بعد الحرب العالمية الثانية شعر المجتمع الأمريكي بالاطمئنان والاستقرار الكافي الذي جعله يرغب في إنجاب كثير من الأطفال، وذلك لأنهم شعروا بالثقة في بلادهم بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية، حيث كان المستقبل بالنسبة إليهم يمثل مزيدًا من الرخاء والنعيم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية على “قمة العالم” كما وصفها رئيس الوزراء البريطاني “تشرشل” في ذلك الوقت.
لم يكن وصف الولايات المتحدة بأنها على قمة العالم في بداية الخمسينيات من القرن الماضي في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية من فراغ، حيث كانت تتمتع الدولة بأقوى جيش في العالم، بالإضافة إلى كونها صاحبة الاقتصاد الوحيد الذي لم يتأثر بالحرب العالمية، فكانت الدولة الوحيدة القادرة على التصنيع والإنتاج والتصدير قبل أن تستطيع أن تلحق الدول الأخرى بركبها ببضعة سنين أو عقود.
تمتعت الطبقة المتوسطة بقدرة شرائية لم تتمتع بها من قبل في ذلك الوقت، كان معهم الكثير من الأموال أكثر من أي وقت مضى ينفقونها على تنوع ضخم من المنتجات والخدمات لم يحظوا بها من قبل، أي كان لديهم مزيد من الأشياء ليشترونها، كل ذلك أدى إلى مزيد من الرخاء وبالتالي مزيدًا من الإنجاب، الذي أدى إلى ما يُعرف بـ”طفرة المواليد” أو “Baby Boomers” حيث كان هناك 4 ملايين مولود جديد في كل عام.
على الرغم من ذلك لم تكن تلك الفترة خالية من الصراعات، إذ كان هناك العديد من التهديدات بالنسبة للولايات المتحدة في ذلك الوقت، أولها الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ورؤية الاشتراكية تهديدًا للرأسمالية و”المبادئ الأمريكية” في كل مكان، بالإضافة إلى ذلك كانت هناك الحركات الحقوقية التي كان لها ظهورًا واضحًا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، خصوصًا الحركات الخاصة بحقوق الأمريكان الأفارقة بعدما وصلت العنصرية ضدهم إلى أوجها.
بدأت تتضح علامات الثقافة الفردانية في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وبدأ تأثير الرأسمالية يظهر على سلوكيات الأفراد باعتقادهم أن النظام الليبرالي الرأسمالي نظام حر بدأ بتحريره سلطة تدخل الدولة في السوق ليضمن بالتبعية حرية الأفراد، إلا أنه كان هناك كثير من المعترضين على الحرية التي توفرها الرأسمالية للأفراد، ووجدوا فيها نظامًا يحقق مطامع الطبقة البرجوازية على حساب طبقات المجتمع العاملة، كما وجدوا فيها حرية زائفة هدفها دفع الناس للسعي وراء غرائزهم فقط.
وصف “قطب” الرأسمالية بالفردانية الأنانية، وأنها تمنح البشر حرية زائفة ووهم بالنعيم والرخاء يصب في مصلحة الطبقة البرجوازية
كان من بين هؤلاء رجل ليس أمريكيًا، مجرد كاتب مصري يبيع روايات لا تروق للكثيرين، كان قد ذهب للولايات المتحدة لغرض الدراسة إلا أنه من أكثر الناقدين للرأسمالية، وصف في كتاباته تأثيرها المدمر على البشر، حيث وصف مشاهداته للمجتمع الأمريكي خلال إقامته هناك قائلًا إنه مجتمع يميل إلى التنظيم الآلي والترتيب المسبق لكل شيء بشكل خالٍ من الروحانية أو أي وسيلة للتمتع بالجمال.
كان هذا الرجل هو”سيد قطب” كاتب ومنظر إسلامي وعضو سابق في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين ومن أكبر ملهمي الحركات الإسلامية الحديثة، وجد قطب في الرأسمالية فسادًا انتهازيًا وسوقية وانحلال أخلاقي مع ظهور حركة التحرر الجنسي والهيبيين (من لهم مظهر غير اعتيادي وشعر طويل وملابس غير تقليدية)، وجد أنها تدفع الناس لكي ينساقوا خلف غرائزهم فينتهي بهم الأمر بالوحدة والانعزال تحت هيمنة الفردانية.
وصف قطب الرأسمالية بالفردانية الأنانية، وأنها تمنح البشر حرية زائفة ووهم بالنعيم والرخاء يصب في مصلحة الطبقة البرجوازية بعد أن سيطرت على الناس أهداف مادية أنانية، وجد قطب لكل ذلك وصفًا في مصطلح “طعم أمريكا” أو “The Taste of America” حيث يشير المصطلح إلى مجتمع ظن أنه حر ولكنه حبيس غرائزه بالنسبة إلى سيد قطب، ليس لديه شيء مُقدس ويستهزئ بكل شيء وأي شيء.
كان للمجتمع الليبرالي في الخمسينيات والستينيات إصلاحاته الخاصة به، إلا أنه لم يكن مستعدًا لمواجهة كثير من الانهيارات التي حدثت في المجتمع تبعًا لعواقب الحركة الليبرالية، كان لقطب تفسيرًا لتلك الانهيارات وهو محاولة وهم الأفراد بالحرية الفردانية، وبحكم كونه مفكرًا إسلاميًا كان لقطب دوافعه وأسلوبه الخاص في منع انتشار مبادئ المجتمع الأمريكي نحو المجتمع الإسلامي، كان هناك رجلًا آخر يشارك قطب في التفكير، إلا أن الفرق الوحيد بينه وبين قطب أن الأخير أُعدم بتهمة الخيانة عام 1966 أما الثاني فقد أثر تفكيره على السلطة الأمريكية الحاليّة.
“ليو شتراوس” الأب الروحي للمحافظين الجدد
الفيلسوف السياسي “ليو شتراوس”
تعرض بداية الفيلم الوثائقي “سلطة الكوابيس” أو “The Power of Nightmares” مقارنة سريعة بين سيد قطب مفكر إسلامي آلت أفكاره المعادية للمادية الغربية والانفرادية الانتهازية المتمثلة في الرأسمالية إلى طريق مختلف تمامًا عما آلت إليه أفكار مفكر أمريكي ألماني الأصل عاش في عزلة لتدريس الفلسفة السياسية بعيدًا عن أضواء الشهرة والمقابلات واللقاءات الإعلامية، ألا وهو الفيلسوف السياسي “ليو شتراوس“.
أراد شتراوس تغيير أمريكا من هيمنة الليبرالية الأمريكية التي بدأت تنهار في نهاية الستينيات من القرن الماضي، حيث آمن أن السبب الأساسي لانهيار قيم المجتمع الليبرالي والسبب الأساسي لتلك الفوضى هي مبادئ الحرية الفردانية
هو المؤرخ المحافظ للفلسفة السياسية ليو شتراوس، ألماني الأصل قضى حياته في تدريس أجيال عديدة الفلسفة السياسية وكتب 15 كتابًا، عاش في عزلة عن اللقاءات والمقابلات الصحفية واللقاءات الإذاعية، وفضل نقل علمه لطلابه في الجامعة الأمريكية “شيكاغو”، إلا أن أفكاره وصلت لنتائج مهمة للغاية، حيث كانت الملهم الأساسي أو الأب الروحي لحركة “المحافظين الجدد” التي سيطرت على الإدارة الأمريكية منذ عدة عقود وحتى يومنا هذا.
اعتمدت فلسفة ليو شتراوس بشكل أساسي على نقد الليبرالية، حيث كان يُعلم طلابه أن المجتمع الليبرالي الذي يعيش فيه المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت يحتوي على ما سيدمره في المستقبل القريب، بالنسبة لـ”شتراوس” فإن مبادئ المجتمع الأمريكي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي آلت به إلى حالة من الحيوانية يسعى البشر فيها خلف غرائزهم، فلم يكن لديهم حقائق أو مقدسات ودفعتهم الليبرالية إلى عدم الانتماء إلى أي قيم دينية أو أخلاقية أو أي هوية.
مقطع عن “ليو شتراوس” في الفيلم الوثائقي “سلطة الكوابيس”
أراد شتراوس تغيير أمريكا من هيمنة الليبرالية الأمريكية التي بدأت تنهار في نهاية الستينيات من القرن الماضي، حيث آمن أن السبب الأساسي لتلك الفوضى وانهيار قيم المجتمع الليبرالي هي مبادئ الحرية الفردانية التي تمنع المجتمع أن يتحد سويًا تحت هدف عام أو فكرة موحدة، وهي الأفكار نفسها التي وجهت مجموعة من طلاب شتراوس إلى تأسيس مجموعة عُرفت بـ”المحافظين الجدد”.
حاول المحافظون الجدد توحيد المجتمع تحت هدف يتشارك فيه الجميع وهو “الحلم الأمريكي” الذي يجعل من أمريكا دولة فريدة من نوعها لها قدر يختلف عن أقدار الدول الأخرى ألا وهو محاربة “الشر” في العالم، وبهذا لن يكونوا قد وحدوا الشعب الأمريكي تحت راية واحدة فحسب، بل سيكونوا نشروا “الديمقراطية السليمة” حول العالم.
حاول من يسمون أنفسهم بالـ”شتراوسيين” أي كل من يتبع مبادئ ليو شترواس، أن تكون أفكارهم مؤثرة في المجتمع الأمريكي ويعيدوا الثقة للأمريكان في أنفسهم ليكونوا أمة واحدة، كما حاولوا إقناع العامة أن أمريكا مصدر “الخير” في العالم، ويجب على كل أمريكي نشر هذا “الخير” قبل أن ينتشر “الشر” ويهدم المجتمع الأمريكي، وبالطبع كان يجب أن يكون هناك “شر عالمي” يستطيعون من خلاله إقناع العامة بأفكارهم، كان هذا الشر هو “الإرهاب العالمي”.
التحق بعض من هؤلاء “الشتراوسيين” أو “المحافظين الجدد” بمناصب في الحكومة الأمريكية، مثل ريتشارد بيرل في منصب مساعد وزير الدفاع وعُرف بسياسته المتشددة أو المتطرفة وبول وولفوفيتز الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع، حينها زادت هيمنتهم على السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الذي رفض نقد اليسار اللاذع للثقافة الأمريكية.
حاول المحافظون الجدد توحيد المجتمع تحت هدف يتشارك فيه الجميع، كان هذا الهدف هو “الحلم الأمريكي”
سيطر فكر المحافظين الجدد على الإدارة الأمريكية بشكل واضح منذ إدارة بوش وحتى إدارة ترامب التي ظهرت في إصرارهم على الحرب بشكل مستمر، وولائهم للكيان الصهيوني باعتبار أن كل ما يصب في مصلحة “إسرائيل” يصب في مصلحة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى سياسات التصعيد مثل موقف السياسة الأمريكية من تنظيم داعش.
لقد كان لسيد قطب طريقته الخاصة في محاربة المادية الغربية والفساد الموجود في المجتمع الأمريكي، وتطورت أفكاره إلى طريق مختلف تمامًا عن الطريق التي تطورت إليه أفكار شتراوس، فالأول كان ملهمًا للجهادية أما الآخر فألهم السياسة الأمريكية الحاليّة التي نجحت في دورها أن تُهيمن على الشعب الأمريكي وإدارته لعقود طويلة.