انطلقت الاستعدادات لخوض غمار انتخابات رئاسية في تونس، وقد بدأها المرشح القوي بمخالفة صريحة للقانون الانتخابي، بما يشير إلى نوعية السباق وحظوظ المتنافسين، ويشير أيضًا إلى النتيجة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
لا نظنها تكون انتخابات التسعات الأربع، لكنها لن تكون أيضًا انتخابات مماثلة أو مقاربة لانتخابات 2011، فقد أعدم الانقلاب شروطًا كثيرة لنزاهتها ولسلامة التنافس فيها، فضلًا على إعدام الحماس الشعبي لها، فالمسموع من الناس الآن ألّا جدوى منها، والمعارضون والمقاطعون نراهم قبل موعدها أكثر عددًا من المتفائلين بها المشاركين فيها (سننتظر نسبة المشاركة).
وإلى فقدان شروط النزاهة والعدل في تنظيمها، نجد أن نتيجتها مضمونة للانقلاب، فيشرّع بها وجوده حتى تصبح كلمة الانقلاب جريمة، فالذين يدخلون المنافسة يفعلون بكل ضعفهم وأنانيتهم الفردية، وقد شتّتوا قبل البدء القاعدة الناخبة القليلة التي لا تزال تعقد أملًا في التغيير السلمي بصندوق الانتخاب، ما ذكّر كل المراقبين بأخطاء انتخابات 2019 التي وضعت تونس بين الطاعون والكوليرا. نحاول تفكيك المشهد قبل موعد الانتخابات.
وسائل الدولة في خدمة مرشح واحد
الذاكرة الوطنية مشحونة بصورة المنصف المرزوقي عام 2014 وهو يذهب إلى تقديم ترشحه بسيارته الخاصة، متخليًا بإرادته عن السيارة الإدارية (وقد كان رئيسًا مؤقتًا)، أما صورة المرشح قيس سعيّد فقد خالفت كل البروتوكول الانتخابي، فذهب المرشح إلى أقصى نقطة من التراب الوطني (برج الخضراء) مصحوبًا بكفايته من الأمن ليعلن ترشحه من هناك.
وقد عُدّ ذلك مخالفة للقانون الانتخابي سكتت عنه الهيئة المنصَّبة من قبله، وسكت عنه المتنافسون لعجز فيهم عن الانشغال بالتظلم. وإلى ذلك تولت التلفزة العمومية تغطية الرحلة، وبثت خطاب الترشح كخبر أول لمدة 24 ساعة، بينما لم تعلن حتى عن أسماء بقية المترشحين في خبر ثانوي.
هذا مؤشر أول على انطلاقة غير متكافئة للمنافسة على المنصب، ونتوقع المزيد من استعمال وسائل الدولة من قبل الرئيس لفرض نفسه في مشهد انتخابي مضطرب وغير يقيني. فقد وضع الإعلام العمومي في خدمته بنفس وسائل بن علي قبله، ولا يزال يقود الدولة كأن ليس هناك انتخابات معلنة تحوّله إلى رئيس منتهية ولايته ملزم بالبقاء في منطقة الدعاية، وبإحالة صلاحيات تنفيذية إلى حكومته كما في كل تقاليد الديمقراطيات.
يقابل هذا المرشح مرشحون يفتقدون أولًا إلى المال العام (كلفة الدعاية) وإلى الماكينات الحزبية النشطة، كما يفتقد الكثير منهم إلى سِيَر سياسية تذكّر الناخب بماضيهم وبما يزكيهم لديه. أما أكبر عائق يقوم في طريقهم فهو أن فرقتهم تضعفهم جميعهم، وللحقيقة هذا ليس خطأ منافسهم المستقوي بالدولة.
بين المقاطعة والمشاركة
الوجه الثاني من المشهد اللايقيني هو حول جدوى المشاركة في الانتخابات، يقول المشاركون لو تركنا له (ويعنون المنقلب) الساحة سيفوز وحده ويفعل بالبلد ما يحلو له، ويقول المعارضون لو شاركنا نشرّع انقلابًا وندخل بوسائل غير متكافئة فيفوز ويملك في الخارج وفي الداخل شرعية لم يملكها منذ الانقلاب. جمهور كثير مشتّت بين الموقفَين ينضاف إلى جمهور أكبر فقدَ الأمل من الديمقراطية والانتخابات، وصار همّه حلًّا فرديًا ولو في دولة بن علي الفاسدة.
ونعتقد أن للموقفين حجّة كبيرة، لكن المقاطعين سيجدون حجّة أكبر بعد الانتخابات على أن المقاطعة أجدى، فالخيبة المتوقعة من الفشل كبيرة كما نراها بسبب واضح لدينا: لا يمكن المنافسة بواقع تشتّت الترشحات.
لم تجد نفعًا دعوات كثيرة صادقة إلى التوحد خلف مرشح واحد، يضمن تجميع كل المعارضة على برنامج بـ 5 سنوات تستعاد به شروط التنافس العادل، وتحل به معضلة العبث بالدستور.
لقد أطلق السيد العياشي الهمامي منذ الربيع الماضي، وهو شخصية سياسية تحظى بتقدير واسع لدى الجميع، مبادرة تجميع بهذا الاتجاه، لكن المبادرة حين عُرضت على الطيف السياسي المحتكر لصفة الديمقراطية اصطدمت (وهو ما كان متوقعًا) بالاستئصاليين الذين يرفضون كل تقارب مع الإسلاميين، فسقطت المبادرة وخاب المبادر، ما ترك الساحة مفتوحة لمنافسين كثر ولكن منافسين ضعفاء.
وهذا الضعف يظهر حتى الآن في عجز هؤلاء عن تجميع التزكيات التي تؤهّلهم لخوض المنافسة (وهو 10 آلاف تزكية)، وسيظهر أكثر عندما يخوض الفائزون بالتزكية الانتخابات فيفرّقون أصوات الناس بينهم فلا يفوز منهم أحد، وسيكون لهذا أثر سيّئ جدًّا على الجمهور الناخب الرافض للمقاطعة. ويقول المقاطعون بعد أن يبلغ الإحباط مداه: ألم نقل لكم؟
لماذا لا يتفق المعارضون، خاصة من الصفّ الديمقراطي الذي آمن بالثورة والحرية، على مرشح وحيد؟ هنا تذكر الجميع فضيحة عام 2019. حين ظنَّ كثيرون أنهم وُلدوا فقط ليكونوا رؤساء، فسُحلوا سحلًا بالطاعون والكوليرا.
خزان النهضة الصامت
العنصر الغامض في المشهد حتى اللحظة هو موقف حزب النهضة وجمهوره الناخب. لقد أعلنت جبهة الخلاص ومن ورائها حزب النهضة عدم الترشح وعدم الترشيح للانتخابات. هناك تقديرات متفاوتة لحجم هذا الخزّان الانتخابي، فمن قائل إنه تشتت واندثر ومن قائل إنه متكاتف يتربّص في صمت. لكن هناك يقين أن هذا الخزان موجود في مكان ما وقد اتخذ وضع الصياد.
لقد ثبت لدينا أن اتصالات كثيرة جرت مع قيادة الحزب التي لا تزال خارج السجون للفوز بدعم الحزب، وثبت أيضًا أن لا أحد تحدّث بشجاعة عن مظلومية الحزب وقدم وعودًا شجاعة بإنصافهم من الهرسلة والتدمير الممنهج.
هناك يقين لدى المرشحين أن الاقتراب من النهضة يعطيهم أصواتًا، لكنه يضعهم في الوقت ذاته في صفّ المؤهّلين للاستئصال من قبل الانقلاب وحزامه، خاصة من قبل القوة الصلبة الواقفة حتى الآن مع الانقلاب باسم حفظ الدولة (لقد ثبت يقينًا أن القوة الصلبة معادية للتيار الإسلامي بكل تنوعه).
كيف تفوز بدعم جمهور النهضة دون دفع ثمن لصالحه؟ هنا تنكشف كل خيوط اللعبة السياسية في تونس. ومن هنا نفهم موقف الحزب الصامت، لقد اكتشف مرة أخرى أن المراد منه أن يكون مركوبًا مفيدًا وهو يرفض هذا الوضع، لكن ما هي بدائله؟
باختصار، الأجهزة الحاكمة تعتقل قيادة الحزب تحت يافطة “كن معنا فقط وإن لم تفعل فلا تكن ضدنا”، والمرشحون يقولون لهم: “كن معنا ولا تورطنا في التعاطف معك”.
هذا فيما نرى أفضل زاوية للنظر إلى المشهد التونسي: استئصاليون في الحكم وخارجه ينظمون انتخابات لتشريع الاستئصال والتمسك الأبدي بالسلطة وغنائمها. يقابلهم (يشاركهم) ديمقراطيون لا يملكون ما يكفي من الشجاعة، ليعلنوا برنامجًا شجاعًا مضادًّا للاستئصال السياسي.
لذلك نتوقع دون كبير عناء أن غياب هذه الشجاعة في الصف المعارض (الذي يزعم الديمقراطية) لتحمل كلفة التعاون مع الإسلاميين من أجل وضع حدّ للانقسام السياسي الاستئصالي (الحاكم مند نصف قرن)، سيحكم على نتيجة الانتخابات ونعلنها دون جهد استشرافي بالأرقام الخرساء. سيفوز الصف الاستئصالي ويحكم 5 سنوات أخرى، ولن يتعلم الديمقراطيون من أخطائهم التي دمّرتهم عام 2019 وستجهز عليهم في عام 2024.
هل نغلق المتجر نهائيًا؟ الناس الذين لديهم قدرة على توليد الأمل من العدم يمكنهم الاشتغال على انتخابات 2029 بعقل غير استئصالي، وساعتها سيُفتح الطريق من جديد على قواعد غير استئصالية (نتائج السنوات الخمس القادمة الاقتصادية والاجتماعية ستكون كارثية دون ذكاء التوقع العلمي بالأرقام الخرساء). لنا يقين من نتائج انتخابات 2024 قبل الذهاب إلى الصندوق.
الأمل يأتي من مكان بعيد حتى لمن يدفع فلسًا لغزة. بندقية القسامي ستغيّر خريطة العالم.