مستمدةً اسمها من الكلمة العربية “قوّال”، أي كثير القول، ظهرت “القوّالي” كشكلٍ من أشكال الموسيقى الدينية الصوفية في جنوب آسيا، خاصةً في الهند، قبل ما يقارب 700 عام من يومنا هذا، على يد الشاعر الهندي “أمير خسرو” الذي كان يلقّب بعندليب الهند، حاملةً معها العديد من المعاني الصوفية السامية والرسائل الملهمة والابتهالات الدينية الإسلامية التي تدعو إلى التسامح وحب الخالق.
وازدادت بسرعة أهمية موسيقى القوَّالي في الهند التي أصبحت في العصور الإسلامية الوسطى مهد الفنون الفارسية؛ وفي تلك الأيَّام تأثَّر الكثيرون من الهندوس بأغاني أمير خسرو بحيث أنَّهم اعتنقوا الإسلام كما تروي الكتب التاريخية. واليوم تشكِّل موسيقى القوَّالي جزءًا مهمًا في حياة المسلمين الدينية في جنوب آسيا والذين يزيد عددهم عن ثلاثمائة وخمسين مليون شخص. ولا يكاد يوجد مزار صوفي في الهند أو باكستان لا تُعزف فيه أغان من مخزون موسيقى القوَّالي.
ظهرت موسيقى القوّالي الصوفية في الهند قبل ما يُقارب الـ700 عام على يد الشاعر أمير خسرو
وكنوعٍ موسيقيّ فريد، ترتبط موسيقى “القوّالي” ارتباطًا وثيقًا بالتقاليد الكلاسيكية الهندوستانية لشبه القارة الآسيوية في أُطرها اللحنية وارتجالاتها الصوتية المرنة والمنفردة، ويعتمد فيها المغنون على مجموعة من مئات الأغاني التي كُتبت بشكلٍ رئيسيّ باللغة الأوردية أو البنجابية، إضافةً للقليل منها ممّا كُتب بالعربية والتركية والفارسية.
كما تمتاز موسيقى القوالي بتعدد إيقاعاتها الموسيقية، وتردد الفرق المؤدية له أبياتًا من قصائد شعراء صوفيين مثل جلال الدين الرومي وغيره، وهذه القصائد مديح لله وللنبي وللأولياء الصالحين، وهي تعبِّر أيضًا عن شوق ومحبة المريد وحرقته، وتحمل في داخلها ألم الفراق وفرحة التوحّد مع الإلهي، وتكون ممزوجة بابتهالات دينية محلية، ما يثري حسب المنشدين المقامات الموسيقية بنبراتٍ صوفية متنوعة ومختلفة.
ومع أنّ للقوّالي قوانينه وكلماته وانغامه وأدواته التقليدية التي وُضعت قبل سبعة قرون، إلا إنّ بعض رواده قد أدخلوا فيه تعبيراتهم وألحانهم وأساليبهم الحديثة، ليؤثر على الناس أكثر ويشدّ انتباههم ويحفّزهم لسماعه. كما كان في بداياته محصورًا فقط في المزارات الصوفية ودور العبادة ومقتصرًا على الرجال دون غيرهم، لكنّه ما لبث أنْ تحرر من قيود الحضور وبات له جمهوره النسويّ، عوضًا عن اتّساع مساحاته من مهرجانات وحفلات الزفاف والأحداث الثقافية وما إلى ذلك.
الهدف من موسيقى القوّالي وحفلاتها وأغانيها هو الوصول بالمستمعين إلى حالة من التنزه والسموّ والهيام بالذات الإلهية
عادةً ما يتم تأدية “القوّالي” عن طريق مغنٍّ من خلفه الكورال، يلعبون جميعهم بأسلوب القرار والجواب، ويستخدمون آلات الإيقاع أو الطبول أو السيتار، وهي آلة موسيقية وترية طويلة هندية شبيهة بالعود، يرجع تاريخها إلى القرون الوسطى وقام المغول بإضافة التعديلات عليها بحيث تصبح أقرب للآلات العودية الفارسية والشرقية. وفي الفترة الحديثة، أُدخلت آلية الأورغان ذات لوحة المفاتيح الشبيهة بالبيانو، إلى موسيقى القوّالي، حتى بات البعض يستعيض بها عن آلة السيتار.
بالعادة تستمر حفلة القوّالي لعدة ساعات دون انقطاع، دون أن تركّز على مادة ثابتة للغناء أو الأداء أو أن تلتزمَ بخطة محددة، فالهدف بالنهاية هو الوصول بالمستمعين إلى حالة من التنزه والسموّ والهيام بالذات الإلهية الأمر الذي يتطلب انقطاعًا كليًّا عن الحياة والأرض، والتسامي نحو السماء والروح.
نصرت علي خان: عَلَم القوّالي الأشهر وموسيقار الحوار بين الأديان
يعدُّ “نصرت علي خان” ووالده فاتح من أبرز روّاد هذا الفن، حيث كانا ينتميان لعائلة حافظت على تقاليد هذا الفن لأكثر من 600 عامٍ على التوالي، ويعود لنصرت الفضل في تقديم هذا الشكل من الموسيقى للجمهور الدوليّ في أواخر القرن العشرين بعد بدء إصداره وفرقته للعديد من الألبومات التي لاقت رواجًا هائلًا، ما دعم أيضًا تقديمهم للعروض المباشرة في مهرجانات الموسيقى الدولية.
وُلد نصرت فاتح علي خان في عام 1948 في مدينة ليالبور التي تُعرف في يومنا هذا باسم “فيصل أباد”، بعد عامٍ واحدٍ فقط من خروج وطنه باكستنا من مخاض كفاحها من أجل الاستقلال عن الهند. وكان ظهوره العلني الأوَّل وهو في سنِّ السادسة عشر بعد وفاة الده. وفي الذكرى الأربعين لوفاة والده غنَّى على ضريح أبيه. وقد نٌقل عنه قوله: “عندما أبدأ الغناء فإنَّني أغيب في موسيقاي ولا يبقى شيء غير هذه الغيبوبة”.
وبدءًا من العام 1971 انتشرت شهرة “نصرت علي خان” في باكستان والهند، ووصلت بعد فترة قصيرة إلى المسارح الدولية؛ بعد أن قام بأّولى جولاته الموسيقية في مطلع الثمانينيات في انكلترا والدول الإسكندنافية، حيث قدَّم موسيقاه بصورة رئيسية أمام الجمهور الباكستاني في المهجر.
النسبة لنُصرت فقد كانت موسيقى القوَّالي حسب التقاليد الصوفية سبيلًا إلى الله، وإلى معرفة النفس
وفي الأعوام اللاحقة غنَّى نصرت بالاشتراك مع موسيقيين غربيين مثل بيتر غابرييل وإدي فيدر، وكان يركِّز على المهرجانات الموسيقية العالمية ويحاول المساهمة في بعض مشاريع الانصهار ويسجِّل بعض المقطوعات الموسيقية التصويرية لأعمالٍ سينمائية من إنتاج هوليوود، وهكذا أصبحت للمرَّة الأولى موسيقى القوَّالي معروفة في أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية.
بالنسبة لنُصرت فقد كانت موسيقى القوَّالي حسب التقاليد الصوفية سبيلًا إلى الله، وبذلك أيضًا إلى معرفة النفس، هذه المعرفة التي كانت تحدث في الحوار ما بين القوَّال والمستمعين، على خلاف الموسيقى الشعبية ذات الوتيرة السريعة التي احتك بها نصرت في دول الخارج.
ولو بحثت في الإنترنت أو موقع يوتيوب، ستجد العشرات من الفيديوهات المصوّرة لحفلات نصرت، حيث يظهر فيها ذلك الرجل البدين الذي يُحيط به أتباعه وكأنه بوذا. ولكنّ أكثر ما قد يثير انتباهك في تلك الفيديوهات هي تلك النشوة التي يدخل فيها نصرت أثناء غنائه شيئًا فشيئًا، حتى يلج لغيبوبته التي يعتبرها علامةَ السموّ والوصول.