“لم أرَ في حياتي أطفالًا مقطعين ومصابين كما رأيت في قطاع غزة، قتل عمد من قبل الجيش الإسرائيلي للأطفال بنيران قناصته…”، بهذه الكلمات وصف الطبيب اليهودي الأمريكي مارك بيرلموتر العائد من غزة، بعضًا من المشهد المأساوي داخل القطاع، مؤكدًا على فرضية الاستهداف الممنهج لقوات الاحتلال لأطفال غزة بشكل عنصري فجّ، لم تعرفه حروب الإبادة في العقود الأخيرة.
وفي حديثه لشبكة “سي بي إس” الأمريكية، أوضح الطبيب الأمريكي جرّاح العظام في ولاية كارولينا شمال أمريكا، ونائب كلية الجراحين الدولية، والذي تطوع للعمل في قطاع غزة خلال الفترة من نهاية أبريل/ نيسان إلى النصف الأول من مايو/ أيار الماضيين؛ أن لديه مستندات تثبت حالات الاستهداف المتعمّد للأطفال وارتكاب جرائم حرب بحقهم، مؤكدًا أنه شاهد بعينيه أطفالًا اُستهدفوا برصاص قناصة جيش الاحتلال حتى الموت.
ويتفق ما قاله بيرلموتر مع تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في فلسطين، والذي أشار إلى أن قوات الاحتلال تقتل حوالي 4 أطفال كل ساعة في قطاع غزة، وعليه وبحسب تلك المعادلة فإن عدد الأطفال الشهداء في القطاع خلال الـ 291 يومًا من الحرب تجاوز 27 ألف طفل.
وكان الجهاز قد أوضح في إحصاء له في 3 أبريل/ نيسان الماضي، بمناسبة يوم الطفل الفلسطيني، أن ما يزيد على 14 ألفًا و350 شهيدًا من الأطفال، يشكّلون 44% من إجمالي عدد الشهداء في قطاع غزة، قد ارتقوا خلال الـ 180 يومًا الأولى من الحرب، فيما يعيش قرابة 43 ألفًا و349 طفلًا دون والديهم أو دون أحدهما.
يشكّل الأطفال دون سن الـ 18 عامًا في غزة حوالي 1.06 مليون طفل ( 544 ألف طفل و523 ألف طفلة)، يمثلون نحو 47% من إجمالي عدد السكان في القطاع البالغ 2.1 مليون نسمة، ما يعني أن أطفال غزة يشكّلون نحو نصف القوة البشرية في القطاع، وهو معدل يحمل الكثير من القلق للداخل الإسرائيلي.
وبطبيعة الحال لم يكن استهداف تلك الأعداد من الأطفال، سواء بالقتل أو الإصابة أو الترهيب أو النزوح أو الجوع والعطش أو فقدان أي من والديهم، مسألة عشوائية دون دوافع حقيقية ومدروسة، ليبقى السؤال: ما أهداف المحتل من هذا الاستهداف؟ ولم الأطفال تحديدًا رغم تبعات ذلك على صورة الكيان الدولية؟
استهداف ممنهج
بعيدًا عن إحصائيات الضحايا من الأطفال في غزة على أيدي جيش الاحتلال، والأرقام والتقديرات الصادرة عن الجهات الرسمية، فإن هناك شهادات موثّقة لكيانات وأشخاص منخرطين في المشهد، تبرهن على حجم المأساة وترسّخ هذا الاستهداف العنصري الممنهج لأطفال غزة على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي:
– وكالة الأونروا في 23 يونيو/ حزيران 2024 قالت إن هناك تعمّدًا في إيقاع الإصابات بين الأطفال في فلسطين لا سيما غزة، لافتة أن هناك 10 أطفال على الأقل يفقدون أحد أطرافهم يوميًا في القطاع، فيما يقدَّر عدد حالات بتر الأطراف بقرابة 11 ألف حالة منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع.
– منظمة هيومين رايتس ووتش في تقرير لها في 23 يونيو/ حزيران 2024 قالت إن قوات الاحتلال تنشر صورًا وفيديوهات مهينة للفلسطينيين المحتجزين، بينهم أطفال، فيما وصفته بأنها معاملة لا إنسانية واعتداء على كرامتهم الشخصية بما يرقى إلى جريمة حرب.
التقرير أوضح أنه “في كثير من الحالات، جُرَّد المحتجزون من ملابسهم، أحيانًا بالكامل، ثم اُلتقطت لهم صور أو فيديوهات، ونشرها جنود إسرائيليون أو وسائل إعلام أو نشطاء، التعرية القسرية التي يتبعها التقاط صور ذات طابع جنسي ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي هي من أشكال العنف الجنسي وجريمة حرب أيضا”.
–المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في مارس/ آذار الماضي قال إنه وثق إعدام جيش الاحتلال لقرابة 13 طفلًا بإطلاق نار مباشر باتجاه أطفال فلسطينيين في مجمع الشفاء الطبي ومحيطه في غزة، لافتًا أن فريقه الميداني تلقى شهادات متطابقة بشأن جرائم إعدام وقتل بحق أطفال فلسطينيين تتراوح أعمارهم بين 4 سنوات و16 سنة.
المرصد أوضح أن بعض الأطفال تمّ استهدافهم أثناء محاصرة الاحتلال لهم مع عوائلهم داخل منازلهم، وآخرين خلال محاولتهم النزوح في مسارات حددها لهم الجيش الإسرائيلي مسبقًا، مبيّنًا أن الأطفال يشكّلون أكثر من ثلث الضحايا الشهداء في غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
– وثّقت الناشطة الأمريكية، ميغان وولي، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أي بعد قرابة شهر ونصف من بداية الحرب، أسماء الأطفال الذين استشهدوا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث نشرت تلك المقاطع المصورة الصغيرة على منصات تيك توك للتعريف بأسماء المستهدفين من الأطفال، وتأكيدًا على قيمة حياة كل منهم على حدة، حيث قالت في إحدى مقاطعها: “هذ هو اليوم الـ 16 من قراءة أسماء الأطفال الذين قُتلوا في غزة، تذكروا أسماء هؤلاء الأطفال دائمًا، لدينا عدد لا بأس به من العائلات”.
– استهدف الاحتلال نحو 123 عائلة في غزة، كان معظمهم من الأطفال، حيث ارتكب بحقهم جرائم إبادة جماعية، ومحا بعضهم من قوائم السجل المدني بشكل كامل أو نسبي ( 55 عائلة مُحيت بالكامل من السجل المدني باستشهاد كل أفرادها، فيما فقدت نحو 68 عائلة 5 من أفرادها على الأقل جرّاء قصف المنازل دون سابق إنذار أو استهدافهم على الطرقات خلال محاولات النزوح).
– المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، يقول عبر منشور له على منصة إكس إن عدد الأطفال الذين استشهدوا جراء الحرب المستمرة على قطاع غزة خلال الـ 4 أشهر الأولى تجاوز عددهم خلال 4 سنوات من النزاعات في جميع أنحاء العالم، مستندًا إلى أرقام الأمم المتحدة التي تظهر أن 12 ألفًا و193 طفلًا قُتلوا في نزاعات حول العالم بين عامَي 2019 و2022، وهو أقل من أرقام ضحايا أطفال غزة التي وصلت اليوم لأكثر من 27 ألفًا بحسب التقديرات.
– لم يقتصر استهداف الأطفال في فلسطين على قطاع غزة فقط، بل تجاوز ذلك إلى الضفة، حيث قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” إنه قد قُتل في الضفة ما معدّله طفل فلسطيني كل يومين منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ما يمثل زيادة بحوالي 350% مقارنة مع الفترة التي سبقتها، مؤكدة في بيان لها أن 143 طفلًا فلسطينيًا وطفلَين إسرائيليَّين لقوا حتفهم منذ التصاعد الأخير، كما أصيب أكثر من 440 طفلًا فلسطينيًا بجراح جراء ذخائر حية.
القصف-الجوع.. ثنائية الاحتلال في استهداف الأطفال
اعتمد المحتل في استهداف أطفال غزة على مسارَين أساسيَّين:
الأول: القصف العشوائي والممنهج، حيث كانت كافة الكيانات والهيئات والمؤسسات التي يتواجد بها أطفال، سواء للعلاج أو الإقامة، مثل المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، أهدافًا مشروعة لصواريخ ورصاص وقنابل جيش الاحتلال، وهو ما تسبّب في إيقاع الجزء الأكبر من الضحايا من الخدّج وحتى البالغين.
الثاني: التجويع، فمن لم يمت بالقصف مات بالجوع، تلك كانت إحدى أبرز استراتيجيات المحتل في تعامله مع الأطفال تحديدًا، ومن بعدهم النساء، حيث أسفر الحصار المفروض على القطاع منذ بداية الحرب عن معاناة 95% من سكان القطاع، أغلبهم من الأطفال، من مستويات حادّة من انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) لفترة 15 فبراير/ شباط-15 مارس/ آذار 2024، فيما توفي العشرات في مستشفيات القطاع بسبب سوء التغذية والجفاف وفق ما أفادت به وزارة الصحة.
وأظهرت فحوصات التغذية التي أجرتها منظومة اليونيسف ارتفاع معدلات سوء التغذية الحادة بين الأطفال دون سن الثانية في غزة من 16% في يناير/ كانون الثاني 2024 إلى 31% حاليًا، بزيادة قدرها 100% تقريبًا، وسط تحذيرات من كوارث إنسانية غير مسبوقة في حال استمر الحصار على هذه الشاكلة، إذ إن عشرات الآلاف من الأطفال باتوا على قوائم الموت البطيء جوعًا وعطشًا.
لماذا يستهدف المحتل الأطفال تحديدًا؟
بطبيعة الحال، لم يكن استهداف أطفال غزة على وجه الخصوص استهدافًا عشوائيًا من باب تنويع جرائم الإبادة التي يرتكبها المحتل، بل مخططًا له أهدافه ودوافعه، وإن لم يعترف جيش الاحتلال بهذا الأمر بشكل صريح وعلني، حيث يسعى لتحقيق 3 أهداف رئيسية:
أولًا: القضاء على هذا الجيل.. بلغت نسبة من استهدفهم الاحتلال منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي قرابة 2.7% من إجمالي أطفال غزة (27 ألفًا من إجمالي 1.06 مليون طفل)، هذا بخلاف محاولة استهدافه أكثر من 50 ألف امرأة حامل و68 ألف مرضع في القطاع، عن طريق التجويع وسوء التغذية وتدمير المشافي وتجفيف منابع الدواء والمستلزمات الطبية، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة.
ويسابق جيش الاحتلال الزمن لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الأطفال، الخدج والصغار والحوامل، في محاولة لكسر التفوق الفلسطيني في معدلات الخصوبة من جانب، وتوظيف هذا العدد الكبير من الضحايا في تدمير الأجيال القادمة عبر استراتيجية الترهيب والحرب النفسية من جانب آخر، متوهّمًا أنه بذلك قد ينجح في القضاء على هذا الجيل.
ثانيًا: التدمير النفسي.. ليس كل من ينجو من مقصلة القتل عبر القصف والجوع، ويُكتب له البقاء على قيد الحياة، يمكن اعتباره قد سلمَ بروحه وجسده من تلك المعركة، إذ تبنّى الاحتلال حزمة من الإجراءات والأدوات العنصرية التي يستهدف بها القضاء على من أفلتوا من القتل، من خلال تدميرهم نفسيًا وتحويل حياتهم إلى ما يشبه الجحيم حتى تتساوى لديهم مفاهيم الموت والحياة:
– حرمان الأطفال من مصدر الرعاية الأساسي لهم، الوالدان والأهل، فهناك أكثر من 43 ألف طفل تيتّموا منذ بداية الحرب بفقد والديهم أو أحدهما، وهو ما سيكون له انعكاساته السلبية على اتّزانهم وتكوينهم النفسي مستقبلًا.
– ضرب المكون النفسي للأطفال المصابين وأسرهم، لا سيما من يعانون من البتر في أي من الأطراف، أو من أُصيبوا بعاهات مستديمة، فتلك الإصابات تحتاج إلى مبالغ طائلة وأوقات طويلة للعلاج (يحتاج المبتور إلى تغيير المفصل الصناعي كل 6 أشهر حتى يصل إلى 18 عامًا)، وهو ما لا يتوفر في الظروف الراهنة، الأمر الذي يحوّل حياتهم إلى جحيم ويعمّق من المأساة والمعاناة اليومية على مدار سنوات طويلة.
– إصابة الصغار بقائمة مطوّلة من الأمراض النفسية والعصبية جرّاء مشاهد القصف والقتل والتدمير الإجرامي، وتعرّضهم لاضطرابات القلق والاكتئاب، والتغيرات النفسية المتمثلة بالانسحاب العاطفي ونوبات الغضب والسلوك العدواني الذي يُحاكي إلى حدٍّ ما العنف أو الأذى الذي يختبره الطفل، هذا بجانب احتمالية التعرض لصدمات نفسية شديدة بسبب الضغط النفسي المستمر، فيما تشير المعطيات إلى أن هناك أكثر من 816 ألف طفل في قطاع غزة بحاجة إلى مساعدة نفسية من آثار الجرائم الإسرائيلية على القطاع خلال السنوات الماضية، وتضاعف هذا الرقم بلا شكّ بعد الحرب الأخيرة على غزة.
– قتل مقومات الحياة في القطاع، حيث تعمّد الاحتلال استهداف كافة الموارد التي من شأنها منح أطفال غزة الأمل في الاستمرار والحياة بطبيعية، فبجانب التجويع والقصف والتدمير النفسي جرّاء جرائم الإبادة المرتكبة، قضى الكيان العنصري على أمل الأطفال في التعليم، فاستهدف المدارس والجامعات، وتعطّلت العملية التعليمية وأصيبت بحالة من الشلل والجمود التام، حيث تم حرمان أكثر من 620 ألف طالب وطالبة في قطاع غزة من حقهم في التعليم المدرسي، وقد بلغ عدد الشهداء من الطلبة في غزة 5 آلاف و900 شهيد، و9 آلاف و800 جريح.
ثالثًا: فقدان الأمل.. يهدف الاحتلال عبر ثنائية القتل الممنهج من جانب، والتدمير النفسي لمن بقيَ من الأطفال، سواء المصابين أو من نجوا بأنفسهم من الإصابة ومعهم أسرهم وعوائلهم، من جانب آخر، إلى إصابة الجميع باليأس وفقدان الأمل، وهو المرض الذي قد يمهّد الطريق نحو الهدف الإسرائيلي الأسمى، وهو النزوح من القطاع والفرار بما تبقى من مقومات الحياة، وتسليم الراية والكفر بالمقاومة والقضية الفلسطينية بأكملها.
ووضع الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب هدفًا مباشرًا يقضي بإجبار الفلسطينيين على النزوح، عبر آلة القصف العشوائية، كخطوة أولى نحو تفريغ القطاع من سكانه، بما يمهّد للسيطرة الإسرائيلية عليه ومحو شوكة غزة المقاوِمة من الحلق الإسرائيلي، وهو الهدف المنشود من الجميع في الداخل الإسرائيلي، حتى من بعض المستعربين الموالين للدولة الصهيونية.
لكن المفاجأة كانت في الصمود الفلسطيني، المقاومة وسكان غزة، إذ نجحوا في وأد هذا المخطط بتمسّكهم بالأرض والعرض، ورفض كل محاولات الضغط للتهجير القسري، وهو ما دفع بالاحتلال إلى اللعب بالورقة الأكثر صعوبة وقسوة، ورقة الأطفال واستهدافهم الممنهج، على وهم أن يقود ذلك نحو دفع العائلات للنزوح حماية لأطفالهم وهربًا من ويلات الجحيم التي يعايشونها على مدار الساعة طيلة الأشهر العشرة الماضية.
وبينما يراهن الكيان المحتل على عامل الوقت في تنفيذ مخططه العنصري القذر، إذ به يُصدَم بهذا الثبات الأسطوري من أمّهات غزة، ممّن يزففن أطفالهن للشهادة بالزغاريد، معلنات تمسكهن بالأرض وإجهاض مخطط التهجير، مصمّمات على إما البقاء حتى التحرير وإما مرافقة من رحل من فلذات أكبادهن.