تونس: انطلاق العد التنازلي لأول انتخابات بلدية ديمقراطية في تاريخ البلاد

بعد أكثر من 60 سنة من تأسيس الجمهورية الأولى إبان منتصف القرن الماضي وبعد 7 سنوات من تأسيس الجمهورية الثانية إثر ثورة 17 من ديسمبر- 14 من يناير 2011، تشهد تونس أول انتخابات محلية وجهوية في تاريخها، انتخابات أجلت أكثر من مرة منذ الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة سنة 2014 لعوامل سياسية بدرجة أولى وأمنية بدرجة أقل ليتم الاتفاق بعدئذ على إجرائها يوم 6 مايو المقبل.
ولعل المراقب للشارع التونسي طيلة الأيام الأخيرة سرعان ما سيلاحظ الحركية السياسية والاجتماعية الاستثنائية على جميع المستويات، وفي علاقة بمختلف الهياكل والمؤسسات أحزابًا وجمعيات ومؤسسات حكومية ومنظمات إقليمية ودولية تتأهب كلها، كل انطلاقًا من وظيفته واختصاصه، لخوض عرس البلديات في تونس البلد العربي الأول في مؤشر الديمقراطية.
يعتبر مشروع تعميم النظام البلدي استحقاقًا دستوريًا شرعه التونسيون وقد تبلور ذلك من خلال مقتضيات الفصل 131 من دستور 27 من يناير 2014 الذي ينص على أنّ الجماعات المحلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم يغطي كلّ صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون، علمًا أنّ النظام البلدي السابق لا يغطي كامل التراب الوطني وبالتالي لا يشمل كل المواطنين.
350 بلدية من بنزرت شمالاً إلى تطاوين جنوبًا
تفعيلاً لمقتضيات الدستور تم إحداث بلديات جديدة في الأوساط الريفية وتوسعة أخرى ليبلغ عددها 350 بلدية ستخوض غمار الانتخابات البلدية، ولعل ما دفع المشرع التونسي لتبني هذا التقسيم الشامل هو كون 3 ملايين ونصف من المواطنين لم يكونوا معنيين بالعمل البلدي وخدماته ما تطلب الذهاب في نهج التعميم البلدي إضافة إلى الخلل الهيكلي الذي كان بارزًا على المستوى الديمغرافي، إذ لا يتجاوز عدد سكان 184 بلدية تونسية من بين 264 بلدية عشرين ألف ساكن، في حين أن المعدل الوطني للسكان كان في حدود 25559 ساكنًا، ولم تكن تغطي البلديات التونسية سوى عُشر مساحة التراب التونسي، علمًا أن 61% من التراب غير مخصص للسكن، لذلك فقد تم إلى حدود السنة السابقة توسعة 187 بلدية قديمة وإحداث 86 بلدية جديدة موزعة على ولايات الجمهورية للحد من الفارق الجهوي وإنشاء مناطق بلدية ذات مؤشرات ديمغرافية وجغرافية متوازنة ومتكافئة تتلاءم ومقتضيات التنمية المحلية واللامركزية.
رغم الجدل: الأمنيون والعسكريون يصوتون لأول مرة
رغم ما أحدثه من جدل في الأوساط الأمنية والسياسية في تونس، فإن مشروع قانون منح حاملي السلاح في تونس حق الاقتراع في الانتخابات البلدية رأى النور وذلك في سابقة تاريخية في العالم العربي، إذ أقر البرلمان التونسي مشروع القانون المتعلق بالانتخابات والاستفتاء بعد موافقة 139 نائبًا ورفض 22 آخرين من جملة 217.
ويجيز القانون لأول مرة مشاركة العسكريين والأمنيين في الانتخابات المحلية دون سواها، وقد أدخل البرلمان التونسي تعديلاً على قانون الانتخابات أعطى بموجبه قوات الجيش والأمن التي لم يسبق لها الاقتراع منذ الاستقلال، حق التصويت في الانتخابات البلدية والجهوية “دون سواهما”.
وأضاف التعديل إلى القانون فصولاً وفقرات نصت خصوصًا على أن “يُرسَّم بسجل الناخبين، العسكريون وأعوان قوات الأمن الداخلي في الانتخابات البلدية والجهوية دون سواهما”، وحظر القانون على هذه القوات الترشح لهذه الانتخابات أو المشاركة في “الحملات الانتخابية والاجتماعات الحزبية وكل نشاط له علاقة بالانتخابات”، كما نص على “عزل” أي عسكري أو أمني يخالف هذا الحظر.
وستصوّت قوات الأمن والجيش في الانتخابات البلدية والجهوية بتونس يوم 29 أبريل الحاليّ وفق الرزنامة الزمنية التي حددتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، على أن تُفرز أصواتهم بالتزامن مع عمليات الفرز في مكاتب الاقتراع يوم 6 مايو.
جزء مهم من الأمنيين خاصة (دون العسكريين) أعلنوا مقاطعتهم لهذه الانتخابات مطالبين بعدم تجزئة حقهم في الانتخاب
ومنع القانون تعليق لوائح بأسماء الناخبين الأمنيين والعسكريين “في مدخل مركز أو مكتب الاقتراع”، هيئة الانتخابات أعلنت في موعد لاحق أنها وضعت على ذمة القوات الحاملة للسلاح 359 مركز اقتراع موزعين على كامل مناطق الجمهورية بحساب مركز واحد لكل دائرة بلدية مع إضافة 7 مراكز في الدوائر البلدية ذات الكثافة العالية وهي تونس العاصمة والقيروان في وسط البلاد وقفصة جنوب البلاد.
ويذكر أن عدد قوات الأمن في تونس يبلغ نحو 75 ألفًا، وعدد قوات الجيش ستين ألفًا باعتبار الاحتياط وفق إحصاءات رسمية، كما تجدر الإشارة إلى أن جزءًا مهمًا من الأمنيين خاصة (دون العسكريين) أعلنوا مقاطعتهم لهذه الانتخابات مطالبين بعدم تجزئة حقهم في الانتخاب وبالتالي تمكينهم من حضور الاجتماعات الحزبية والمشاركة في التظاهرات السياسية والاقتراع في الانتخابات التشريعية والرئاسية وهذا ما يمنعه القانون الحاليّ.
الوفاق الحاكم والجبهة الشعبية والمستقلون: ثلاثة أقطاب تهيمن على المشهد
أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس منذ يوم 5 أبريل الحاليّ في ندوة صحفية، وهي هيئة دستورية مستقلة تمثل الجهة التنفيذية المشرفة على سير عملية الانتخابات خلال جميع أطوارها، أن 2074 قائمة تم قبول ترشحها للانتخابات البلدية بصفة نهائية وذلك بعد استيفائها للشروط القانونية وبعد النظر في الطعون المقدمة التي بتت فيها المحاكم الإدارية المنتصبة بالجهات، ومن بين هذه القائمات 159 قائمة ائتلافية و860 قائمة مستقلة و1055 قائمة حزبية.
ما يجب التسليم به وتسليط الضوء عليه باعتباره ظاهرة سياسية حديثة في المشهدية السياسية التونسية هو نجاح المستقلين في تقديم 860 قائمة في مختلف البلديات، أي أنها ستمثل بمعدل قائمتين في الـ350 بلدية وهو رقم مهم يعكس طبيعة الانتخابات البلدية التي تميل إلى استثمار الشخصيات المحلية والانتماءات العائلية والعشائرية.
وسيكون التنافس بهذا الشكل قويًا بين حزبي التحالف الحاكم الحاليّ: النهضة والنداء، من جهة كقوى سياسية ثابتة في المشهد، والمستقلين من جهة أخرى الذين لهم من الحظوظ الشيء الكثير، باعتبار أن نسبة تمثيلهم في مجمل القائمات المترشحة يناهز الـ40%، فباختلاف خلفياتهم ورؤاهم وتصوراتهم للعمل البلدي، فهم يراهنون على الظفر بنسبة مهمة من مقاعد المجالس المحلية المقبلة.
إثر انطلاق الحملة الانتخابية رسميًا السبت الماضي بدأ العد التنازلي للانتخابات البلدية وبدأت معه جحافل الحملات الإعلانية للمترشحين لتكشف عن حرب اتصالية محتدمة
وبناء على الانتماء السياسي للقائمات المترشحة فإنه يبدو جليًا أن حلبة المنافسة السياسية في البلاد ستحافظ على نفس موازين القوى مقارنة بانتخابات 2014، إذ تتصدر حركتا نداء تونس والنهضة المشهد بـ346 قائمة للأولى و350 للثانية.
وحل ائتلاف الجبهة الشعبية اليسارية بعدهما بـ124 قائمة تليه حركة مشروع تونس بـ80 قائمة، فحزب التيار الديمقراطي وحراك تونس الإرادة فآفاق تونس والائتلاف المدني بـ39، فحركة الشعب والحزب الدستوري الحر والبناء الوطني، فالحزب الاشتراكي وبني وطني فالمبادرة فالاتحاد الشعبي الجمهوري فالبديل التونسي بـ4 قائمات يتيمة وهو الحزب الأقل حضورًا في قائمة الترشحات التي تندرج تحت اليافطات الحزبية بنسبة لا تكاد تتجاوز 0.19%.
كما يعكس هذا الترتيب الخطوط العريضة للمشهد السياسي الحاليّ، واقتصار التحالفات الحزبية بين الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري المعارض للوفاق الحاكم “الليبرالي” والائتلاف المدني، على 177 بلدية فقط، وهو ما يعني أن هذه الائتلافات لم تنجح في الانتشار على كامل الخريطة الانتخابية.
الحملة الانتخابية وحرب “النماذج الاتصالية” للمترشحين
إثر انطلاق الحملة الانتخابية رسميًا السبت الماضي بدأ العد التنازلي للانتخابات البلدية وبدأت معه جحافل الحملات الإعلانية للمترشحين لتكشف عن حرب اتصالية محتدمة.
أحزاب “علمانية” تحاول الترويج لمرشحيها في صورة المحافظين المتجذرين في هويتهم وتاريخهم (الإسلامي) إما بحجاب (خمار) ترتديه إحدى المرشحات أو بآيات من القرآن الكريم تُستهل بها البيانات الانتخابية لهذه الأحزاب، وأخرى “إسلامية” تحاول بدورها الترويج لمرشحيها في صورة المنفتحين على مجتمعهم وعلى آخر صيحات الموضة في اللباس والتجميل حيث سرعان ما خرجوا بأطرهم الدلالية من النقيض إلى النقيض (باعتبار تمظهراتهم الإعلامية والاتصالية المعتادة).
هذه الحرب الاتصالية الساعية لاغتنام أصوات الناخبين غير المنتمين “لدفتر الخانة”، كشفت عجز مختلف الفرقاء السياسيين في إيجاد معادلة اتصالية و”هوياتية”
وبين هذا وذاك لا يجد آخرون ممن لم يجدوا أساليب تمكنهم من جلب الأضواء (وأغلبيتهم من المستقلين) غير أساليب “الإضحاك” عن قصد وعن غير قصد فلم تكد تخرج مضامينهم الانتخابية (الصورية خاصة) من الهزل ودغدغة مشاعر الناخب الذي يئس المنابر السياسية الحازمة طوال السنوات الماضية إما بصورة “غير نمطية” لمرشح أو حتى باسم قائمة مترشحة يحمل كنية مرشح أو اسمًا يصنفه القاموس الشعبي التونسي في خانة الكوميديا والمزح والدعابة.
هذه الحرب الاتصالية الساعية لاغتنام أصوات الناخبين غير المنتمين “لدفتر الخانة” حسب توصيف رئيس الحكومة الأسبق والقيادي في حركة النهضة عّلي العريض ويقصد به القاعدة الثابتة للناخبين، كشفت عجز مختلف الفرقاء السياسيين في إيجاد معادلة اتصالية و”هوياتية” متوازنة تمكنهم من أن يكونوا مثل الناخبين من عموم التونسيين قلبًا وقالبًا دون السعي لمحاولة “التلون” والتماهي مع فئات الناخبين بمختلف فئاتهم وأجناسهم وأعمارهم لغاية وقتية عابرة فحسب يعودون إثر تحقيقها على ما كانوا عليه.
صور المرشحتين عن حركة النهضة الإسلامية والجبهة الشعبية اليسارية
أقل من أسبوعين يفصلان التونسيين عن موعد تاريخي مع الصندوق من بوابة الانتخابات البلدية في السادس من مايو المقبل، موعد سيكون محددًا بارزًا للعشرية القادمة في تونس باعتباره تاريخًا مؤسسًا لمنظومة سياسية جديدة أقرها دستور 27 يناير 2014 تتركز على الحكم المحلي والجهوي دعمًا للامركزية كانت وما زالت مطلبًا شعبيًا ملحًا للتونسيين، مثلما قد يكون محددًا لخريطة سياسية جديدة تتوزع فيها القوى السياسية بأوزان مغايرة.
ولكن الأهم أن موعد الـ6 من مايو قد يكون آخر أبواب الأمل التي سيطرقها التونسيون ليروا بؤرة نور في النفق المظلم غير معلوم المخرج الذي تمر به بلادهم، بما يشيع فيهم الطمأنينة ويعيد لهم الثقة في المستقبل وفي ساسة المستقبل.
الشعار الرسمي للانتخابات البلدية 2018