تتأثر بنية ووظيفة الدماغ البشريّ خلال مراحل تطوّرها بالبيئة المحيطة به، لا سيّما البيئة الاجتماعية والثقافية التي ينشأ فيها الفرد في مراحل حياته المختلفة، وبالتالي فيركّز كلٌّ من علم الأعصاب الاجتماعيّ والثقافيّ في أبحاثهما ودراساتهما على العوامل التي تحدث في البيئة المحيطة بالفرد بكلّ ما فيها وكيف تتفاعل مع بعضها البعض لتكوّن بالنهاية أنماطًا مختلفة من السلوكيات والشخصيات والقدرات المعرفية والإدراكية، وكيف تؤثر كلّ تلك العوامل بالنفس ككلّ.
ونظرًا لأنّ تلك القدرات والعمليات المعرفية والإدراكية، كاللغة والتفكير وحلّ المشكلات واتخاذ القرارات، جميعها ترتبط بشكلٍ أو بآخر بتغيرات بيولوجية في الدماغ نفسه، فيمكننا القول أنّ البيئة والمجتمع لا تقتصر بكونها تؤدي إلى تأثيرات نفسية أو اجتماعية على الفرد نفسه أو مجوعة الأفراد، وإنّما تؤدي إلى تغييرات بيولوجية تدعم تلك التأثيرات، وتحملها مع الفرد عبر المراحل العمرية المختلفة.
يمكننا فهم كيف يؤثر الضغط الاجتماعي على دماغ الفرد بالنظر مبدئيًّا إلى كيفية تأثر دماغ المراهِق بذلك، نظرًا لأنّ تلك المرحلة من العمر تتسم بالعديد من التغيرات البيولوجية والسلوكية والاجتماعية التي تستمرّ مع الفرد لمراحله اللاحقة وترسم ملامح شخصيته وقدراته الفكرية والإدراكية المتعددة.
التغيرات التي تحدث في الفص الجبهي من الدماغ تلعب دورًا ضخمًا وكبيرًا في طريقة تفكير الفرد وتأثره بالضغط الاجتماعي
باختصار، يمكننا القول أنّ دماغ المراهِق يخضه لتغيرات كثيرة بدءًا من دخوله لتلك الفترة وانتهاءً بانتهائها، وإحدى أهم مناطقه أو أجزائه التي تتغير بشكلٍ كبيرٍ جدًا خلال تلك المرحلة تسمّى قشرة الفصّ الجبهي “thalamus“، والمسؤولة عن العمليات المعرفية عالية المستوى والتي يتميّز بها الإنسان عن غيره من الحيوانات؛ كاتخاذ القرار والتخطيط، وحل المشكلات وقياس الأفعال والتمييز بين الصحيح والخاطئ منها والتفكير في عواقبها، بالإضافة للتفاعل الاجتماعي و فهم الآخرين، وتشكيل الوعي الذاتي. كما يرتبط هذا الجزء بالعواطف والدوافع التي تتحكم بالسلوكيات وتؤدي إليها.
وبالتالي ليس من الصعب إذن استنتاج أنّ الوتيرة الكبيرة من التغيرات التي تحدث في ذلك الجزء من الدماغ تلعب دورًا كبيرًا وواضحًا في طريقة تفكير المراهِق وسلوكياته، إذ يبدو في بعض الأحيان ناضجًا أو يحاول أن يبدو كذلك، وفي لحظات أخرى لا يستطيع إلا أن يكون عاطفيًا متسرعًا أو غير منطقي ومتهوّر. بالنهاية، فالدماغ يخضع لمرحلة من التغيير وإعادة الهيكلة ولا عجب من كلّ تلك التقلبات التي يمرّ بها المراهق.
ولفهم التغير الدماغي وكيفية تأثيرها على سلوك وتفكير المراهقين بشكلٍ أكبر، يحتوي الفص الجبهي على مادة رمادية “Grey matter“، التي يزداد حجمها بازدياد عمر الطفل وتصل ذروتها مع بدء مرحلة المراهقة، وجدير بالذكر أنها تحدث –غالبًا- عند الذكور بعد عامين من الإناث، وبالتالي قد يكون هذا السبب أحد الاحتمالات في بلوغ الفتيات بشكلٍ أسرع من الذكور، أو قبلهم لنقل. مع بدء مرحلة المراهقة وتقدمها، يحدث تراجع مهم في حجم المادة الرمادية ونموّ في حجم المادة البيضاء المسؤولة عن إرسال الإشارات للخلايا العصبية الأخرى.
الدماغ الناضج يستطيع الموازنة اللازمة بين العمل أو الجهد من جهة والمكافأة والعقاب من جهة أخرى، ويقوم ذلك من خلال استخدام الروابط بين أنظمة التحكم الإدراكي والمعرفي
كيف نفهم التقلبات في سلوك المراهقين إذن؟ يُعتبر التغير في حجوم المادتين الرمادية والبيضاء عملية تطويرية مهمة جدًا، إذ تحوي المادة الرمادية على العديد من الخلايا والوصلات العصبية، وحين يتراجع حجمها تُرسَل إشارات للدماغ لاستبعاد أي خلايا أو وصلات عصبية غير مرغوب فيها وتقوية تلك التي تُستخدم بشكلٍ أكثر من غيرها، العملية التي تعتمد أساسًا على المحيط والبيئة التي يتواجد فيها المراهق.
العديد من الدراسات أشارت إلى أنّ الدماغ الناضج يستطيع الموازنة اللازمة بين العمل أو الجهد من جهة والمكافأة والعقاب من جهة أخرى، ويقوم ذلك من خلال استخدام الروابط بين أنظمة التحكم الإدراكي والمعرفي الموجودة أساسًا في قشرة الفص الجبهي التي تحدثنا عنها. ويشير علماء النفس لهذه العملية على أنها القدرة على ضبط الأداء المعرفي والإدراكي بناءً على البيئة المحيطة وما تتطلبه أو تلزمه. فماذا يحدث حينما تكون البيئة عاملًا ضاغطًا على الفرد؟
أشارت إحدى الدراسات إلى وجود صلة بين كمية المادة الرمادية في منطقة معينة من الدماغ وبين ميل الفرد للتوافق مع الضغوط الاجتماعية من حوله
فعلى الرغم من أن ميل الأفراد ونزعاتهم للتوافق مع الضغوط الاجتماعية وتطابق الفرد مع أقرانه كانت موضعًا للدراسة على مدى عقود في سياق علم النفس المعرفي من جهة والاجتماعيّ من جهة أخرى، إلا أنه لم يتم ربط هذا الموضوع سابقًا بعلم الأعصاب وتشريح الدماغ.
في إحدى الدراسات، اكتشف الباحثون وجود صلة بين كمية المادة الرمادية في منطقة معينة من الدماغ وبين ميل الفرد للتوافق مع الضغوط الاجتماعية من حوله؛ وقد أشارت الدراسة إلى أنّ بعض المناطق في الدماغ يتم ضبطها بشكل خاص للتعرف على إشارات التناقض الاجتماعي وعدم التوافق بين الفرد وآخرين في المجموعة التي ينتمي إليها، مثل عندما لا يوافق شخص ما على اختيار ما، ولكنْ نظرًا للضغط الاجتماعي ورغبته في موافقة غيره، سيقوم هذا الشخص بتحديث آرائه وفقًا لذلك.
وقد أكد الباحثون في الدراسة على أنّ “إن القدرة على التكيف مع الآخرين ومواءمة أنفسهم هي مهارة اجتماعية مهمة، ولكنْ كما أظهرت الدراسة، فقد تبيّن أنّ تلك القدرة هي أيضًا جزءٌ متين في بنية الدماغ وبيولوجيّته، وبالتالي يمكننا القول أنّ المهارات المعرفية التي تتأثر بالجماعات وضغطها والرغبة في موافقتها والانتماء إليها، ترتبط أيضًا ببيولوجيا الدماغ، ولا تقتصر فقط على التفسيرات النفسية البحتة.
وهذا يقودنا بالمحصلة إلى التأكد من أنّ أدمغتنا تتأثر بالبيئة وتؤثر بها، وأنّ جميع قدراتنا من تفكير وذاكرة واتخاذ للقرارات وحل المشكلات هي أيضًا نتاج ذلك التفاعل بين الدماغ والبيئة؛ ما يجعلنا واثقين أنّ البيئة الصحية والسليمة تستطيع أنْ تنتجَ فردًا يستطيع القيام بتلك العمليات المعرفية بشكلٍ صحيّ لدرجة كبيرة على أقل تقدير، أما البيئة السلبية فبالطبع ستؤدي إلى قدراتٍ ضعيفة وقد تصبح مرَضيّة في بعض الأحيان.