شهدت سوريا خلال أول عامين فقط من الانتداب الفرنسي (1920-1946) ما لا يقل عن 35 ثورة، قُتل فيها من الجنود الفرنسيين نحو 5 آلاف جندي؛ لذلك عمد المفوض الفرنسي الجنرال موريس ساراي (1919م – 1923) إلى إستراتيجية تقسيم سوريا إلى أقاليم ليتمكن من السيطرة عليها وإخماد الثورة فيها.
أصبح هذا تقليدًا مع أي حالة تأزم وانتفاض، لا سيما خلال السنوات الأخيرة من تعقيد الأزمة السورية، وفي كل أزمة عاصفة تقوم عدة قوى خارجية بتفجيرها وإخراجها إلى السطح في الأراضي السورية، يُعاد الحديث عن التقسيم وكأنه الحل الوحيد، بحسب نجيب الأرمنازي في كتابه “سوريا من الاحتلال إلى الجلاء”.
وبعد ثورات الربيع العربي، أخذت حالة الهوس بشأن التقسيم بعدًا مختلفًا، ووصلت أطروحات التقسيم في الحالة السورية أوجَها بعد التدخل الروسي في سوريا، وبعد تأسيس قوات سوريا الديمقراطية الكردية التي توسعت في أماكن كبيرة بتغطية من الطيران الأمريكي.
ورغم أن فكرة تقسيم سوريا ألغيت من القاموس السياسي منذ الاستقلال عن فرنسا، وبدأت الأرض العربية بمواجهة المشكلات، إلا أن الحديث عن فكرة تقسيم سوريا إلى “كانتونات فدارلية” عادت مجددًا إلى المشهد من خلال تصريحات الخارجية الروسية.
سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية، ألقى هذا الأسبوع قنبلة سياسية أثارت المخاوف مجددًا بشأن مصير وحدة سوريا، إذ أكد أن موسكو لا تعلم كيف سيتطور الوضع في سوريا فيما يتعلق بالحفاظ على وحدة أراضيها، مشككًا في إمكانية بقاء سوريا “دولة موحدة”، إثر التطورات التي طرأت على الساحة.
التلاعب بورقة تقسيم سوريا على حساب الحل السياسي
قد لا يختلف ما قاله ريابكوف منذ يومين كثيرًا عما صدر منه قبل عام تقريبًا، إذ كان نائب وزير الخارجية الروسي أول من طرح فكرة “فدرلة سوريا”، ففي مارس/آذار 2016، مال إلى فكرة “الدولة الفيدرالية أو الكونفيدرالية”، وقال: “إذا قرر السوريون أن تكون سوريا دولة فيدرالية، فلا أحد يمكنه منع ذلك، أنا أتمنى من الأطراف المشاركين في المفاوضات دراسة اقتراح الفيدرالية”.
لكن تصريحات الخارجية الروسية هذه المرة تثير مخاوف جديدة في المنطقة، فمصطلح “تفكيك سوريا” الذي يجري تداوله على لسان الجميع لم يستخدم بشكل رسمي من قبل، مما يثير جدلًا بشأن مستقبل هذا البلد المتهالك في ظل ما يشهده من صراعات قد تنتهي برسم خرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط تتعدى حدود سوريا إلى كل من العراق ولبنان وتركيا.
هذه التصريحات أيضًا أعادت إلى الأذهان مخطط تقسيم سوريا إلى دويلات تحكمها دول الغرب من ناحية، والأكراد والفصائل المسلحة من جانب آخر، كما تشير إلى تغيرات في السياسة الروسية تجاه الحليفة سوريا، التي يراها البعض نوعًا من الضغط على النظام والمعارضة بفرض حالة التقسيم في حال عدم التوصل إلى تسوية سياسية.
ويبدو أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على علم بوجود محاولات حثيثة لتقسيم البلد العربي وتدميره، إذ تزامن التصريح الروسي مع تصريح آخر يتكرر دائمًا لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، من وجود محاولات تهدف إلى تدمير سوريا وتقسيمها، وإبقاء وجود قوات أجنبية في أراضيها إلى الأبد، وشدد على رفض موسكو لها، في إشارة إلى الوجود الأمريكي شرقي الفرات.
اعتبر مدير مركز الشرق للسياسات، باسل جنيدي أن التصريحات الروسية اعتراف ضمني من الروس أنهم لم يعودوا اللاعب الوحيد الذي سوف يحدد مستقبل سوريا
الحديث الروسي عن تقسيم سوريا.. لماذا الآن؟
التصريحات الروسية المتناغمة بين لافروف ونائبه ريابكوف أثارت المخاوف أكثر من أي وقت مضى، إذ جاءت في أعقاب التطور الذي يشهده الملف السوري، حيث نفذت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربة عسكرية ثلاثية على أهداف تابعة للنظام السوري، ردًا على هجوم كيماوي على مدينة دوما، أوقع عشرات القتلى ومئات الجرحى.
ويتزامن ذلك أيضًا مع مواصلة الأمم المتحدة الضغط من أجل قيام مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بإنجاز مهمتهم في دوما التي تعيقها موسكو والنظام السوري بحججٍ أمنية يقف وراءها قصف المسلحين، وهو ما يناقض المشهد على الأرض، فمسلحو المعارضة خرجوا من المدينة قبل نحو 10 أيام، وهو أمر قد يؤكد الاتهامات الغربية لروسيا والنظام بالسعي لـ”تطهير” موقع الهجوم في دوما من الأدلة قبل السماح للمحققين الدوليين بالوصول إليه.
واعتبر مدير مركز الشرق للسياسات باسل جنيدي أن التصريحات الروسية اعتراف ضمني من الروس أنهم لم يعودوا اللاعب الوحيد الذي سوف يحدد مستقبل سوريا، وشكل الحل السياسي فيها، كما كانت تروج موسكو في السابق، إذ تأتي في وقت تسعى فيه قوات النظام السوري إلى استعادة آخر جيوب المعارضة في محيط دمشق، وترحيل مقاتلي المعارضة باتجاه شمال سوريا.
وفي ظل الحديث عن بوادر تسوية بخروج مسلحي داعش والنصرة من عدة مناطق من بينها مخيم اليرموك في ريف دمشق عن، واحتمال عودة المفاوضات السياسية التي يسعى الكرملين إلى دفنها مع مسار جنيف، تبرز تساؤلات يرى كثيرون أنها مريبة بشأن “إمكان بقاء سورية دولة واحدة”، وكأن موسكو بذلك تشهر ورقة تقسيم سورية بشكل ربما يبدو بريئًا.
يرى محللون أنه “ليس من المستبعد أن يصل الطرفان الأمريكي والروسي عقب لقاء الزعيمين على شكل ومضمون “الهندسة الجيوسياسية” لسوريا ضمن إطار “سوريا موحدة” وفقًا للقرارات الأممية الخاصة
لكن قد لا يكون ذلك ممكنًا في ظل التحركات الأمريكية، والحديث عن قمة قريبة بين ترامب وبوتين في البيت الأبيض على أن تلحقها قمة أخرى في الكرملين، مما يشير إلى احتمالات تنفيذ الخطة المشتركة، وكأن ما يجري يندرج ضمن الرسائل المتبادلة، لا سيما أن روسيا فهمت جيدًا مغزى الرسالة من الضربة الثلاثية، كما أن توقيت الضربة يأتي بعد تصريح آخر لروسيا متعلق بالجنوب السوري حيث أبدت مخاوفًا من تحوله لمنطقة حكم ذاتي بدعم أمريكي – بريطاني – أردني.
ويرى محللون أنه “ليس من المستبعد أن يصل الطرفان الأمريكي والروسي عقب لقاء الزعيمين على شكل ومضمون “الهندسة الجيوسياسية” لسوريا ضمن إطار “سوريا موحدة” وفقًا للقرارات الأممية الخاصة، وبشكل يضمن ويحافظ على نفوذ كل منهما.
لكن في حال حصل مثل هذا الاتفاق ستصبح إيران أمام تحد كبير، خصوصًا إن أخلت موسكو مسؤوليتها عن بعض المواقع، وكذلك الحال بالنسبة لواشنطن وبادرت “إسرائيل” ودول التحالف العربي أو الإسلامي بقيادة السعودية للعب دور أكبر في هذا الخصوص.
إطروحات التقسيم
تطفو على سطح المشهد خطة التقسيم السوري أكثر من أي وقت مضى، وقد تبدو واقعية حتى دون إعلان روسيا، إذ تتحدث التقارير عن إقامة 3 كيانات مستقلة في شرق سوريا وشمال شرق سوريا وكيان ثالث في جنوب غرب سوريا.
ويدور الحديث أولًا عن كيان كردي يمتد من القامشلي والحسكة إلى الباب ومنبج وعين العرب، وبحسب موقع بلومبيرغ، فإن الأكراد الكاسب الأكبر من أحداث المنطقة، فبعد تحقيق حلم الحكم الذاتي في كردستان العراق، يعمل أكراد سورية على فرض إقليم كردي شمال البلاد، ويحظون في سبيل ذلك بإسناد جوي أمريكي وتمويل أوروبي بغض النظر عن الانتهاكات التي يرتكبونها وعمليات التغيير الجغرافي المتمثلة في إزالة الحواجز التي كانت تفصل إقليم الجزيرة شرق سورية عن إقليمي عفرين وعين العرب في شمالها.
يشير المحلل الإسرائيلي تسفي برئيل في صحيفة هآرتس إلى أن المغزى الفعلي للاقتراح الروسي إذا تحقق فلن يكون للأكراد وحدهم في سوريا السيطرة على مقاطعة فيها حكم ذاتي، بل أيضًا تكون للعلويين مقاطعة خاصة بهم
وفي 23 من يونيو 2015 اقترح الخبير في الشؤون الأمنية بمعهد بروكينغز مايكل أوهانلون، حسم الصراع في سورية من خلال تأسيس نظام فيدرالي يبدأ من منطقتين: كردية في الشمال ودرزية في الجنوب، ومن ثم إنشاء منطقة آمنة للعلويين وتشكيل مجلس إدارة علوي يعمل على توفير الخدمات الأساسية بالتنسيق مع الروس والإيرانيين.
وهناك حديث قوي عن كيان ثاني، وهو إقامة حكم ذاتي لقبيلة شمر يمتد من جنوب الحسكة إلى شرق دير الزور على طول شرق الفرات، وهذه منطقة مهمة لأن بها نصف احتياطات سوريا من الغاز والنفط، فالقوات الأمريكية لن تسمح مطلقًا لجيش النظام السوري أو القوات الموالية لها من قطع نهر الفرات والسيطرة على الأماكن.
وهناك نية أيضًا لإقامة إمارة شمرية في هذه المنطقة بطريقة أو بأخرى بعد وجود أحمد آل الجربا أحد شيوخ قبيلة شمر مع القوات الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، وقد لا يكون صدفة كونه مقربًا من السعودية ومصر على وجه التحديد.
وفي هذا الصدد، يشير المحلل الإسرائيلي تسفي برئيل في صحيفة هآرتس إلى أن المغزى الفعلي للاقتراح الروسي إذا تحقق فلن يكون للأكراد وحدهم في سوريا السيطرة على مقاطعة فيها حكم ذاتي، بل أيضًا تكون للعلويين مقاطعة خاصة بهم، والمقصود كما يبدو مقاطعة اللاذقية التي فيها أيضًا المعسكرات البحرية وأغلبية القواعد الجوية لروسيا، ويبدو أن مقاطعة درعا أيضًا في الجنوب ستحظى بحكم ذاتي.
الكيان الثالث، في جنوب غرب سوريا، وبالتحديد في درعا والقنيطرة والسويداء، ويكون تحت سيطرة المعارضة السورية لمنع وصول إيران وحزب الله إلى هذه المنطقة، وقد يكون هذه الكيان حاجزا لحماية “إسرائيل”.
وتعيد هذه الفكرة إلى الأذهان ما طرحه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بشأن فكرة تقسيم سوريا على أسس إثنية وطائفية، وقال في محاضرة بمدرسة “جيرالد فورد للسياسة العامة” التابعة لجامعة ميشتيغان: “هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معًا، ولكن في مناطق مستقلة ذاتيًا على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض وهذه هي النتيجة التي أفضل رؤيتها تتحقق”.
وتبقى الأسابيع والشهور القادمة حاسمة إلا إذا حصل التوافق على إنجاز حل سياسي – وهو أشبه بمعجزة – يعيد البوصلة إلى الاتجاه الصحيح.