عند الساعة 2:25 فجر يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصف الجيش الإسرائيلي مبنى سكنيًا في شارع المؤسسات بحي الرمال “الراقي” في مدينة غزة. قُتل 3 صحفيين كانوا قد وقفوا أمام ذلك المبنى لتغطية ما اعتقدوا أنه هجوم وشيك على مبنى آخر.
يوثق هذا التحقيق الساعات الأخيرة من حياة الصحفيين: سعيد الطويل ومحمد صبح وهشام النواجحة، خلال الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على القطاع. واستنادًا إلى روايات أكثر من 20 شاهدًا وأفراد عائلاتهم، ومقاطع فيديو حصرية، وصور وخرائط، وتسجيلات صوتية، استطاع فريق التحقيق بناء تسلسل زمني يرصد تفاصيل تلك الساعات، التي تُثبت أن معلومات خاطئة من الجيش الإسرائيلي تسبّبت في مقتلهم.
في ليلة 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلد سعيد الطويل للنوم في مكتبه ببرج الغفري، أطول مبنى في غزة، مع زميله علاء أبو محسن. بعد لحظات، سمع علاء صوت شخير سعيد. لديه ثلاث ساعات فقط ليستيقظ ويتولى “نوبة العمل” من زملائه.
انقلبت حياة الصحفيين في قطاع غزة رأسًا على عقب، عندما شنت “إسرائيل” حربها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عقب هجوم “حماس” على منطقة غلاف غزة. لم يعرفوا أنهم يواجهون حربًا قد تستمر لأشهر، ولم يدركوا حجم الخسائر والأضرار التي ستأتي.
لم يستغرق سعيد كثيرًا في النوم. بعد منتصف الليل، تلقى أحد السكان مكالمة من الجيش الإسرائيلي، بضرورة إخلاء برج حجي القريب المكون من 12 طابقًا، ويضم مكاتب وسائل إعلام محلية ودولية، بما في ذلك “وكالة الصحافة الفرنسية” (AFP). خلال تلك الليلة، أظهر مقطع فيديو اندفاع الناس إلى الشوارع، مسرعين لركوب سياراتهم، في محاولة للنجاة بأنفسهم. في أثناء هذه اللحظات، كان الصحفيون يبحثون عن أماكن آمنة لتوثيق الهجوم المرتقب على هذا المبنى الحيوي.
استيقظ أبو محسن ولم يجد سعيدًا بجانبه، حينها كان عدد من زملائه يلبسون الدروع، وأخبروه بقصف وشيك على برج حجي. تفقد أبو محسن هاتفه، فوجد مكالمتين من سعيد، وقال في نفسه “بشوفه تحت”.
“كنافة الوداع”
تتذكر فاطمة العكر – زوجة سعيد -، يوم اندلاع الحرب. كان يوم جمعة، زار سعيد أقاربه وتناول الغداء معهم. تقول العكر: “جاب كنافة ووزع على كل العمارة.. كأنه كان يودع”، لافتة إلى أن توزيع الكنافة عادة ما يكون مرتبطًا بالمناسبات السعيدة والمهمة.
تضيف زوجة سعيد: “كان دائمًا في عجلة من أمره، يعيش كل يوم كأنه قد يكون الأخير”، كان سعيد (37 عامًا)، رئيس تحرير وكالة الخامسة للأنباء، يدرس للحصول على دكتوراه في العلوم السياسية. عرفه سكان غزة من خلال كتاباته عبر “أخبار عالريق”، الصفحة الشهيرة على “فيسبوك”، التي تنشر أخبار غزة بالعامية.
في اليوم التالي، استيقظ الزوجان فاطمة وسعيد مبكرًا كالمعتاد. توجه أطفالهما الثلاث: رضوان وعبد الرحمن ونوران إلى المدرسة، في حين بقيت لجين البالغة خمسة أشهر في المنزل. فجأة، تردد صوت الصواريخ في المنطقة، “قلت لسعيد: يا الله صوت الرعد، حكالي أيّ رعد.. هذا صوت قصف”، تتذكر فاطمة ما دار بينهما. كانت حماس قد بدأت هجومها على غلاف غزة، ما أدى إلى مقتل ألف ومئة شخص وأسر 224 آخرين.
توقع سعيد أن يكون رد “إسرائيل” قاسيًا، وطلب من فاطمة أن تأخذ الأطفال من المدرسة، وجهز حقيبة بها ملابس ومستندات، تحسبًا لأي طارئ.
في يوم الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى الرغم من توسلات فاطمة، غادر سعيد رفح إلى مدينة غزة، حيث مقر شبكة الخامسة. لم تستسلم فاطمة، وبعد إلحاحها عليه للعودة، قال: “بكرة، بكرة، رسمي مروح”.
في اليوم التالي، كان سعيد في برج الغفري (غرب غزة)، حيث تجمع العديد من الصحفيين في مكاتب مجموعة الإعلام الفلسطينية (PMG) في الطابق السادس عشر، لأنه يوفر إطلالة بانورامية على غزة، وفقًا للصحفي محمد سكيك من PMG.
قبل القصف بساعات، الصحفيون يواصلون عملهم من الطابق 16 في برج الغفري
في الشارع نفسه، على بعد 330 مترًا، يقع برج حجي، حيث تشغل “وكالة الصحافة الفرنسية” الطابقين العلويين، ويضم البرج أيضًا مقر فضائية النجاح في الطابق التاسع، ومكاتب عين ميديا في الطابق الخامس، ومكاتب منظمات من المجتمع المدني.
في تلك الليلة، توجه سعيد على عجل نحو برج حجي، بعد أن ساعده سكيك في ارتداء درعه الصحفي، وبقي سكيك في المكتب بعمارة الغفري، موجهًا كاميرته نحو برج حجي في انتظار القصف.
بدأ سعيد التواصل مع زملائه – بما في ذلك الصحفيون في وكالة خبر، حيث يعمل محمد صبح وهشام النواجحة – لإبلاغهم بأمر الإخلاء حتى يتمكنوا من تغطية القصف.
في الليلة ذاتها، كان الصحفي سامر الزعانين في مبنى الغفري، قبل أن يرافق محمدًا وهشامًا متجهين لتغطية القصف. يقول الزعانين إن عمله وعمل هشام لا يتطلب تصوير القصف، لكنّ التحذير بقصف مبنى يضم وكالة دولية، له أهمية خاصة.
التقط الزعانين صورة “سيلفي” معهما في مصعد مبنى الغفري، في طريقهما إلى الشارع مع كاميرا محمد وعدسته الكبيرة. كانت الساعة 2:12 فجرًا، كما يظهر توقيت التقاط الصورة على هاتف الزعانين.
تقول هنادي قرموط، زوجة محمد صبح، إنه منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول كان ينام في مكتب وكالة خبر بمبنى الغفري. كانت قرموط معتادة بقاء زوجها خارج المنزل، خلال الحروب السابقة. في يوم الإثنين 9 أكتوبر/تشرين الأول، عاد صبح، المعروف بـ”أبو رزق”، إلى المنزل للمرة الأخيرة لرؤية زوجته وابنهما البالغ تسع سنوات. في ليلة القصف، قالت له: “بس دير بالك يا محمد ما تطلع فوق على السطح، ما تنزل تحت”، طمأنها أنه سيلتقط الصور من المكتب.
“أمانة أول وآخر مرة تنزل تغطي فيها ميداني”، حاولت سهام نضال، إقناع زوجها هشام بعدم مغادرة رفح إلى غزة، واستدعت سيرة توأمهما البالغيْن ثلاث سنوات، إيلان وراكان، وفي ليلة القصف، طمأنها أنه سيعود في غضون أيام، وظلا على اتصال طوال ثلاثة أيام، وقبل القصف بساعات تحدثا عبر الهاتف: “ديري بالك على حالك، بحبك كتير.. أنا نازل أوثق استهداف برج حجي”، ثمّ أرسل لها صورة “سيلفي”.
“تمكنا من إيقاف القصف بفضل مكالمتكم”
في تلك الليلة، كان 8 صحفيين من وكالة الصحافة الفرنسية موجودين في برج حجي، كان يحيى حسونة، مصور فيديو بالوكالة، مشغولًا بمونتاج اللقطات التي صورها في اليوم السابق، عندما أخبرهم حارس العمارة عن مكالمة وردت لأحد سكان المنطقة من الجيش الإسرائيلي لإخلاء المبنى. يقول حسونة: “كنا جميعًا في حالة صدمة، ما السبب؟”.
اتصل عادل الزعنون (صحفي بالوكالة) بمدير مكتبهم في القدس، مارك جوردييه، لإبلاغه بالأمر. كانت الساعة بين 1:50 و2:00 بعد منتصف الليل، وفقًا لما ذكره جوردييه، الذي قال للموظفين: “لا تضيعوا دقيقة واحدة وأخلوا المبنى، سأتصل بالجيش وأعود إليكم في أسرع وقت ممكن”. اتصل بالجيش الإسرائيلي وأرسل لهم إحداثيات موقع المكتب عبر “واتساب”. كانت الساعة حينها 2:03 فجرًا.
جمع موظفو الوكالة الفرنسية بعض الكاميرات والسترات الواقية والخوذات، وفي غضون دقائق كانوا خارج المبنى. يقول حسونة: “عندما تحدد إسرائيل برجًا لقصفه، تقوم بقصفه فعلًا”، حصل جوردييه على رد من الجيش الإسرائيلي: “نحن نتحقق مما يمكننا القيام به”.
خلال فحصنا تسجيلات مصورة هذه الليلة، وجدنا فيديو بعد إخلاء موظفي “الفرنسية” المبنى، يُظهر محمد صبح وهشام النواجحة في أثناء مرورهما خلف مجموعة من صحفيي الوكالة، على مقربة من عمارة بابل. وقفا لثوانٍ معدودة، في حين كان صحفي آخر ينقل تفاصيل مكالمة الإخلاء، ثم خرجا من إطار الصورة – التي أصبحت معتمة – متجهين نحو عمارة بابل.
وكالة الصحافة الفرنسية (AFP)
اتجه صحفيو “الفرنسية” نحو برج الغفري، باستثناء حسونة الذي اختار البقاء في منطقة أقرب إلى “حجي” لتصوير القصف. وقف بالقرب من سعيد ومحمد وهشام، فهو يعرف مَن هم، لكن ليس بشكل شخصي. يقول حسونة: “اعتقدوا أنهم في مكان آمن”.
الساعة 2:19 فجرًا. نشر سعيد فيديو على صفحته في فيسبوك: “إخلاء برج حجي بعد تحذيرات باستهدافه”. وبنبرة متوترة، قال: “للأسف تم تحذير برج حجي بالقصف قبل قليل، وأُخليت المنطقة بشكل كامل”.
الساعة 2:24 فجرًا. شارك جوردييه، رسالة على مجموعة داخلية تخص موظفي “وكالة الصحافة الفرنسية”، قائلًا إنه تواصل مع متحدث إسرائيلي رفيع المستوى، نصح الموظفين بالتوجه نحو فندق روتس (مطل على بحر غزة على بعد نحو خمس دقائق مشيًا على الأقدام من برج حجي).
قرر حسونة التحرك من المكان الذي كان يقف فيه، مبتعدًا أكثر عن عمارة بابل، وقال: “لو كنت تأخرت دقائق كان مصيري راح يكون مثل مصير الآخرين”.
وقف منصور خلف في الشارع قبالة عمارة بابل، على بعد نحو 130 مترًا من برج حجي. شاهد خلف – الذي يمتلك “بابل” -، الصحفيين الثلاثة وهم يأخذون مواقعهم ويوجهون كاميراتهم نحو برج حجي.
كان الثلاثة يرتدون الخوذات والستر الصحفية الزرقاء ذات العواكس الليلية، ومكتوب عليها بخط كبير “PRESS”. الجميع كان في انتظار لحظة القصف.
الساعة 2:25 فجرًا. كانت المفاجأة، القصف يستهدف عمارة بابل.
حصلت “أريج” على أربعة مقاطع مصورة تُظهر لحظة القصف، بما في ذلك كاميرا البث المباشر لـ”وكالة الصحافة الفرنسية” في حجي، ومقطعين من الطابق السادس عشر من مبنى الغفري، ومقطع مصور من الشارع نفسه. أرسل موظف في “الفرنسية”، كان يراقب البث المباشر، رسالة نصية: “ضربة قريبة جدًا من المكتب وقعت الآن”.
“أجساد الصحفيين طارت في الهواء من شدة القصف”، يقول خلف.
“سعيد استشهد”، تسمع أحدهم يصرخ في أحد مقاطع الفيديو. تمّ العثور على سعيد الطويل مقتولًا. درعه الصحفي غارق بالدماء، كما أظهرت الصور الأولى من الموقع. على بعد أمتار قليلة، وُجد محمد صبح مقتولًا أيضًا، بإصابات شديدة في الرأس، فيما نقل هشام النواجحة إلى المستشفى بحالة حرجة، وأُعلنت وفاته بعد ساعات قليلة. قُتل 6 آخرين في القصف الإسرائيلي.
هنا، أدرك الموجودون ما حدث، القصف طال “بابل”، حيث كان يقف الصحفيون. “مش حجي يا عمي”، يصرخ شخص في الفيديو متأثرًا بما جرى للتو.
فيديو: “مش حجي يا عمي”.. اللحظات الأولى بعد قصف الطيران الإسرائيلي عمارة “بابل” في غزة.
المصدر: محمد سكيك – المجموعة الفلسطينية للإعلام، (PMG) كاميرا البث المباشر (AFP)، تصوير ميداني (AFP)
يقول رشدي أديب، الذي كان يسكن في عمارة بابل: “لما إجت سيارات الإسعاف، تطلعت، لقيت عمارة بابل تسوت في الأرض… تطلعت على برج حجي لقيته مكانه”.
الساعة 2:32 فجرًا، أنهى جوردييه مكالمته مع متحدثة عسكرية إسرائيلية أخرى، وشارك ما أخبرته به على مجموعة “وكالة الصحافة الفرنسية” في غزة: “تمكنا من إيقاف الضربة بفضل مكالمتكم”.
مكالمة الإخلاء: “أيّ برج تريد قصفه حتى نتمكن من إخلائه؟”
لا يزال العدد الدقيق لمكالمات الإخلاء في تلك الليلة غير مؤكد، لكنّ مكالمة واحدة أُجريت على الأقل، بحسب مصادر متعددة. حتى الجيش الإسرائيلي نفسه أكد في رده على رسالة من أريج وشركائها، أنه وجه إنذارًا قبل القصف، لكنّه لم يحدد المبنى الذي أنذره.
ووفقًا لشهود، تلقى أحد سكان المنطقة – بعد الساعة الواحدة صباحًا – مكالمة من شخص عرّف نفسه على أنه ضابط إسرائيلي، وأبلغه بأنه سيتمّ قصف برج حجي، مطالبًا بضرورة إخلائه.
سمع أديب الساكن في المنطقة صراخًا، وهرع إلى الأسفل ليجد شخصًا يتحدث بالهاتف مع ضابط إسرائيلي عبر السماعة الخارجية. تطابق وصف الضابط للموقع مع وصف برج حجي. وذكر أيضًا أن المبنى يضم مكاتب إعلامية، وفقًا لأديب.
قدم شهود العيان إفادات متطابقة حول مكالمة الإخلاء التي حددت برج حجي هدفًا للقصف. إضافة إلى أديب، تحدثنا مع شاهدين آخرين كانا موجودين في المكان وقت المكالمة، واثنين تحدثا مباشرة مع الضابط. لدينا مقطع فيديو لإحدى هذه المحادثات.
الساعة 2:06 فجرًا. التف مجموعة من السكان حول رجل مسن يحمل هاتفًا، ويبدو مرتبكًا. أعطى الهاتف لأحدهم: منهل شحيبر، أحد سكان الحي، الذي كان يستمع باهتمام، قائلًا إنه لا يعرف أحدًا في عمارة حجي. وبينما ينتظر الحاضرون أيّ معلومة، يرد شحيبر على المهلة التي حددها المتصل: “بعد خمس دقايق؟ عشر دقايق طيب، عشر دقايق”. أخبرنا شحيبر لاحقًا أن المتصل كان يتحدث العربية، وقال: “أخلوا مبنى حجي”.
مكالمة الإخلاء (المصدر: الصحفي محمود الهمص)
تحدث شخص آخر مع ضابط إسرائيلي في الليلة نفسها. لا نعرف بالضبط إن كانت مكالمة شحيبر ذاتها أم مكالمة جديدة. هذا الشخص هو الصحفي محمد أبو صفية، الذي كان نائمًا في الطابق السابع ببرج حجي. نزل إلى الشارع بعدما سمع ضجيجًا غير معتاد في مثل هذا الوقت من الليل.
كانت هناك مكالمة إخلاء لبرج حجي مع شخص يرفض طلب متصل إسرائيلي بالدخول إلى المبنى، والتأكد من مغادرة الجميع. أخذ الهاتف، ودارت المحادثة الآتية، يتذكر أبو صفية:
أبو صفية: “أيّ برج تريد إنذاره، لأن هناك الكثير من الأبراج حولي؟”.
يتذكر أبو صفية أن الضابط رد بسؤال: “في أيّ منطقة أنت؟”.
أبو صفية: “أنا في شارع المؤسسات، أيّ برج تريد قصفه لنتمكن من إخلائه؟”.
يجيب الضابط: “برج حجي”، بحسب أبو صفية. “سيتم قصف برج حجي، أخلِ البرج، وبدي حدا يشوف مين في البرج”.
أبو صفية: “قديش معي وقت؟”.
يجيب الضابط كما يتذكر أبو صفية: “معك خمس دقائق”.
أبو صفية: “لا، أنت هيك بتقرر تقتلني جوا (داخل) البرج”.
وأكمل بعد رفض الطلب: “أنت ستتحمل مسؤولية المدنيين والصحفيين الذين سيقتلون والمؤسسات الموجودة في البرج… ليش تقصفوه؟ كله مؤسسات دولية”.
ويتابع أبو صفية: “خمس دقائق لبرج 13 طابقًا، مش منطقي”.
يسأل الضابط: “كم من الوقت تريد؟”، حسب أبو صفية.
رد عليه: “بدي على الأقل 15 إلى 20 دقيقة للدخول إلى المبنى وتفقده طابقًا طابقًا وإخلائه بنفسي… خليك معي على الخط إذا بدك توافق على هذا الكلام”.
أخبر المتصل أبو صفية: “الطيارة طلعت، معك 20 دقيقة”، وفق روايته.
رجع أبو صفية إلى البرج وتأكد من إخلاء كل الطوابق، وكان المتصل على الخط طوال الوقت.
وعندما عاد إلى الشارع، سأل أبو صفية الضابط عن المكان الذي يجب التوجه إليه، فقال له: نحو البحر.
بعد الضربة، عاد أبو صفية إلى المنطقة، ووجد أن القصف لم يستهدف برج حجي.
الرد الإسرائيلي
أرسلت “أريج” وشركاؤها أسئلة مرفقة بإحداثيات الخريطة لمبنى بابل، عن المعلومات الخاطئة في إنذار الإخلاء. رد الجيش أنه في 10 أكتوبر/تشرين الأول، تمّ استهداف “منشأة” يستخدمها عضو بارز في حماس “في المنطقة المعنية”، مضيفًا أنه تم إصدار “تحذير لسكان المبنى والمنطقة لإخلائها”.
وجاء في الرد: “أيّ ادعاء بأن جيش الدفاع الإسرائيلي قاد الناس للإخلاء إلى منطقة القصف، لا أساس له من الصحة وسخيف”. مضيفًا أنه يحقق في الحادثة.
ولم يتطرق الرد الإسرائيلي إلى المعلومات الخاطئة في مكالمة الإخلاء، لكنّ ستة مصادر على الأقل – بما في ذلك أربعة سمعوا المكالمة، وآخران تحدثا مباشرة مع الضابط الإسرائيلي – أكدت تلقي تعليمات بإخلاء برج حجي. وشدد الصحفي أبو صفية على أن الضابط الإسرائيلي، طلب منه “مئة بالمئة” إخلاء حجي.
يشجع القانون الدولي الإنساني القوات المسلحة على تقديم تحذيرات مسبقة قبل الهجوم، عندما تسمح الظروف بذلك، لكن يجب أن تكون التحذيرات “فعالة”. في حادثة عمارة بابل، فإنّ المعلومات الواردة بالمكالمة كانت خاطئة.
سألنا الجيش الإسرائيلي عن عملية إجراء مكالمات الإنذار: كيف يُتخذ القرار، بمن يتصلون، كم من الوقت يتمّ منحهم، وما إذا كانوا قد توقفوا عن إصدار هذه التحذيرات بعد الأيام الأولى من الحرب. لم نتلقَ إجابات عن هذه الأسئلة، لكنّ الجيش قال إنه أجرى أكثر من مئة ألف مكالمة إنذار شخصية.
تسلسل زمني.. اضغط على الصورة لمتابعة تفاصيل ليلة القصف
يدرك حسونة، مصور الفيديو في “وكالة الصحافة الفرنسية”، الخطر الذي يُهدد حياة الصحفيين في أثناء الحروب، لكنهم يأخذون الاحتياطات، ويختارون أماكن التغطية بعناية. حادثة القصف يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول، غيرت كل القناعات لدى الصحفيين. “أصبحنا نخشى الموت في كل دقيقة”، يقول حسونة.
مقتل الصحفيين الثلاث على يد الجيش الإسرائيلي كان في اليوم الثالث من الحرب. وقتها، لم يتوقع أحد استمرارها تسعة أشهر (حتى تاريخ نشر هذا التحقيق). ولم يتخيل صحفيو غزة أن يفقدوا أكثر من 100 صحفي وصحفية، في حصيلة تعد الأكثر دموية عبر التاريخ.
يُنشر هذا التحقيق كجزء من “مشروع غزة”، الذي نظمته “فوربيدن ستوريز” وشاركت فيه شبكة أريج للصحافة الاستقصائية مع 50 صحفيًا وصحفية يمثلون 13 مؤسسة.
شارك في إعداده: فرح جلاد وهدى عثمان وفراس الطويل من أريج، شكرًا خاص لـ نيك واترز وإيثار العظم لمساعدتهم.