حتى صباح السابع عشر من نيسان/إبريل، كان من يتحدث عن انتخابات مبكرة في تركيا يوصف بغياب الوعي أو البحث عن مصالح فئوية واستهداف استقرار البلاد. ولذا، فقد جاء اقتراح دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، بتقديم موعد الانتخابات إلى نهاية آب/أغسطس المقبل، مفاجأة للجميع. حزب الحركة القومية ليس حليفاً لحزب العدالة والتنمية الحاكم وحسب، ولكنه عرف أيضاً بأنه المحرك لكل الانتخابات المبكرة في تركيا منذ ثمانينات القرن الماضي.
والمؤكد أن الذهاب لانتخابات مبكرة ليس وصفة جيدة لصحة النظام الديمقراطي، لا في تركيا ولا غيرها. خلال سبعة عقود من عمر الديمقراطية التركية، شهدت البلاد انقلابين عسكريين، محاولة انقلابية فاشلة، وعدداً من تدخلات الجيش المباشرة وغير المباشرة في الحياة السياسية، كما عرفت حكومات إئتلافية هشة، لم تستطع إدارة شؤون الحكم والدولة كما ينبغي. بمعنى، أن خيار الانتخابات المبكرة ارتبط عرفاً بعطب في آلية الحكم، واعتبر أقرب إلى العلاج بالكي عندما لم تستطع الطبقة السياسية العثور على علاج أقل ألماً.
بيد أن بهتشلي، وبالرغم من غياب أية مؤشرات على وجود أزمة ما، نجح في إقناع رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، بأن الانتخابات المبكرة باتت ضرورة وتصب في مصلحة البلاد. وهكذا، وبعد لقاء قصير بين بهتشلي وإردوغان في اليوم التالي، خرج الرئيس ليؤكد الدعوة لعقد انتخابات برلمانية ورئاسية مزدوجة في 24 حزيران/يونيو (على أساس أن الموعد الذي اقترحه بهتشلي ليس مناسباً، كونه يقع في منتصف موسم الإجازات الصيفية).
كان الموعد الأصلي للانتخابات، عندما تنتهي ولاية الرئيس وولاية البرلمان الحالي، هو تشرين الثاني/نوفمبر 2019. ولأن عملية الانتقال للنظام الرئاسي، الذي أقر في استفتاء نيسان/أبريل 2017، لا تكتمل إلا بعقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فإن إجراء الانتخابات في حزيران/يونيو المقبل يعني اختصار المرحلة الانتقالية بما يقارب الخمسة عشر شهراً.
ثمة من يعتقد في العدالة والتنمية أن أرقام النمو الاقتصادي العالية في العام الماضي، والانخفاض الملحوظ في معدلات البطالة، والنتائج المرضية لعملية عفرين، تعزز من الحظوظ الانتخابية للرئيس وحزبه على السواء
لم يكن إردوغان يحتاج الانتخابات المبكرة، فبعد عودته لقيادة العدالة والتنمية، ونظراً للتفاهم الكبير بينه وبين رئيس حكومته، بن علي يلدريم، يمارس رئيس الجمهورية صلاحيات لا تقل عن تلك التي يمكن أن يتمتع بها عند الانتقال للنظام الرئاسي. ولكن الواضح أن الرئيس أقنع بأن طول الفترة الانتقالية بين النظامين البرلماني والرئاسي صنع مناخاً من القلق، على المستويين السياسي والاقتصادي، وترك أثراً سلبياً على قيمة الليرة التركية، من ناحية، وعلى ثقة الخصوم والأصدقاء، معاً، في استقرار البلاد وقدرتها على مواجهة التحديات الإقليمية.
إضافة لذلك، ثمة من يعتقد في العدالة والتنمية أن أرقام النمو الاقتصادي العالية في العام الماضي، والانخفاض الملحوظ في معدلات البطالة، والنتائج المرضية لعملية عفرين، تعزز من الحظوظ الانتخابية للرئيس وحزبه على السواء. الانتظار حتى نهاية 2019، يعني تراجع أثر هذه التطورات الإيجابي، وقد يأتي بمفاجآت سياسية واقتصادية سلبية ليست في الحسبان.
مهما كان الأمر، أخذت أوساط العدالة والتنمية، بمجرد الإعلان عن الانتخابات المبكرة، في الحديث عن نتائج الانتخابات بقدر كبير من الثقة بالنفس. خلال الشهور القليلة الماضية، زار إردوغان أغلبية ولايات تركيا، متحدثاً في مؤتمرات أفرع الحزب المحلية وعاملاً على النهوض بروحه القتالية. والمؤكد، بالرغم من إعراب أحزاب المعارضة عن ترحيبها بالانتخابات المبكرة، أنها ليست جاهزة تماماً لخوض المعركة، سيما أن ما تبقى على موعد الانتخابات لا يزيد عن خمسة وستين يوماً.
بخلاف رئيسة الحزب الصالح، المنشق عن حزب الحركة القومية، والذي لم يؤسس جذوراً عميقة له بعد في ولايات البلاد، لم يتفق أي من أحزاب المعارضة على مرشحه للانتخابات الرئاسية. ويبدو أن حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي، بصدد مواجهة خلاف داخلي ضار، بعد أن أعلن أحد نوابه البرلمانيين عن ترشحه لرئاسة الجمهورية، بدون أي تشاور مع قيادة حزبه. أخيراً، ومهما كان الجدل حول نمط قيادة الرئيس إردوغان في السنوات القليلة الماضية، فليس ثمة مرشح محتمل في الساحة السياسية، يمكن أن يشكل تهديداً جاداً لحظوظ الرئيس في الفوز في الانتخابات.
يتمتع العدالة والتنمية بدعم ما يقارب الخمسين بالمئة من أصوات الناخبين الأكراد؛ بينما تتوجه نسبة مشابهة من الصوت الكردي إلى دعم حزب الشعوب الديمقراطي، ذي التوجهات القومية الكردية، ووثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني
بيد أن ثمة معطيات تشير إلى أن الثقة المفرطة بالنفس لن تساعد العدالة والتنمية على الفوز، لا في الانتخابات البرلمانية ولا الرئاسية. ثمة عقبات كبرى لابد من تجاوزها قبل أن ينجح العدالة والتنمية في الاحتفاظ بأغلبيته البرلمانية وينجح الرئيس في العودة إلى قيادة البلاد في ظل نظام الحكم الجديد. كان الاستفتاء حول التعديلات الدستورية التي شرعت الانتقال للنظام الرئاسي قد أظهرت عزوف قطاع ملموس من الطبقة الوسطى المحافظة عن تأييد التعديلات التي اقترحها العدالة والتنمية. ويمثل إقناع من تحفظوا على التعديلات الدستورية والعودة إلى دعم وتأييد العدالة والتنمية ورئيسه أحد أبرز تحديات الانتخابات، سيما في المدن التركية الكبرى.
ولا يقل تحدي التراجع في معدلات تأييد الصوت الكردي أهمية. تقليدياً، يتمتع العدالة والتنمية بدعم ما يقارب الخمسين بالمئة من أصوات الناخبين الأكراد؛ بينما تتوجه نسبة مشابهة من الصوت الكردي إلى دعم حزب الشعوب الديمقراطي، ذي التوجهات القومية الكردية، ووثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني. وهناك مؤشرات متزايدة، تعود إلى انفجار الصراع من جديد بين العمال الكردستاني والدولة التركية في صيف 2015، على أن العدالة والتنمية لم يعد يستطيع الحصول على ذات المستوى من تأييد الناخبين الأكراد، لا في جنوب شرق البلاد ولا في المدن التركية التي تضم أعداداً كبيرة من المواطنين ذوي الأصول الكردية.
تحالف العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية لا يساعد بالضرورة في جهود استعادة قواعد العدالة والتنمية الكردية. وثمة شكوك كبيرة لدى عدد من قادة العدالة والتنمية في الادعاء بأن التحالف مع الحركة القومية يمكن أن يعوض التراجع في تأييد الناخبين الأكراد؛ سيما بعد انشقاق ميرال أكشنر ومجموعة من كوادر الحركة القومية لتأسيس الحزب الصالح.
بيد أن أكبر المخاطر التي تهدد حظوظ العدالة والتنمية الانتخابية تتعلق بموقف الرئيس السابق عبد الله غل، وما إن كان سيخوض المنافسة الرئاسية، بدعم عدد من قادة العدالة والتنمية السابقين ومعظم أحزاب المعارضة.
اليوم، يفوق وزن تركيا وتأثيرها أضعاف ما كانت عليه قبل أربعة أو خمسة عقود
إن قرر غل الدخول إلى حلبة المعركة الرئاسية، فقد يتسبب في شرخ مؤلم في المعسكر المحافظ، الكتلة الانتخابية الأكبر في البلاد، ويجعل التنبؤ بنتائج الانتخابات مسألة بالغة الصعوبة. والمدهش في الإثارة التي تحيط بالتكهنات حول موقف غل أنه أصبح محط آمال ليس المحافظين المعارضين لإردوغان وحسب، ولكن أيضاً اليسار ويسار الوسط العلماني التقليدي. بمعنى، أن السياسة التركية لم تعد تدور حول التدافع بين المعسكر المحافظ ومعسكر اليسار الكمالي، بل داخل المعسكر المحافظ نفسه.
في النهاية، وبغض النظر عن كونها انتخابات مبكرة، ليس ثمة شك أن هذه جولة انتخابية حاسمة بكل المقاييس، وليس فقط لأنها تمثل عتبة الانتقال إلى نظام حكم جديد، لم تعرفه تركيا منذ تأسيس الجمهورية. لو أن النظام الرئاسي طبق في الخمسينيات أو الستينيات، ما كان ليجلب انتباه الكثيرين. اليوم، يفوق وزن تركيا وتأثيرها أضعاف ما كانت عليه قبل أربعة أو خمسة عقود. لهذا، ولأسباب أخرى مشابهة، لم يعد ثمة فاصل كبير بين ما هو داخلي وما هو خارجي في السياسة التركية. مهما كان الأمر، على أية حال، لا ينبغي لأحد أن يتجاهل قدرات إردوغان الموروثة على خوض المعارك الانتخابية والارتفاع إلى مستوى التحديات.