية. كما أن قوانين ملكية الأراضي في السودان غير واضحة. ففي بعض المناطق، تُنسب الملكية بموجب قوانين أصدرتها الإدارة الاستعمارية البريطانية، بينما يتم تحديدها في مناطق أخرى حسب العرف المعمول به منذ قرون بين القبائل والزعماء.
خلال العقدين الماضيين، أدى تدخل الحكومة إلى تفاقم الأوضاع في البلاد خاصة في دارفور، حيث قامت الحكومة بدعم البدو خلال نزاعهم على الأراضي الذي تحول لاحقا إلى صدامات عرقية، نجمت عنها حرب أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 300 ألف شخص وتشريد مليونين و700 شخص على الأقل.
عمال مناجم الذهب بصدد الخروج من منجم في العبيدية، في ولاية نهر النيل، السودان في تموز/ يوليو سنة 2013 .
أدى هذا الصراع إلى فرض عقوبات دولية على السودان، والتي رُفعت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي شهر آذار/ مارس من سنة 2017، قدر وزير المالية السابق، بدر الدين محمود، تكلفة 20 سنة متواصلة من العقوبات المفروضة على السودان بحوالي 45 مليار دولار.
بالإضافة إلى هذه الخسائر، تسبب انفصال جنوب السودان، الذي كان يساهم بثلاثة أرباع عائدات البلاد النفطية، سنة 2011 بضرر كبير على اقتصاد البلاد. وفي الوقت الحاضر، تشهد البلاد موجة تقشف شديدة في إطار تنفيذ خطة إصلاح على المستوى الاقتصادي تتمشى مع توصيات صندوق النقد الدولي. ولهذا السبب، يجب على حكومة أن تعتمد أكثر على المستثمرين الأجانب الذين يستغلون الموارد الطبيعية لزيادة معدل دخلها.
خلال السنوات، اندلعت عدة نزاعات بين الحكومة ومالكي الأراضي حول بناء السدود في شمال السودان، بما في ذلك سد مروي في شهر آذار/ مارس من سنة 2009. وتجري عملية بناء السد باعتماد قروض متأتية من دول على غرار الصين والسعودية وعمان وأبوظبي والكويت. وبسبب الاحتجاجات الأخيرة، تأخرت أشغال إنشاء سدي دال والشريك، المُمولة من قبل السعودية. وسنة 2007، قتل أربعة أشخاص عندما احتج مالكو الأراضي على بناء سد كجبار بالقرب من الحدود المصرية.
حاولت الخرطوم إقامة تحالفات دولية حيثما أمكن ذلك، لا سيما مع الصين التي تستحوذ على أكثر من نصف صادراتها. وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2017، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن البلدين يهدفان إلى الدفع بالتجارة الثنائية لتصل إلى 10 مليارات دولار. لكن، يبدو أن الذهب هو الذي يوفر أكبر الفرص، حيث تنشط حوالي 170 شركة للتنقيب عن الذهب في السودان، دون احتساب عمليات التنقيب الرسمية. كما تخطط الخرطوم لزيادة إنتاجها من الذهب خلال سنة 2018 لجعل السودان تاسع أكبر منتج للذهب في العالم وثاني أكبر منتج في أفريقيا.
السلطة والفساد
إن الوعود التي تقدمها الدولة حول التجارة المستقبلية لا تلاقي استحسانا عمال الذهب في وادي السنقير. وحيال هذا الشأن، قال أحد الزعماء المحليين عبدالله محمد، لميدل إيست آي إن التوتر بدأ عندما وقعت الحكومة على صفقة مع شركة “ميرو جولد”. وأضاف محمد “لقد التقينا بمحافظ الولاية وأعربنا له عن مخاوفنا. فنحن نقوم بالتنقيب في منطقتنا منذ عشر سنوات، ومن شأن التعاقد مع هؤلاء المستثمرين أن يسبب لنا خسائر جسيمة”.
في سياق متصل، أورد عبدالله محمد “لقد وعد المحافظ بالتشاور معنا، حول تقديم تعويضات لنا، قبل أن تباشر الشركة عملها. ولكن وبشكل مفاجئ، سمحت السلطات للشركة بالبدء في العمل وجلب معداتها، كما سمحت لها بطرد عمال المناجم المحليين من المنطقة “. وحسب محمد، كان جل اهتمام الحكومة مركزا على المستثمرين الأجانب أكثر من مواطنيها.
ارتفاع الدخان بعد انفجار في منجم أرياب في ولاية البحر الأحمر، في السودان في أيلول/ سبتمبر سنة 2011.
في تصريح أدلى به لميدل إيست آي، قال وزير الدولة بوزارة المعادن، أوشيك محمد طاهر، إن الحكومة حريصة على ضمان مصالح المواطنين “ولكن ضمن القوانين”. السنة الماضية، ذكرت منظمة “إيناف بروجكت” غير الربحية، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، في تقرير بعنوان “الدولة العميقة في السودان”، أن النخب الاتحادية والمحلية والبلديات والجماعات المسلحة ارتكبت “أعمال عنف تجرد السكان المحليين من الملكية”.
في هذا التقرير، أكدت منظمة “إيناف بروجكت” أنه “غالبا ما تتأثر إيرادات النفط والذهب وتوزيع الأراضي في السودان بالنزاعات. وقد قامت دائرة داخلية داخل الخرطوم بمصادرة النفط والذهب والأرض لجمع الثروات لصالحها والحفاظ على السيطرة من خلال الفساد والعنف”.
في وقت سابق، حذرت “المجموعة السودانية للديمقراطية أولا” من ارتفاع وتيرة حوادث الاشتباكات حول الأرض بين الحكومة والمالكين المحليين، بشكل حاد خلال السنوات القليلة الماضية، مما أدى إلى وفاة العشرات من السكان المحليين. وفي هذا الإطار، قال الشفيع خضر، مؤلف كتاب “القبيلة والسياسة في السودان”، إن النخب السودانية تستخدم سلطة الدولة وتتحالف مع المستثمرين المحليين والدوليين لنهب أراضي السكان المحليين.
كما أشار الشفيع خضر إلى أن “الحكومة تستغل القوانين لمصادرة أراضي صغار المزارعين والمالكين والبدو لصالح المستثمرين”. وعلى هذا النحو، ستنهار القطاعات الزراعية، على غرار مشروع الجزيرة، الذي كان في يوم من الأيام أحد أكبر مشاريع الري في العالم، بالإضافة إلى كونه مسؤولا عن أكبر المناطق لزراعة القطن في أفريقيا. وقد فشل هذا المشروع عندما صبت الحكومة جل اهتمامها على النفط وهمشت الزراعة، واتبعت سياسة خصخصة خدمات الري وتوفير البذور. كما فشلت إستراتيجية زراعة مزيد من القمح نظرا للمناخ الحار. “مع التدهور الاقتصادي وظهور النفط والذهب، وصل الصراع التقليدي على الموارد والثروة في السودان إلى نقطة متقدمة وخطيرة”.
وفقا لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، تعمل الجزيئات الدقيقة الناتجة عن عملية تصنيع الذهب على تلويث المياه والهواء، وتصبح خطرا صحيا شديد الخطورة في حال تم استنشاقها من قبل البشر والحيوانات
خطر الذهب
قال محمد صلاح، الباحث في التأثير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للتنقيب عن الذهب في السودان، لميدل إيست آي، إن الرغبة في زيادة التنقيب عن الذهب تحمل خطرين؛ أولهما أن الحكومة تضع نفسها في صراع مع السكان المحليين من خلال عقد صفقات مع المستثمرين الأجانب.
في هذا السياق، ذكر صلاح “أنه بناء على ذلك، ليس أمام الحكومة خيار سوى الدفاع عن مصالح المستثمرين واستخدام سلطة الدولة لمصادرة الأرض من خلال العديد من الحيل بما في ذلك التلاعب بالقانون”. وفي حديثه عن الخطر الثاني، ذكر صلاح أن هذا الأخير يعتبر بيئيا ويتمثل في عملية تصنيع الذهب التي تعتبر أحد المصادر الرئيسية للتلوث في إفريقيا بسبب إفرازات مادة الزئبق.
وفقا لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، تعمل الجزيئات الدقيقة الناتجة عن عملية تصنيع الذهب على تلويث المياه والهواء، وتصبح خطرا صحيا شديد الخطورة في حال تم استنشاقها من قبل البشر والحيوانات. كما يعتبر استخدام الزئبق أكثر شيوعا في عمليات استخراج الذهب ضيقة النطاق. وحيال هذه المسألة، بين صلاح أن “استخدام الزئبق والسيانيد في عملية التصفية يجعل عمال المناجم أكثر عرضة للأمراض التنفسية والسرطان”.
حسب وسائل الإعلام المحلية، قُتل شخص واحد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2017، وسط الاحتجاجات التي اجتاحت مدينة كولوجي، في ولاية جنوب كردفان، ضد شركات التنقيب عن الذهب التي تستخدم المواد الكيميائية السامة.
من المرجح أن تستمر هذه الاحتجاجات. ففي الوقت الحالي، يقود عبد المجيد ائتلافا يضم ضحايا مصادرة الأراضي في ضواحي الخرطوم في كل من الجريف شرق، والشجرة، والحماداب، والحلفايا، الذين لجأوا للاحتجاجات والاجتماعات والاعتصامات لتوصيل رسالتهم. وخلال السنوات الأخيرة، استقطبت هذه الجماعة الدعم من الأشخاص المتضررين من بناء السدود في شمال البلاد والذين يعملون الآن في مناجم الذهب.
افتتاح السد الكهرومائي على نهر النيل في مروي، شمال الخرطوم، في الثالث من آذار/ مارس سنة 2009.
يرى مجيد أن الحادثة التي وقعت في الخامس من آذار/ مارس دليل على التدهور الملحوظ، فبالنظر إلى الأسباب العامة للصراع في البلاد، “نجد أن النزاعات على الأراضي هي الموضوع الرئيسي للأزمة التي تمتد من دارفور إلى جبال النوبة وصولا إلى النيل الأزرق، بالإضافة إلى الصراعات القائمة حول النفط والمناطق الغنية بالذهب، ومواقع السدود وغيرها من المسائل الأخرى”.
كما دعا مجيد أصحاب الأراضي، بغض النظر عن خلفياتهم أو وظائفهم أو مصالحهم، إلى التجمع معا ضد المستثمرين الأجانب والحكومة. وفي هذا الصدد، قال مجيد “ندعو جميع ضحايا مصادرة الأراضي في جميع أنحاء البلاد لتوحيد وتنظيم صفوفهم في مجموعة واحدة للدفاع عن تاريخهم وهويّتهم”.
المصدر: ميدل إيست آي