عرف الجنوب الجزائري منذ القدم، ازدهار فنون شعبية عديدة ارتبطت أسماؤها بمدن المنطقة، لما تحمله من خصائص الأصالة والعمق والتجذر في وجدان الإنسان والطبيعة، من ذلك فن الترميل الذي يشهد انتشارًا كبيرًا في هذه المدن الجنوبية، لاعتماده أساسًا على الرمل المنتشر في تلك الربوع الذي يعتبر أحد أهم خصاصها.
فن جزائري خالص
“فن الترميل” أحد الفنون التشكيلية الذي يأخذ أفكاره والمفردات التي يود تشكيلها من المحيط الذي يعيشه، وهو بمثابة التقنية الجديدة في إنجاز اللوحات الفنية، حيث تستخدم مادة الرمل وحدها في إنجاز الرسومات الفنية التي تبهر المشاهد وتشد أنظاره إليها لما تتمتع به من جمال وسحر.
بداية هذا الفن كانت في نهاية سبعينيات القرن الماضي، في صحراء الجزائر في مدينة الأغواط التي تشتهر بواحات النخيل الضاربة في جذور التاريخ، وبجبالها التي تشبه شكل المنشار، وسهولها الخضراء التي استمدت منه اسمها.
لم يكن “الطاهر الجديد”، عند بدأ انتشار “فن الترميل” فنانًا تشكيليًا محترفًا، بل كان رسامًا هاويًا
يعود الفضل لبداية هذا الفن إلى الرسام الجزائري الهاوي أصيل المدينة “الطاهر الجديد”، فهو من أعطى إشارة بدء انتشار هذا الفن الذي أصبح لاحقًا يعرف باسم فن الترميل لاعتماده على الرمل الأصفر ذي اللون الذهبي كمادة أولية له، إضافة إلى الغراء الذي يستعمل كمادة ثانية في إنجاز الشكل الفني المرغوب فيه.
لم يكن الطاهر الجديد عند بدء انتشار “فن الترميل” فنانًا تشكيليًا محترفًا، بل كان رسمًا هاويًا يمارس هواية الرسم إلى جانب عمله الرسمي في شركة “سوناطراك” البترولية بمنطقة حاسي الرمل التابعة لمحافظة الأغواط، فقد كان يمارس الرسم كهواية وكانت لوحاته زيتية كبقية الرسامين الهواة.
ورشة فنية
في إحدى الأمسيات المشوبة بهبوب رياح رملية كان الرسام ينجز لوحة زيتية كالعادة في فناء منزله العائلي ذي الأرض الرملية، وترك اللوحة لبضع دقائق ليجلب بعض الأغراض من الداخل ولما عاد وجد الريح قلب لوحته ورماها أرضًا فوق الرمل، ولما رفعها وجد حبيبات الرمل قد التصقت بمناطق مختلفة من اللوحة التي كانت ألوانها لم تجف بعد، مُشكِلة صورة جديدة، لتبدأ معها حكاية “فن الترميل”.
طرق أبواب العالمية
إلى جانب انتشاره في جنوب الجزائر، عرف هذا الفن الجديد انتشارًا عالميًا كبيرًا، بدأ مباشرة إثر التقاء الفنان “الطاهر الجديد”، في إحدى معارضه بناقد فني بلجيكي ساعده على اجتياز عقبة المكان ليعرض لوحاته في دول أوروبية عدة، ولقيت أعماله رواجًا كبيرًا، ونال عدة جوائز في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا.
يعتمد هذا الفن على الرمل
فضلاً عن “الطاهر الجديد”، انتقل فن الرسم بالرمل إلى فنانين جزائريين آخرين تأثروا به مثل بن خليفة والعيدي الطيب وقلوزة والعمري الذين أثروا الفن ونقلوه للشباب بعد ذلك لينشأ جيل جديد يبتكر ويبدع، وسرعان ما انتشر الأمر في بلدان كثيرة إفريقية تتمتع بأنواع وألوان من التراب الملون والرمال.
طريقة العمل
بعد تشكل لوحته الفنية في مخيلته الفكرية، يأخذ الفنان التشكيلي في خطوة أولى لوحته الخشبية أو المعدنية أو حتى الطينية حيث يرسم عليها بقلم الرصاص الشكل الفني المرغوب فيه، بعدها يشرع في وضع الرمل الناعم الخالي من أي نوع من الحصى المخلوط بالغراء على مكان الرسم وتركه يجف لبعض من الوقت قبل أن ينتقل إلى مرحلة تلوين الشكل الفني المنجز ليتم في النهاية الحصول على لوحة فنية في غاية الجمال.
لم يعد هذا الفن مقتصرًا على اللوحات، بل امتد أيضًا إلى تشكيل وتزيين حجر “وردة الرمال”
في البداية كانت معظم اللوحات مستوحاة من البيئة الصحراوية، مهد هذا الفن، حيث تظهر واحات النخيل و”الفقارات” التي تستعمل في الري التقليدي للبساتين والمساحات الغابية إضافة إلى صور الجمال التائهة في الصحاري القاحلة.
قارورات زجاجية ملئت بالرمل
ومع مرور الوقت، وانتشار هذا الفن أكثر ازداد خيال الفنانين اتساعًا، فأصبحنا نشاهد أشكالاً فنية أخرى تعتمد هذه المرة على الرمال الملونة والقنينات أو القارورات الزجاجية الفارغة التي تملأ بالرمل الصافي الملون بطرق مختلفة تمكن في نهاية المطاف من الحصول على أشكال فنية من نبات وحيوانات وغيرها من الأشكال العديدة.
كما تعددت فروع وتخصصات هذا الفن، حيث لم تعد مقتصرة على اللوحات، بل امتدت أيضًا إلى تشكيل وتزيين حجر “وردة الرمال” بوضع قواعد رملية أو طينية وإضافة بعض الملحقات بأسلوب فني رفيع ليعطي في النهاية شكل تحف متنوعة.