هل أنا مصرية؟ هل أنتمي إلى مصر؟ السؤال الأهم ما مصر؟ ما الدولة وأين الأرض؟
حين تترك الأرض التي نشأت وترعرت فيها، تقابل أشخاصًا من مختلف الجنسيات، ولسبب مجهول يبدأ حديثهم دائمًا بذلك السؤال المخيف: “?Where are you from”، يبدو للوهلة الأولى سؤالًا طبيعيًا في سياق الحديث والتعارف إلى أشخاص جدد، وللوهلة الأولى أيضًا، اعتدت أن أجيب بتلقائية: “أنا مصرية”، وكالعادة، تختلف ردود الفعل من الأشخاص، بين الانبهار والعنصرية والسعادة والفضول، إلى أن باغتتني إحداهن يومًا، وسألتني: “Where do you belong”؟ كدت أن أقول لها الإجابة نفسها بتلقائية، لكنني ابتسمت فقط من دون أن أجيب.
كيف نفخر كمصريين بمحمد صلاح لاعب الكرة المصري ونشعر بالانتماء إليه من كل قلوبنا، وهو الذي نجح في أرض أخرى؟
إلى أين أنتمي؟ لماذا لم أفكر في هذا السؤال مطلقًا؟ من أين ينشأ الانتماء؟كيف أنتمي إلى دولة تطردني ولا أحمل جواز سفرها؟ كيف خاطرت بحياتي منذ عامين، دفاعًا عن تيران وصنافير ومصريتهما، وأنا التي لم أزرهما يومًا، وحتى اليوم استقتل دفاعًا عنهما.
كيف نفخر كمصريين بمحمد صلاح لاعب الكرة المصري ونشعر بالانتماء إليه من كل قلوبنا، وهو الذي نجح في أرض أخرى؟ وربما لو بقي في مصر لم يكن ليحقق نصف نجاحه الآن، كيف نفخر بلاعب صنع في الخارج لمجرد أننا نتشارك نفس جواز السفر واللغة وربما بعض الملامح؟ هل هذا ما يجعلنا ننتمي إلى بعضنا البعض؟
إذا كانت اللغة، فهل نقصي البدو وأهل النوبة غير الناطقين باللهجة المصرية؟ وإذا كانت الملامح، فماذا عن الشقراوات المصريات أو جميلات أسوان؟ وإن كان جواز السفر، فهل هذا يقصيني ويقصي آلاف المهجرين قسريا؟!
حين يسألني أحدهم الآن من أين أتيت؟ لم أعد أعرف ماذا يعني سؤاله؟ أو ما الجواب الذي ينتظره؟ هل هو البلد الذي ولدت فيه أم الجنسية التي كتبت في أوراقي الحكومية أم المكان الذي نشأت وعشت فيه طوال حياتي؟ هل هي الأرض التي تشكلت فيها خبرتي في الحياة أم الأرض، حيث لدي علاقات وارتبط بأشخاص يعيشون فيها؟ أم أنها الأرض التي أتشارك مع أهلها اللغة أو لون البشرة أم حيث حصلت على تقاليدي وطقوسي وعاداتي اليومية؟
جميع ما سبق يجيب عن السؤال: “من أين أنا”؟ وكل ذلك لا ينتمي إلى بلد أو حدود جغرافية، إنه يخصني أنا وينتمي لكل شخص قابلته في هذا العالم وكل شارع أو منطقة كنت أعيش فيها في أي وقت من حياتي.
حين سألني صديقي الفلسطيني: “أنت مصرية؟” وأجبته: “آه أنا من مصر”، استدركت في عقلي، وأردت أن أخبره: “أنا مش من مصر اللي بتقفل المعبر وتضيق الحصار وتحمي حقوق “إسرائيل”، أنا من مصر اللي بتنظم القوافل وتكسر الحصار وتقف على المعابر وتحرق العلم الصهيوني”
التجارب بالنسبة إلي على الأقل وإلى مجموعة كبيرة من المهاجرين القسريين، هي الرابط الأقوى للانتماء، يمكنهم أن يأخذوا منا جوزات السفر ويستبدلوا خانة الجنسية في أوراقهم أو حتى يتركونها خالية، يستطيعون أن يهدموا بيوتنا ويغيروا ملامح أماكننا المفضلة، لكن لا أحد يستطيع أن يسلبنا تجاربنا، لا أحد يستطيع أن يسلبنا علاقتنا وأصولنا المرتبطة بالأشخاص والعادات والتقاليد والطقوس أكثر من ارتباطها بالأرض.
قد يبدو من كلامي أنني غير مرتبطة بالأرض أو الحدود الجغرافية التي وضعوها لنا، لكن الأمر ليس كذلك. على سبيل المثال، أنا أنتمي ومن كل قلبي إلى صخب بيروت وليلها وإلى منزل ليليان صديقتي في قلب الجبل.
أنتمي إلى نهار الإسكندرية ورائحة البحر انتماءً نشأ من ذكرياتي التي عشتها هناك، ليس من مجرد الأماكن، لذلك، حين يسألني أحدهم هل تنوين العودة إلى بلدك؟ كنت دائمًا أجيب: “بالتأكيد أريد العودة إلى مصر في أقرب وقت”.
ولكن الآن صرت أتساءل: “إلى أين أعود؟ إلى ماذا حقًا أريد أن أعود؟ ما تمثله مصر في ذاكرتي الآن هو الأهل والأصدقاء والذكريات، ومع تشتت كل تلك الأمور بين الدول، لم تعد مصر كما هي الآن، فالدولة التي نشأت أنا فيها لم تعد موجودة الآن، لا يمكن أن نترك أرضًا ونعود لنجدها تمامًا كما تركناها، كما هي، شيء ما، في مكان ما بالتأكيد سيتغير، أنا أيضًا بالتأكيد أتغير.
عندما سألني صديقي السوري ذو الخمسين عامًا: أنت مصرية؟ أجبت بتلقائية: “نعم أنا مصرية”، ثم استدركت في عقلي، عندما رأيت تلك النظرة في عينيه: “أنا مش من مصر بتاعة عبد الناصر والجيش المصري اللي خرب سوريا، أنا من مصر بتاعة التحرير”.
وحين سألني صديقي الفلسطيني: “أنت مصرية؟” وأجبته: “آه أنا من مصر”، استدركت في عقلي، وأردت أن أخبره: “أنا مش من مصر اللي بتقفل المعبر وتضيق الحصار وتحمي حقوق “إسرائيل”، أنا من مصر اللي بتنظم القوافل وتكسر الحصار وتقف على المعابر وتحرق العلم الصهيوني”، وكأن إجابتي تلك كانت ستغير النظرة في عينيه.
وحين سألني صديقي السويدي: أنت من مصر عند الأهرامات؟ ابتسمت للكليشيه، وقلت: “نعم”، لكن عقلي استطرد: أي أهرامات تتحدث عنها ولم تريها في حياتك سوى مرة بالصدفة حين كنت طفلةً، أي آثار تتحدثين عنها وأنت لم تذهبي يومًا إلى الأقصر أو أسوان أو أي معابد؟
“أنا من مصر العشة مش من مصر القصر”
عندما أخبرت تلك السيدة الصومالية أنني من مصر، ابتسمت وقالت: “عشنا في القاهرة 3 سنوات”، ثم سرحت وأكملت مازحة: “الحمدلله أننا خرجنا منها”، لم أستطع لومها، فأنا أعرف العنصرية التي يواجهها أصحاب البشرة الداكنة من المصريين أنفسهم في القاهرة، لكنني أردت أن أخبرها أنني لا أنتمي إلى هؤلاء، مرةً أخرى، وكأن ذلك كان سيغير من الحقيقة شيئًا”.
عندما يسألني أحدهم: أنت من مصر؟ لم أعد أعرف كيف أجيب! أنا من مصر، لكنها ليست مصر التي يعرفونها، أنا لست من مصر السيسي أو عبد الناصر أو السجون والمعتقلات، لست من مصر التي ينتمي إليها أحمد موسى ومصطفى بكري، لست من مصر ذلك البرلمان أو تلك الصحف.
أنا من مصر أخرى، مصر التي تمثلها عزة سليمان وشوكان، مصر التحرير و6 أبريل، مصر التي تحرق أعلام الصهيونية وتغلق السفارات، مصر التي ينتمي إليها يسري فودة وريم ماجد، أنا من مصر التي في قلب ريم البنا وليليان داود.. “أنا من مصر العشة مش من مصر القصر”.