قد نمرّ في معظم أوقاتنا بحالاتٍ من القلق التي تتعلق ببعض الأشياء المحددة؛ امتحان أو رحلة أو علاقة أو مقابلة عمل أو مشكلة مع صديق، وغيرها الكثير الكثير. وقد يكون القلق فعلًا موجودًا في خلفية حياتك دومًا، حاضرًا بقوة في بعض الأحيان وشبه مختفٍ في أحيان أخرى، لكنّ هذا لا يعني أنّ قلقنا كبشر هو ميزة جوهرية دائمة في التكوين الأساسيّ لنا، إنه القلق الذي تصفه الفلسفة الوجودية بكونه محتّم ولا سبيل للتخلص منه.
تتعدد الأسباب التي تجعل من حالة القلق شعورًا راسخًا يذهب ويجيء؛ قد يكون أحدها أننا نفتقر إلى المعلومات الكافية التي يمكن الاعتماد عليها لاتخاذ معظم قرارات حياتنا الرئيسية، وبالتالي نبقى دومًا ممزوجين بمخاوف تحفّ الواقع من مجهول قد يباغتنا أو مستقبل يصفعنا أو مصيرٍ يحطّم آمالنا وتوقعاتنا، لا سيّما وأننا كائنات نبني حياتنا على التوقعات والاحتمالات وننتظر حدوثها.
يخبرنا التحليل النفسي أنّ القلق بنشأ من الصراع الناشئ داخل النفس، وبكلماتٍ أكثر تحديدًا، من الصراع الناتج بين النفس والعواطف والمشاعر المختلفة
فنحن في مزاجاتنا الهشة، نشعر بالفزع من أن نفشل أو نطرد أو من نفعل شيئًا خاطئًا في العمل أو نفقد علاقتنا بأحدهم أو يُنظر إلينا بصورة سيئة من قبل أحدهم أو من قبل المجتمع. جميع تلك المخاوف تظهر كأزمة خاصة لا علاقة لها بالأخرى؛ لكنها توصلنا لاستنتاجٍ واحد مفاده أننا دائمًا ما نشعر بأنّ شيئًا سيئًا للغاية على وشك أنْ يحدث أو أن يظهرفي طريقنا.
تختلف الفلسفة الوجودية وعلم النفس في نظرتهما للقلق في بعض النقاط الواضحة. فعلى سبيل المثال يخبرنا التحليل النفسي أنّ القلق بنشأ من الصراع الناشئ داخل النفس، وبكلماتٍ أكثر تحديدًا، من الصراع الناتج بين النفس والعواطف والمشاعر المختلفة. لذا يصبح تفسير بعض المشاعر كالآتي: أن أكون غاضبًا منك لأنني أشعر بالقلق من احتمال تعريض علاقتنا الهشة للخطر، أو أنا خائف من الرسوب بالامتحان لأنني قلق من نظرة والديّ لي، أو حكم المجتمع عليّ، وهكذا.
كما يرى منظّرون آخرون في التحليل النفسي أنّ القلق هو نتاجٌ للصراع بين أجزاء الذات، بين الأنا والأنا العليا، أو بين الأنا والهوية، كأنْ ترغب بشيءٍ ما وتمنعك أناك العليا عن فعله أو الإتيان به، فينشأ القلق. وآخرون ينظرون إليه كتجربة للصراع بين مختلف العواطف غير المتوافقة؛ الحب والكره، الغضب والمسامحة، الرغبة في التجاوز وعدم القدرة على ذلك، فتدخل النفس في حالة من القلق ناتجة عن عدم قدرتها على فهم ما تريد أو إلى أين ستمضي.
أما في علم النفس بشكلٍ عام فيعرّف القلق على أنه مجموعة من الاضطرابات العقلية التي تتصف بمشاعر من الخوف والتفكير الزائد؛ إذ يتمحور حول التفكير بأحداث المستقبل وبالتالي فالخوف هو رد فعل لذلك. وقد تؤدي هذه المشاعر لبعض الأعراض الجسدية؛ كتسارع نبضات القلب والارتجاف والتعرّق.
ترى الفلسفة الوجودية أنّ القلق هو تجربة اعترافنا بعدم التجرّد والتخلّي ومشاكل الوجود البشريّ من حياة وموت ومسؤولية وحرية وتعقيد في المشاعر والعواطف والأحاسيس من خوف ويأس وما إلى ذلك
إضافةً لذلك، يصنف علم النفس القلق لعدة أشكال متنوعة تتضمن: اضطراب القلق العام، الاضطراب الرهابي، اضطراب الهلع، ولكلٍ منها مميزاته وخصائصه وأعراضه. ومنه ما يرتبط بالمجتمع والتفاعل مع الآخرين فيما يُعرف بالقلق الاجتماعيّ، أو الخوف من التعامل مع الآخرين والاتصال بهم خشية احتمالية الأحكام السلبية والسلوكيات المعادية.
أما الفلسفة الوجودية فتخبرنا أنّ القلق هو تجربة اعترافنا بعدم التجرّد والتخلّي ومشاكل الوجود البشريّ من حياة وموت ومسؤولية وحرية وتعقيد في المشاعر والعواطف والأحاسيس من خوف ويأس وما إلى ذلك. فيرى هيدجر أنّ الإنسان يقلق وذلك راجع لإدراكه بأنه محكوم في النهاية بالموت، وبالتالي يبدأ الإنسان رحلة البحث عن وجوده وجدوى استمراره في الحياة، والقلق في هذا السياق ليس شعورًا، وإِنما قيمة فلسفية ومبدأ لإزالة القناع عن وجه الإنسان وتعريته وتأكيد ذاته.
كذلك يظهر القلق الذي تسببه الحاجة للاختيار بين خيارين أو أكثر كمشكلة تواجه الأفراد والمجموعات، نظرًا لارتباط نتائجها بالغموض والشك والاحتمالات المتعددة لا يمكن معرفة نسب حدوثها. يُوصف القلق هنا بكونه شعورًا يظهر بشكل طبيعي ويمكن ضبطه واكتشافه بحذر بهدف اكتساب البصيرة والفهم لطبيعة المشاعر والأحاسيس والخيارات في الحياة، إضافةً لفهم طبيعة النفس ومعنى الحياة كهدف أعمقٍ وأسمى.
نحن عالقون في بؤس الحياة وقلقنا الوجوديّ، إلا أنه لا يمكن الشكّ بقدرتنا على التغلب على بؤس الصراع الداخلي
وعلى الرغم من نقاط التشابه وأوجه الاختلاف العديدة بين التفسيرات النفسية من جهة والفلسفية من جهة أخرى للقلق، إلا أنّ إحدى النقاط الأساسية هي أن القلق النفسي هو شيء يجب التغلب عليه، خاصة وأنه يمكن بسهولة أنْ يتحوّل إلى حالة مرَضية تخرب حياة الفرد وعلاقته بكلّ ما حوله.
وبما أننا عالقون في بؤس الحياة وقلقنا الوجوديّ، إلا أنه لا يمكن الشكّ بقدرتنا على التغلب على بؤس الصراع الداخلي على الأقل من خلال نظرتنا للذات وفهمنا للأنا. أما القلق الوجوديّ فهو أمرٌ لا مفر منه: إنه الميزة الحتمية للاعتراف الحقيقى بقدراتنا وإمكانياتنا في الحياة.
إذن فالخطوة الأكثر أهمية، سواء من وجهة نظر الفلسفة أو علم النفس والتحليل النفسيّ هي القبول؛ قبول أنّ الحياة مليئة بالاحتمالات التي قد تكون كما نرغب أم عكس ذلك، وأننا سنبقى دومًا محكومون بالقلق نظرًا لأننا نخشى المجهول ولا نملك المعلومات الكافية لتجعلنا نأخذ أيّ قرار، مهما كان بسيطًا، بكلّ ثقة وتأكد، بل إننا سنبقى عالقين في دائرة التردد والحيرة والقلق الوجوديّ.