تتكتل الأقليات الدينية وتنغلق على نفسها نتيجة شعورها الدائم بخطر يهدد وجودها..
لطالما كانت دراسة المجموعات الإثنية ودورها في تشكيل الهوية القومية السورية موضوعًا معقدًا وشائكًا للباحثين والصحفيين المهتمين بهذا المجال، وتعود صعوبة هذه الدراسة إلى عدة عوامل منها انغلاق بعض الإثنيات على نفسها، سواء كان ذلك اختيارًا أم نتيجة ظروف قسرية، بسبب الانتماء الديني لهذه المجموعات وتعاليمها الخاصة التي قد تكون مختلفة أو غامضة في بعض الأحيان، ما يزيد من تعقيد فهمها وتحليلها.
تعرضت هذه المجموعات تاريخيًا للعديد من التحولات السياسية والإدارية نتيجة السيطرة المتعاقبة للدول المحتلة أو المستعمرة على الأراضي السورية. هذه التحولات أدت إلى تغيير تنظيم هذه المجموعات وعلاقاتها بمحيطها. كما أن غلبة النظام شبه العشائري، الذي يعتمد على التكتل والانغلاق للحفاظ على استمرارية الجماعات، لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز هذا العزل.
من الأمثلة البارزة على هذه المجموعات في سوريا مجتمع الدروز، الذين يستقرون بشكل رئيسي في مدينة السويداء جنوب سوريا. ومع الذكرى السنوية الأولى لانطلاق المظاهرات السلمية في محافظة السويداء التي تصادف في 17 أغسطس/آب الحالي، نحاول من خلال ملف “بني معروف” تسليط الضوء على تاريخ الدروز ودورهم القومي في سوريا قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، إضافة إلى علاقتهم مع أنظمة الحكم المختلفة في سوريا، وخاصة نظام الأسد الذي عمل على تهميش السويداء سياسيًا واقتصاديًا.
من هم دروز سوريا؟
يعود أصل الدروز عمومًا للقبائل العربية التي سكنت في سوريا الطبيعية واعتنقت دعوة التوحيد في القرن الحادي عشر ميلادي، ومن أبرز تلك القبائل قبيلة تنوخ التي تتبع للقيسيين وهم من عرب الشمال، وكذلك عدة قبائل من عرب الجنوب (اليمانيين) وعلى رأسهم قبيلة ربيعة، بالإضافة إلى عدد من العائلات التركية والكردية التي اعتنقت دعوة التوحيد.
خرجت دعوة التوحيد عن المنظومة الدينية الفاطمية في القرن الحادي عشر الميلادي، وخرق الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور (الحاكم بأمر الله) لعادات توريث الخلافة، حيث أوصى بها لشخص ليس من سلسلة الإمامة الفاطمية وحرم ابنه منها، وأسس الحاكم بأمر الله لتعاليم دينية جديدة تستند إلى مقاربات الكتب السماوية مع العلوم الدنيوية والتعاليم الفلسفية السائدة حينها.
نُشرت الدعوة في العديد من البلدان العربية والآسيوية، وفُتح باب الدعوة لمدة 17 عامًا بين عامي 1017 و1034، وكان أكبر مريديها في بلاد الشام من عرب الجنوب وعرب الشمال (قيسيين ويمانيين)، وأُنشئت كتب مرجعية تُسمى (كتب الحكمة) وطقوس دينية مختلفة عن سابقاتها.
لكن “اختفاء” أو تصفية الحاكم بأمر الله واستلام ابنه الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي مقاليد الحكم، خلق حقدًا كبيرًا وتمت ملاحقة كل من اتبع هذه الدعوة والتنكيل بهم، فلجأ عدد كبير منهم إلى الجبال السورية مثل جبال لبنان والجبل الأعلى بالقرب من حلب، وفي جبال عامل بالقرب من فلسطين وجبال القلمون وبعض المناطق الجبلية الأخرى في بلاد الشام، لحماية أنفسهم وممارسة معتقداتهم الدينية الخاصة.
بعد استقرار أتباع الدعوة في لبنان، استطاعوا حكمه لفترات طويلة من خلال التنوخيين والمعنيين والشهابيين، لكن في فترة حكم الشهابيين حدثت العديد من المشكلات التي أدت إلى هجرة عدد كبير من أتباع الدعوة (الدروز) من جبال لبنان باتجاه الجنوب والشرق، فوصلوا لأول مرة مع نهاية القرن السابع عشر إلى جبل حوران، واستمرت الهجرات من الجبال في مختلف المناطق على فترات كان أكبرها بعد المعارك الدامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1860.
استقرار بعد صراعات
منذ وصولهم إلى جبل حوران، عاش الدروز طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين فترات حروب طويلة ودامية، فخاضوا معاركهم الأولى مع عشائر البدو المحيطة التي كانت ترعى في جبل حوران في فترة الربيع، وهو ما ولد منذ البداية بيئة عدائية وتوجسًا من الدروز، خاصة في طبيعة عقيدتهم الغامضة التي أخفوها عن المجتمعات المحيطة.
وتميز الدروز بتمرسهم في المعارك بسبب الحروب التي خاضوها ضد العثمانيين، إضافة إلى خبرتهم في الإنتاج الزراعي والتجارة من خلال عملهم في إنتاج وتجارة القطن والحرير في جبل لبنان قبل مجيئهم إلى جبل حوران.
ازدادت قوة الدروز وسطوتهم بعد انتصاراتهم في بعض معاركهم ضد قوات إبراهيم باشا المصرية (1836-1837)، الذي لم يستطع دخول جبل الدروز إلا بعد تسميم آبار المياه وإجبار المقاتلين على الاستسلام.
يرفض الدروز عبر تاريخهم أن تفرض عليهم مجموعة من الأمور أهمها: التجنيد الإجباري، وسحب السلاح الفردي، وفرض الضرائب، والسيطرة عليهم بقوة السلاح، وبسبب ذلك خاضوا معارك عنيفة ضد العثمانين مستخدمين حرب العصابات خاصة تمترسهم في منطقة اللجاة الحصينة التي تقع في الشمال والشمال الغربي من جبل حوران.
وبعد محاولات كثيرة استطاع العثمانيون دخول الجبل في عدة مناسبات وبناء قلعة لهم، وسوق عدد من وجهاء العائلات إلى المشانق في دمشق عام 1911 ومن ضمن الوجهاء الذين تم إعدامهم ذوقان الأطرش (والد سلطان باشا الأطرش).
الدور القومي
غابت الهوية القومية عن جغرافيا بلاد الشام التي وقعت تحت سلطة العثمانين مدة 400 عام، من خلال التجهيل وتجفيف منابع الوعي وكذلك الانخراط في القومية العثمانية السائدة حينها، ما أدى إلى تعزيز تواجد مكونات وقبائل وعشائر متفرقة يحكمها العرف والتقاليد على امتداد الجغرافية السورية بشكلها الحالي. ويمكن تقسيم الدور القومي للدروز في سوريا إلى حقبتين رئيسيتين:
حقبة العثمانيين
مع مطلع القرن العشرين، بدأت الحركات التثقيفية والجمعيات الوطنية في تكثيف نشاطاتها ورسائلها التوعوية، ومع ظهور بوادر ضعف الدولة العثمانية واحتمالية وقوع مواجهات مع الدول الاستعمارية الكبرى، توجه بعض السوريين إلى فكرة تأسيس إمارة عربية تمتد من الجزيرة العربية إلى سوريا الكبرى تحت تاج “الحكم الشريفي”، ما يعكس وعيًا مبكرًا بأهمية القومية العربية رغم أنه كان ما زال ضبابيًا في ذلك الوقت.
في جبل حوران، ظهر تيار مؤيد للحكم الشريفي بزعامة سلطان باشا الأطرش، رغم وجود تيارات أخرى داخل المجتمع الدرزي كانت تابعة للحكم العثماني.
انضم سلطان باشا إلى القوات العربية وأرسل في عام 1918 وفدًا يمثل الدروز إلى وادي العقبة، حيث جرى استعراض الوفود المشاركة في الثورة تحت قيادة الشريف حسين. بعد ذلك، تم التنسيق مع قوات الأمير فيصل بن الحسين المتجهة إلى دمشق، حيث أرسل فيصل رسالة إلى سلطان باشا يقول فيها: “أخي سلطان، الملقى درعا غدًا“.
تضمنت هذه الرسالة ثلاثة أمور ذات أهمية في تطور الفكر القومي العربي، فهي تعكس تواصل قائد عربي مع زعيم محلي في منطقة درعا التي كانت تشهد بعض التوترات بين عشائرها والدروز، كما تعكس الهدف المشترك لتحرير دمشق.
كانت هذه الرسالة محفزًا لسلطان باشا لتجنيد أكثر من 500 فارس في جبل حوران، حيث قادهم في معارك عدة وصولًا إلى دمشق، ورفع العلم العربي على دار الحكومة في العاصمة.
حقبة الفرنسيين
في فترة لم تتجاوز السنتين، تم تحطيم الحلم بإقامة دولة عربية عاصمتها دمشق، حيث تخلت القوى الاستعمارية عن وعودها وفضّلت مصالحها الخاصة. في هذا السياق، تنصل الإنجليز من التزاماتهم لصالح الفرنسيين الذين قسموا جغرافيا سوريا إلى ست دويلات، كان آخرها دويلة جبل الدروز، التي بلغ عدد سكانها نحو 50 ألف نسمة. وعززت فرنسا في هذه الدويلة مفاهيم الانفصال والحكم الذاتي لدى شريحة واسعة من السكان.
بينما انحصر تأثير الدعاية الشريفية في شرقي الأردن، القريبة من دويلة جبل الدروز، ما مكّن التيار الوطني في الجبل من التواصل بحرية مع ممثلي الشريف حسين، وعلى رأسهم الأمير عبد الله ورشيد طليع، رئيس حكومة شرقي الأردن.
كان الفرنسيون قلقين من تأثير هذا التيار الوطني، كما يتضح من بعض المراسلات المحفوظة في أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية، حيث تم التحذير من “جمعية الشباب” السرية التي ترأسها علي عبيد، والتي كانت تهدف إلى إقامة دولة عربية والتحرر من الانتداب الفرنسي (حسب أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية – تقرير استخباراتي رقم 9 R من الصندوق GR 4 H 118).
على الرغم من تواجد تيارات درزية مؤيدة للانتداب الفرنسي، بقي التيار الوطني في جبل الدروز نشطًا ومر بالعديد من المحطات المهمة. في عام 1922، استضاف سلطان باشا الأطرش في بيته إبراهيم هنانو، قائد حركة المقاومة ضد الفرنسيين في الشمال، بعد أن أصبح هنانو هدفًا للفرنسيين، وساهم الأطرش في تأمين وصوله إلى شرقي الأردن.
كان شرقي الأردن ملاذًا للمناهضين للانتداب الفرنسي، واستقبل أيضًا سلطان الأطرش بعد مواجهته لدورية فرنسية في صيف عام 1922 دفاعًا عن اعتقال أدهم خنجر، الذي كان هاربًا بعد محاولة اغتياله للجنرال الفرنسي غورو قبل أن يتم إصدار حكم إعدام بحق خنجر (الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي- تلغرام رقم 116-117 / SP من الصندوق رقم 1SL/1/V/982).
أعلن سلطان الأطرش الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين بالتنسيق مع القوى السياسية في سوريا، وعلى رأسها حزب الشعب برئاسة عبد الرحمن الشهبندر، واستمرت الثورة بين عامي 1925 و1927، وساهمت بشكل كبير في بروز القومية العربية.
ما ميز الثورة منذ بدايتها كانت مطالب سلطان باشا الوطنية، حيث صرح لصحيفة “نيو فرييه برس” النمساوية في أغسطس/آب 1925 قائلًا: “لا أستطيع أن أكون راضيًا عن الحكم الذاتي لإقليم الدروز. أطالب مع كل شعبي بالاستقلال الكامل لكل سوريا، نريد أن يكون لدينا برلماننا الحر وجيشنا الوطني وحكومتنا الوطنية وملكنا أو رئيسنا كرئيس للدولة. يجب أن يكتفي الفرنسيون بكونهم مستشارين، مثل الإنجليز في العراق”.
على الرغم من الهزيمة التي لحقت بالثوار ونفيهم إلى الصحراء في الأردن، فإنهم أسسوا فكرًا قوميًا سوريّا تجسّد في توقيع المعاهدة الفرنسية السورية عام 1936، التي وعدت فرنسا من خلالها باستقلال سوريا وقبولها عضوًا في عصبة الأمم.
بالنسبة لدروز جبل حوران حاولت سلطات الانتداب الفرنسي إقناع السكان بأن يرفضوا الوحدة مع بقية الأراضي السورية وأن يبقوا على تنظيمهم الإداري وحكمهم الذاتي، فأوعزت لبعض الزعماء الدينيين وبعض وجهاء العائلات بأن يراسلوا المندوب السامي لمطالبته بالبقاء على حالتهم المستقلة، لكن كان للفريق الوطني في الجبل صوت أقوى، واستمد قوته من نتائج الثورة السورية الكبرى ودعم سلطان الأطرش لخيار الوحدة السورية من منفاه، فأرسلوا عشرات الرسائل التي حملت تواقيع من عدد كبير من قرى الجبل يرفضون فيها البقاء على حالتهم المستقلة ويطالبون بضمهم لسورية الموحدة.
ورغم تغذية الفكر الطائفي والمناطقي والعائلي من قوى الاحتلال والاستعمار في سوريا وخاصة في مناطق الدروز، فإن تفوق التيار الوطني على الأصوات الانفصالية كان تجربة نادرة في مجتمع لم يختبر سابقًا معنى “الهوية السورية” الحقيقية، واستطاع الدروز المساهمة بشكل لافت في تكوين شكل سوريا الجديد بعد الاستقلال وحتى اليوم.