يُروى أن العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز تعرض في أوائِل فَترة حكمه إلى محاولة ابتزاز أمريكية، عندما طلبت السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية بوجود قوات أمريكية دائمة على أرض المملكة لحمايتها من أخطارٍ تُهدّدها من العِراق وإيران، وإرسال قوّات المارينز للقِيام بهذهِ المُهمّة.
التفتَ الملك عبدالله إلى الضّيفة الأمريكيّة وروى لها طرفة بليغة عن ذلك البدوي الذي اشتكى مراراً من مهاجمة الذئب لقطيع أغنامه، وعندما نصحه خبرائه باستقدام كلاب حراسة قوية لحماية القطيع وافق فجاءت النتائج كارثية، فبعد أن كان الذئب يلتهم رأساً من الغنم كل يوم أو يومين، بات عليه أن يذبح ثلاثة رؤوس يومياً لإطعام كلاب الحراسة.
فهمت السيدة أولبرايت مغزى الرواية، وغادَرت مَضارب المملكة الصحراويّة مُهروِلَةً، ولا يُرى غير الغُبار خَلفها، ولم تَفتح الإدارة الأمريكيّة هذا المَوضوع مُطلقًا حتى جاءَ الرئيس ترامب، فاصطدم بولي العهد محمد ابن سلمان الذي لا يملك إلا أن يدفع، فأراد مسئولوه أن يحولوا الدفة إلى قطر بعد أن أوشكت بقرتهم الحلوب على الجفاف.
ابتزاز ترامبي جديد
إنها بداية قصة الابتزاز الأمريكي التي أعتادها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، منذ ترشحه لانتخابات الرئاسة الأمريكية 2016، وكانت آخر حلقاتها بالأمس القريب، عندما قال دول منطقة الشرق الأوسط لم تكن لتبقى أسبوعاً لولا الحماية الأمريكية”، مطالباً الدول الخليجية بزيادة مساهماتها المالية من أجل طرد “الإرهابيين” من سوريا.
وقال ترامب في مؤتمر صحفي جمعه بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إن بلاده ترغب في سحب جنودها من سوريا في أقرب وقت، وأن ترسل دول أخرى جنودها إلى سوريا، مضيفًا: “لن نستمر بدفع مليارات الدولارات والمخاطرة بجنودنا دون أن نتلقى مقابلا لذلك، نريد عودة جنودنا من سوريا ولكن نريد أيضا أن نحقق نتائج قوية هناك”.
منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكي، يتحدث ترامب بِطريقةٍ تَنطوي على الكَثير من الحِقد والفَظاظة حول ضَرورة أن تُسدّد “البُلدان الثريّة” للولايات المتحدة تَكلُفَة الدفاع عنها.
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لم يفوت الفرصة، ودخل مؤولاً تصريحات ترامب بقوله “يجب على قطر إرسال قواتها العسكرية إلى سوريا، وأن تدفع ثمن وجود القوات الأميركية في سوريا، قبل أن يلغي الرئيس دونالد ترمب الحماية لدولة قطر، المتمثلة في وجود القاعدة العسكرية الأميركية على أراضيها”.
ونقلت وكالة الأنباء السعودية عن الجبير قوله إن الولايات المتحدة لو سحبت حمايتها المتمثلة في قاعدة العديد فإن النظام في قطر سيسقط خلال أقل من أسبوع”، رغم أن ترامب لم يذكر دولاً بعينها.
كما لم تكن تلك المرة الأولى التي يقول فيها ترامب ذلك، فمنذ ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية يُتحدث ترامب بِطريقةٍ تَنطوي على الكَثير من الحِقد والفَظاظة حول ضَرورة أن تُسدّد “البُلدان الثريّة” للولايات المتحدة تَكلُفَة الدّفاع عنها.
وسبق له أن قال خلال حملته الانتخابية: “نريد إقامة منطقة آمنة في سوريا. سأذهب إلى دول الخليج التي لا تقوم بالكثير، صدقوني. دول الخليج لا تملك شيئاً غير الأموال. سأجعلهم يدفعون. لدينا دين عام يقدّر بـ 19 تريليون، ولن ندفع هذه الأموال. لن ندفع…هم من سيدفعون! وهم سيدفعون، لأنها من دوننا لم يتسن لها لتكون موجودة”.
على قطر أن تدفع.. لماذا؟
ربما من يسمع تصريحات الجبير دون أن يعرف من المتكلم سيظن أنها تصدر عن وزير الخارجية الأمريكي أو الناطق باسم الكونغرس أو باسم وزارة الدفاع أو الخارجية الأمريكية، فالمسئول السعودي –بحسب محللين-خرج عن الأعراف الدبلوماسية في رسالة مفادها إحراج قطر مع شريكها الأمريكي.
ويرى الباحث في قضايا العالم العربي صلاح القادري أن ربط الجبير دفع قطر أموالاً وإرسالها جنودًا إلى سوريا بنقل قاعدة العديد عن أراضيها لا يمكن أن يصدر إلا عن الرئيس الأمريكي أو المتحدث باسم إحدى المؤسسات الأمريكية، مؤكدا أن كلام ترمب عن الدول التي ينبغي أن تدفع مقابل البقاء في سوريا يشمل قطر وغيرها من الدول الخليجية.
تصريحات الجبير تشير إلى أن بلاده لا يجب أن تكون الوحيدة التي يجب أن تدفع من أجل تحافظ على وجودها
وخص الجبير قطر لأنه يعرف أن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا يجعل القوات العربية التي جرى الحديث عن إرسالها في مواجهة إيران وتركيا، وأن حصار قطر جعل من العلاقات القطرية التركية الإيرانية جيدة، وبالتالي يريد إحراج الولايات المتحدة التي لم تتحدث عن إرسال قوات قطرية إلى سوريا للدخول في مواجهة مع الإيرانيين أو الأتراك.
ويرى مراقبون أن تصريحات ترامب تَستهدف المملكة العربيّة السعوديّة أولاً، لأنها تَرتكز على تَضخيم الخَطر الإيرانيّ، من أجلِ إرهابها وإجبارِها على دَفع مِئات المِليارات من احتياطاتِها الماليّة، أو حتى بالاستدانة من البُنوك الأمريكيّة، ورَهنْ احتياطاتِها النفطيّة والغازيّة لعُقودٍ قادمةٍ إذا اقتضى الأمر.
الجبير يريد أيضًا أن يلغي الصورة السيئة التي صنعها محمد ابن سلمان عن السعودية بعد شراكته مع ترامب في قضية “حصار قطر”، والتي تشير إلى أن لا يملك إلا أن يدفع ويدفع المزيد من الأموال للبقاء في السلطة، ففي زيارته الأخيرة لواشنطن، دفع ابن سلمان مليارات الدولارات مقابل صفقات عسكرية وتجارية.
لكن تصريحات الجبير تشير إلى أن بلاده لا يجب أن تكون الوحيدة التي يجب أن تدفع من أجل تحافظ على وجودها، قطر كذلك يجب أن تدفع من أجل تبقى، فالرئيس ترامب عادَ من زِيارتِه الخارجيّة الأولى إلى الرياض في شهر أيار (مايو) الماضي، بأكثرِ من 460 مليار دولار على شَكل استثماراتٍ ومَعوناتٍ وصَفقاتِ أسلحة.
وربما أراد الجبير أن يخفف الضغوط الأمريكية المالية والعسكرية على السعودية، في ظل الطمع الأمريكي بأموال المملكة تواجه عجزًا في موازناتها بقيمة 52 مليار دولار بموازنة 2018، وذلك للعام الخامس على التوالي، وتفرض إجراءات تقشف حكومي، وتخفض الدعم على الوقود وتفرض الضرائب لأول مرة؛ على خلفية تراجع أسعار النفط.
من سيدفع المليارات في النهاية؟
لكن إذا أردنا أن نعرف من المقصود، نجد أن ترامب اقترح، في بداية الشهر الجاري، أن تدفع السعودية فاتورة القوات الأمريكية الموجودة في سوريا، وأوضح أن “السعودية مهتمة جدا بقرارنا. وقلت، حسنا، كما تعلمون فإذا كنتم تريدوننا أن نبقى فربما يتعين عليكم أن تدفعوا“.
وفي ذكره المتكرر للخطر الإيراني، بدا ترامب وكأنه يخلق الكثير من الالتباس حول انسحاب القوات الأمريكية من سوريا بهدف ابتزاز السعودية وسحب الأموال منها مقابل تقويض النفوذ الإيراني، ورجح موقع “ديلي بيست” الأمريكي أن تصريحات ترامب حول سحب القوات الأمريكية المحتمل من سوريا ابتزازًا واضحًا للسعودية ، فهو يستخدم ورقة سوريا للضغط على الرياض وسحب المزيد من الأموال منها.
كان ابن سلمان قد صرح لصحيفة “تايمز”، بأن القوات الأمريكية يجب أن تبقى لفترة متوسطة على الأقل، إن لم يكن على المدى الطويل
وفي هذا السياق، قالت صحيفة “واشنطن بوست” إن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، طرح على الملك سلمان خلال مكالمة هاتفية جرت في ديسمبر الماضي، فكرة تتعلق بتعجيل خروج الولايات المتحدة من سوريا ، مقابل الحصول من المملكة على مبلغ 4 مليارات دولار.
وكانت شبكة “سي إن إن” الأمريكية نقلت عن مصادر أمريكية مسؤولة، القول إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس تقديم ما وصفته بـ”مكافأة إجبارية” للمملكة العربية السعودية من أجل إرسال قوات عربية إلى سوريا تحل محل القوات الأمريكية، مضيفة أن إقناع السعودية بالمشاركة سيأتي بثمن، مضيفة أنه مع إبداء السعودية استعدادها للمشاركة في إرسال قوات عربية إلى سوريا، سيكون على الولايات المتحدة تحديد ما الذي ستقدمه في المقابل.
وكان ابن سلمان قد صرح لصحيفة “تايمز”، بأن القوات الأمريكية يجب أن تبقى لفترة متوسطة على الأقل، إن لم يكن على المدى الطويل، مبرّرًا مطالبته هذه بالقول: “إن وجود القوات الأمريكية داخل سوريا هو آخر جهد يوقف إيران عن مواصلة توسيع نفوذها مع الحلفاء الإقليميين“.
وبالعودة إلى الرواية القديمة، فلن يبقى القطيع قَطيعًا بعد إطعام كِلاب الحِراسة الجَشِعة، وستترحم المملكة على أيّام الذئب، وسَتندم أشدَّ النّدم على الاستعانةِ بكِلابِ الحِراسة الأمريكيّة.