إن الحروب تخلف أزمات متعددة بعد رحيلها، ولكن لو قسنا الأزمات على أهميتها لكانت مشكلة التعليم في المرتبة الأولى، لأن الطلبة سيعودون إلى مقاعدهم الدراسية، فمنهم من فقد أخيه أو أبيه أو أمه، فيحتاج المعلم أن يتعامل مع كل طالب بناءً على الأزمة النفسية التي مر بها، فضلًا أن المعلم تعرض لصدمات وأزمات على مرور ثلاث سنوات من حكم داعش.
نظرة على التعليم في حكم داعش
لعل مدينة الموصل مرت بحقبة تاريخية مختلفة تمامًا عن حقبها السابقة، فعند الحديث عن التعليم أو التربية، يتوجب علينا أن نقف قليلًا مع سياسة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” التعليمية.
أولى تنظيم داعش التعليم أهمية كبيرة إبان احتلالهم لمدينتي الموصل قبل نحو عامين ونصف، إذ أحدثوا تغييرات جذرية في قوانين ومناهج التعليم، فعلى سبيل المثال، أعلنوا سن الرابعة السن الإلزامي لبدء تعليم الأطفال مع تركيز كبير على تعليم اللغة العربية، ومن ثم دراسة القرآن والعلوم الشرعية الإسلامية حتى سن الخامسة عشر، بعد هذه المرحلة، يتم إعداد وتدريب الأطفال على استخدام السلاح.
من جهة أخرى، لغت الجماعة المتطرفة دروس الفن والتاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والديانة المسيحية، كما طلبوا من مدرسي مادة الرياضيات إزالة أي أسئلة ترمز للقروض البنكية والديموقراطية والانتخابات، ولا يمكن لمدرسي الأحياء تدريس نظرية النوع البشري أو الإشارة إليها، وتم منع تدريس القصائد الشعرية التي تعود للعصر الجاهلي ضمن منهاج اللغة العربية.
وللتاريخ تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فشل في استقطاب أهل الموصل وأولادهم إلى مدارسه فشلًا ذريعًا، وكان هناك شبه رفض عام للالتحاق بهذه المدارس.
تحررت الموصل من تنظيم داعش الإرهابي، وبدأت الحياة تعود إليها تدريجيًا، ولكن ما زالت كثيرٌ من العقبات تواجه عودة الحياة بالكامل
ماذا يحتاج التعليم المدرسي بعد التحرير؟
معلوم أن الموصل تحررت قبل أكثر من عام من سطوة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي، ودفعت المدينة وأهلها ضريبة هذا التحرير خسائر مادية وبشرية راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف إنسان، لكن يبقى السؤال المهم الذي يطرح نفسه وبقوّة: ما احتياجات التعليم بعد التحرير؟
1- البدء بإعداد مناهج جديدة نظرًا لعدم ملاءمة المناهج المعتمدة سابقًا في التدريس للمرحلة القادمة.
2- جهود دولية في مجال التعليم لإعادة بناء نظام تعليمي شامل لكل المراحل الدراسية الخاصة بالأطفال، وشخصيًا، أعتقد أننا بحاجة ماسة لاستلهام تجربة المؤسسات الفلندية في تعليم الأطفال، إذ إن الوسائل التقليدية للتعليم المدرسي لن تجدي اليوم مع آلاف الطلاب المتسربين عن التعليم أو الذين خضعوا للتعليم في ظل سيطرة قوات التنظيم.
3- التركيز على البُعد النفسي لدى الطلاب وإيلاء اهتمام كبير لسبل التعامل مع الأطفال الذي شهدوا الكثير من المشاهد العنيفة خلال الفترة الماضية.
4- أهمية إعادة تدريس الفنون بمختلف أنواعها للمدارس.
5- البدء بتحضير مناهج دراسية جديدة من الآن، لأن العودة للمناهج الدراسية القديمة التي كانت مستخدمة قبل الاحتلال لن تجدي نفعًا اليوم.
6- لا يمكن الاعتماد على المدارس الحكومية وحدها لاستيعاب كل الطلاب والإشراف على تعليمهم، يتوجب أن يكون هناك دور فعال لمنظمات دولية كاليونيسف أيضًا.
7- إعادة تأهيل وتدريب الكوادر التعليمية في مدارس الموصل، خاصة أنهم أيضًا خضعوا لممارسات عنيفة من عناصر التنظيم وهم بحاجة لتدريب وتأهيل أكاديمي ونفسي بشكل فعلي.
8- فيما يخص اليافعين، أتمنى عودة المراكز الثقافية الأجنبية للعمل مجددًا في المدينة بأقصى سرعة بعد التحرير لدورها في تقديم ثقافة مختلفة وأنشطة احترافية موجهة للشباب وتساعد على إعادة تأهيلهم.
المعلم نفسه قد تأثر كثيرًا بأحداث داعش، فتقريبًا 90% من المعلمين والمدرسين لم يتركوا مدينة الموصل، وبقوا طوال فترة داعش
ما أبرز التحديات التي تواجه التعليم في مدينة الموصل؟
تحررت الموصل من تنظيم داعش الإرهابي، وبدأت الحياة تعود إليها تدريجيًا، ولكن ما زالت كثيرٌ من العقبات تواجه عودة الحياة بالكامل، ومن الأمور المهمة التي تواجه عقبات ملف التربية والتعليم، وفي هذا الملف حدثنا الأستاذ عبد المالك السعدي المدرب والمدرس في مدارس الموهوبين في الموصل، قائلًا: “التحديات التي تواجه التعليم هي ثلاثة أشياء رئيسية:
1- تحديات تواجه المعلم.
2- تحديات تواجه المنظومة التعليمية بالكامل.
3- تحديات تواجه المدينة من الأسرة والمجتمع وما يتضمنها.
أما التحديات التي تواجه المعلم، فالمعلم نفسه قد تأثر كثيرًا بأحداث داعش، فتقريبًا 90% من المعلمين والمدرسين لم يتركوا مدينة الموصل، وبقوا طوال فترة داعش، فكثير منهم فقد أمواله وأهله وجيرانه، مما سبب صدمة له، فهم يحتاجون إلى علاج من الصدمة التي تعرضوا لها نتيجة احتلال داعش لمدينة الموصل، وكذلك نتيجة لعمليات التحرير.
بالإضافة إلى ما تراكم من صدمات أخرى، منها ما يتعلق بالراتب، فمنهم من تأخر التصريح الأمني، فبالتالي هذه تعتبر تحديات أثرت على نفسية المعلمين والمدرس بشكل كبيرٍ جدًّا، وهذا انعكس على العملية التربوية ككل.
وأضاف عبد المالك السعدي: “من التحديات التي تواجه المعلم كثافة الطلاب في داخل الصف الواحد، حيث إن عددًا كبيرًا من المدارس، وخصوصًا الساحل الأيمن بالذات دمرت تدميرًا كاملًا، مما دفع أن يكون هنالك دوام ثلاثي في المدارس، وهناك ثلاث أو أربع مدارس يداومون في مدرسةٍ واحدةٍ، فقد تدخل إلى الصف الواحد، فتجد ثمانين إلى مئة طالب داخل الصف، ومن التحديات انعدام الدعم اللوجستي في المدينة، وخاصة في الأيمن، وكذلك قلة عدد الرحلات وعدم توفر المناهج واللوحات ومستلزماتها والمختبرات دمرت تدميرًا كاملًا، كل ذلك أثّر على العملية التعليمية بشكل واضح جدًا”.
وفي نفس السياق أضاف السعدي “التغيير المفاجئ للمناهج ومعلوم أن الموصل انقطعت عن التعليم ثلاث سنوات، إبّان حكم داعش للمدينة واحتلاله لها، فبقي المعلم بعيدًا عن تطورات المنهج في العراق، فحدث هنالك تغيير للمناهج الدراسية، وخاصة في المرحلة الابتدائية، فالمناهج الآن، من أرقى المناهج، ولكن فيها من الصعوبة”.
ستتفاجأ أنني أُعطيت دورة من الدورات، فكان عدد الحضور 43 معلمًا، يفترض بهم أنهم يدرسون مادة العلوم، تفاجأتُ! 33 منهم، من تخصص غير العلوم، كتخصص التربية الإسلامية أو العلوم الاجتماعية يدرسون مادة العلوم، علمًا أن مادة العلوم الآن تحتاج لشخص مختص في الأحياء والكيمياء والفيزياء، لأن فيها شيء من الدقة وشيء من العمق، لأنها تعتمد على التعلم النشاط، فالمعلمون يحتاجون إلى إعادة تأهيل، فمنهم من لا يمتلك الأدوات اللازمة لتدريس هذا المنهج، فالمنهج يعتمد على طريقة active learning، وهم لم يأخذوا هذه الطريقة ولم يتعلموها، يفترض بالمعلم أن يدخل دورات حتى يطبق هذا المنهج”.
وفي الحديث عن التحديات التي تواجه المعلم قال السعدي: “ما يتعلق بالعبور، وما يتعلق بعملية سبر المعلومات، فالقرار من الناحية الاجتماعية والسياسية كان سيمًا جدًا، بأن تجعل الطلبة يتجاوزون مراحل من خلال سبر المعلومات، لكن من الناحية العلمية فقد أثّر كثيرًا، فقد تجد طالبًا في الصف الثالث الابتدائي لا يعرف الحروف ولا يعرف القراءة والكتابة، فبالتالي هنا يحصل إرباك كبيير، فيضطر المعلم أن يعلمه الحروف وغيرها، فهذه تحديات تواجه المعلم في العملية التعليمية”.
كيف يتعامل المعلم مع المنهج الجديد؟
معلوم أن المنهج التعليمي في العراق تغير منذ سنوات، لكن ما زال هناك تقصير من الوزارة، في إدخال المعلمين والمدرسين دورات، لإزالة الصعوبات والعقبات الموجودة في المنهج.
قال الأستاذ التدريسي في مدينة الموصل عبد المالك السعدي إن من أبرز المشاكل التي تواجه التربية عدم وجود كفاءات حقيقية تمسك العملية التربوية، فخلال عام كامل تغير خمسة مديرين عامّين في مديرية تربية نينوى، ومديري الأقسام يتغيرون مرتين، فهذا يربك العملية التعليمية
وبهذا الخصوص يحدثنا الأستاذ عبد المالك السعدي قائلًا: “التعليم يمر بمنعطف كبير جدًا، هذا المنعطف يحتاج إلى وقفة جادة، لإعادة ترميم ما فات، فالمناهج هي مناهج مركزة وقوية، ولكن هذه المناهج المركزة والقوية لا توجد كفاءات تستطيع أن تدرسها، فبالتالي تحتاج إلى دورات لتأهيل المعلمين والمدرسن، وفي هذا المجال أقمنا عشر دورات في مجال طرائق التدريس والتأهيل النفسي والدعم الاجتماعي، ونحن مستمرون، لكن بالنهاية 53 ألف معلم ومدرس في محافظة نينوى، ونحن لا نستطيع أن نستوعب في الدورة الواحدة أكثر من 40 معلمًا، فيحتاج إلى تكثيف، وهذا دور المنظمات الدولية أن تركز جهدها في هذا الاتجاه”.
ما أهم مشاكل مديرية التربية في محافظة نينوى؟
في سياقٍ آخر يحدثنا الأستاذ عبد المالك السعدي، عن أهم مشاكل مديرية تربية نينوى “من أبرز المشاكل التي تواجه التربية موضوع الرواتب، فهو تحدٍ كبير جدًا، وكذلك موضوع الترفيعات، فالرواتب لم تتحرك، وما زال المعلم يتقاضى نفس الراتب الذي كان يتقاضاه قبل دخول داعش للمدينة، فأربع سنوات مرت، ولم يترفع المعلم، ولم يترق، وهذا يؤثر نفسيًا على العملية التربوية.
أما التحدي الثاني، فهو عدم وجود كفاءات حقيقية تمسك العملية التربوية، فخلال عام كامل يتغير خمسة مديرين عامّين في مديرية تربية نينوى، ومديري الأقسام يتغيرون مرتين، فهذا يربك العملية التعليمية، ويربك التعليم بشكل عام”.
ما مستوى الطلاب علميًا بعد التحرير؟
معلوم أن بعد الحروب كل شيء يتغير، ومن الأشياء التي تتغير مستويات الطلاب فكريًا ونفسيًا وعلميًا، وخصوصًا إذا كانت حرب مع وحشية الإرهاب والاستبداد، ستكون لها انعكاسات على الحياة وعلى المستوى الفكري والتعليمي.
جهود كبيرة ينبغي أن تقدمها وزارة التربية لطلاب الموصل، لتجاوز هذه المحنة وإزالة آثار الحرب النفسية
يجيبنا الأستاذ عبد المالك السعدي قائلًا: “مستوى الطلاب يكاد يكون متوسط أو دون مستوى المتوسط، بسبب التراكمات الماضية والصدمة النفسية والمشاكل التي مرت بالمدينة من احتلال داعش وعمليات التحرير، ولتلافي هذه الأسباب، هم بحاجة لدورات تقوية وإعادة تأهيل نفسي”.
بعد هذه الرحلة الشاقّة التي مرتْ بها مدينتنا الحبيبة الموصل، حكايات كثيرةٌ لم ترو بعد، ولكن الحكاية الأهم حكاية التعليم وكيفية إزالة العقبات والتحديات، كيف يمكننا إزالة ترسبات التطرف، وما لحقها من تعدٍ على حقوق الإنسان، جهود كبيرة ينبغي أن تقدمها وزارة التربية لطلاب الموصل، لتجاوز هذه المحنة وإزالة آثار الحرب النفسية.