تحت مسننات جرافات الاحتلال ومدرعاته وآلياته العسكرية، أو حتى ما بين طلقات رصاصه وقذائف مدافعه، يتشبث الفلسطينيون بملامح حياةٍ عادية؛ بمسيرة تعليمية متقطعة بين سجنٍ واغتيال واجتياحٍ وتدمير، وبأفراحٍ تمر على عُجالة بين زحام الموت، وبميلادٍ حزين لطفلٍ آخر قد يأتي حاملًا اسم والده الشهيد أو بانتظار وجه والده المطارد، وبموتٍ مباغت لا يكتمل نواحه وبكاؤه وصراخه في انتظار موتٍ آخر.
خلف زاوية هذه المحطات يختبئ الاحتلال منتظرًا مقاومًا أو مطاردًا يميل عن سلاحه هُنيهة ليحتضن أمًا مكلومة أو يُزف إلى عروس أو يطل من خلف لثامه ليرى وليده، لتكون هذه المحطة هي نهاية مسيرة عمرٍ بأكمله اقتنص بها الاحتلال لحظة الفلسطيني الكاشفة لحياته كإنسانٍ قبل أن يكون مقاومًا لينهي حياته.
يقول مُريد البرغوثي في مخطوطه “ولدت هنا ولدت هناك”: “من أقسى جرائم الاحتلال تشويه المسافة في حياة الفرد، نعم الاحتلال يغير المسافات، يخربها، يخل بها، يعبث بها على هواه. كلما قتل الجنود إنسانًا اختلت المسافة المعهودة بين لحظة الميلاد ولحظة الموت”، يختصر البرغوثي حياة الفلسطيني بين الميلاد والحياة، لكن فيها أوجه أخرى يختصرها الاحتلال محاولًا إرغام الفلسطينيين على التخلي عنها.
لماذا يخاف الفلسطينيون من الفرح؟
تمثل الأعراس تحديًا مختلفًا للفلسطينيين لارتباطها باختلاف أماكن سكُناهم، أو بأوضاع أبنائهم وبناتهم، أو بالوضع الأمني العام الذي يفرضه الاحتلال عليها، وما بين هذا وذاك تظل “اليد على القلب” حتى يمر اليوم السعيد بخير.
لكنه في كثيرٍ من الأحيان لا يمر، وهو ما جرى مع المقدسي عبد الفتاح الفاخوري الذي اعتقله الاحتلال فجر يوم زفافه، بعد اعتقال الفرقة الفنية والمصور ومساعد المصور من حفلة “الجاهة” التي خضعت لمراقبة وتصوير شرطة الاحتلال، محولًا إياهم للتحقيق لساعاتٍ طوال بحجة “التحريض”، ما اضطره إلى تأجيل غداء العرس والزفاف، وحول فرحة العمر إلى يومٍ لا يُنسى من التلاعب في أعصاب العائلة حتى إفشال الزفاف.
والدة الأسير محمد البكري تعرض بدلة عرسه وبطاقة دعوة زفافه الذي تقرر موعده غداً لكن الاحتلال اعتقله وحدد موعد محاكمته في نفس اليوم#الجزيرة #ألبوم pic.twitter.com/Fj8IMfieQ1
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) October 4, 2023
ومع محمد البكري الذي اعتقل أيضًا قبيل ساعاتٍ من عرسه وحول للاعتقال الإداري رغم الإفراج عنه مؤخرًا من سجنٍ استمر لسبع سنواتٍ عجاف، حيث اقتحم جهاز مخابرات الاحتلال منزله بينما كان يجهز نفسه لجلسة تصويرٍ مع عروسه، ليبلغه باحتجازٍ لمدة ساعتين مُددتا حتى موعد العرس، ما تسبب بإلغائه مع جميع تجهيزات العرس من حلوى ودعوات وسفر وتوزيعات.
يتشابه الحال مع بكر خريوش من مدينة طولكرم الذي اعتقله الاحتلال فجر يوم عرسه ليؤجل للمرة الثانية، بعدما كان قد أُجل قبل عامين نتيجة اعتقاله المفاجئ على يد الاحتلال، وفيما كانت عائلته تنتظر الصباح لزفه مع الأهل والأحبة لحمام العريس، تقاطر المدعون لمشاركة العائلة أمنيات الفرج القريب بدل التهاني والتبريكات.
الاعتقال المتجدد يتكرر مع الأسير صلاح حسين الذي انتظرت عائلته أمام حاجز الظاهرية رؤية وجهه حُرًا بعد 15 عامًا من الاعتقال، فيما كانت استعداداتها تتواصل لعرسه المؤجل، لكن الاحتلال أعاد تدوير المرارة باعتقاله مجددًا في طريقه للخروج، لتتأجل فرحة عائلته حتى إشعارٍ آخر.
ينضم لقائمة تنغيصات الاحتلال العشرات من الشباب الفلسطينيين، بعضهم لسببٍ لا مكان له في قائمة الاتهامات، كاعتقال العريس طارق سلامة ووالده زياد سلامة بعد الزفة وقبل العرس بذريعة ترديد الأغاني الوطنية، بينما هدف اعتقال الشاب نور الدين حمادة للإمعان في التنكيل بعائلته التي استعدت لأول فرحتها في غياب رب العائلة المعتقل في سجون الاحتلال منذ 16 عامًا والمحكوم بالسجن المؤبد لـ12 مرة.
حيث تحدث قريب العريس عن ألم إلغاء جميع مظاهر الفرح من الفرقة الشعبية المخصصة لإحياء حفلة السهرة والقاعة والغداء وعن الاتصال بالمدعوين لإخبارهم بإلغاء الفرح، فيما يكبر القهر بالقلوب في كل مرة تجيب فيها العائلة عن سبب الإلغاء: “اعتقال العريس”.
والحقيقة أن اقتناص الفرحة لم يقتصر على استهداف العريس، بل إنه تعداه أحيانًا لاقتحام الزفاف وتخريب “فاردة العرس” واعتقال العروس بكامل بهائها واقتيادها لمركز الاعتقال بهدف التحقيق معها عن العريس الغائب، واتهامها بإخفاء معلوماتٍ عنه لتطلق سراحها بعد ساعات، أو لاقتحام قاعة الزفاف وإثارة الرعب والفزع في قلوب الحاضرين حتى تفرقوا مذعورين دون سببٍ واضح، كما فعلت حين اقتحمت قاعة زفاف في بلدة الرام، أو في اعتقالها العريس والفرقة الموسيقية والمصور والمدعوين وتحويلهم للتحقيق، كما في عرس الشاب رامي الفاخوي الذي اعتقله الاحتلال مع المنشد والفرقة الموسيقية والمصور و24 من المدعوين، وخضعوا للتنكيل نتيجة مشاركتهم في عرسٍ وطني.
الفرح حين ينقلب ترحًا
مهما قيل عن سعي الاحتلال لحرمان الفلسطينيين من الفرحة باعتقالٍ أو اقتحامٍ أو تنكيلٍ أو تحقيق، يبقى ذلك باهتًا جدًا أمام نسجه شباك المطاردة لملاحقة الفلسطينيين وقتلهم في أعراسهم، فلا يمكن أن يُمحى من ذاكرة عائلة فراج مهاجمة قوة خاصة إسرائيلية قاعة الأفراح خلال حفل زفاف ابنتهم، ليفاجأ المدعوون بمطاردة حامية الوطيس بين القوة الإسرائيلية وشقيق العروس، آدم فراج.
الإعلام الإسرائيلي الذي وصف المطاردة بالدرامية، تحدث عن دخولٍ مموه لقاعة الزفاف، مدعومًا بمعلومات استخباراتية تؤكد حضور المطارد بل وتصف ملابسه، وانقضاضٍ لحظة تقديم البوفيه، حيث حوصر الحضور وطُلب من المطارد آدم فراج أن يُسلم نفسه ليرفع مسدسه وينسحب إلى السطح، فيما كان الاحتلال قد نصب له كمينًا آخر، وما بين نارٍ وأخرى وعلى مدى ساعتين ونصف استطاع الاحتلال قتل المطارد بـ4 رصاصات قاتلة.
يدرك المطارد من الاحتلال أن اللحظات الإنسانية بإمكانها أن تصيبه في مقتل، وأنها الخطأ الذي يبحث عنه الاحتلال لاكتشاف مكان المطارد والمقاوم
لتنتهي فرحة الزفاف المبتورة أصلًا بغياب والد العروس، إثر استشهاده قبل 15 عامًا خلال انتفاضة الأقصى، ويتحول يوم العرس الذي وعد فيه آدم شقيقته الأثيرة لديه بأنه لن يغيب عنها، نهايةً لوجوده.
مصيدة الزفاف كانت وسيلة استخدمها الاحتلال لاعتقال مطاردين فلسطينيين سابقًا، حيث تذكر عائلة “رمزي براش” من مدينة رام الله، اقتحام قوات الاحتلال لحفل زفافه في يونيو/حزيران 2003، حين كان عمره 23 عامًا، حيث حاصرت قوات الاحتلال قاعة الزفاف وبدأت في تفتيش الحضور الذين تخفى رمزي بينهم بعدما خلع بدلة عرسه، لكن المخابرات الإسرائيلية استطاعت التعرف عليه واعتقاله.
وفيما انفصل رمزي عن عروسه “لتجد نصيبها في مكانٍ آخر”، بقي معتقلًا في سجون الاحتلال حتى اللحظة محكومًا بالمؤبد الذي يقضيه منذ 18 عامًا.
المسافة المختصرة ما بين الميلاد والموت
يدرك المطارد من الاحتلال أن اللحظات الإنسانية بإمكانها أن تصيبه في مقتل، وأنها الخطأ الذي يبحث عنه الاحتلال لاكتشاف مكان المطارد والمقاوم، إنها ببساطة اللحظة التي يخلع فيها الفلسطيني عباءة حرصه ويتحلل من حساسيته الأمنية، مستعيضًا عنها بدفء اللحظة الإنسانية، لحظة ولادة طفله، لحظة لقائه بأمه أو سماع صوت والده، أو إحاطة المعزين به في جللٍ أو ترح، لكنها إذ ذاك تكون الهاوية.
كان الاحتلال يعلم أن إلحاح الحنين سيظل يُلاحق يحيى عياش ليظهر إما في لحظة لقاءٍ بطفله الوليد أو في لحظة لقاء بوالده، فداهم بيته مراره وتكرارًا وتتبع حركة زوجته وأمه وأبيه، وحين أضحت حاجة يحيى ماسة للتواصل مع والده وضع الهاتف المحمول فخًا في طريقه، فارتقى يحيى بعد لحظاتٍ من قوله “كيف حالك؟” محاولًا أن ينقل لوالده نبأ ولادة طفله الثاني الذي أراد تسميته “عبد اللطيف” تيمنًا بجده، فسُمي يحيى تيمنًا بأبيه الشهيد.
تروي عائلة الشهيد مروان القواسمي أن الرصد والملاحقة لابنها المطارد كانت في أشدها خلال وجودها في المشفى بانتظار ولادة طفلته البكر، حيث كان الاحتلال وأعوانه يراهنون أن يأتي مروان لإلقاء نظرة على مولودته “راية”، ليستشهد بعد ميلادها بعشرة أيام.
وفيما تحفل قصص الفلسطينيين بذكريات غيابهم عن مولد أطفالهم فيما يحتجزهم الاحتلال في الأسر، يرسخ الاحتلال وجوده لحظة الميلاد باعتقال الفلسطينيات الحوامل وحرمانهن من ولادة طبيعية آمنة لتُسجل أكثر من 10 حالات لولادة أطفالٍ لأمهاتٍ أسيرات، خرج أطفالهن للحياة وهن مقيدات وحيدات في غرفٍ باردة تتناوب عليهن السجانات بالضرب والإهانة، فيما يغيب الزوج والأهل والعائلة عن مشاركة الفرح أو تخفيف الألم.
أما الموت فهو أكثر اختصارًا بتجلياته، فمن جنائز الشهداء التي اعتبرت المصائد الأولى لعيون الاحتلال وجواسيسه لاقتناص المقاومين، إلى بيوت العزاء التي لم يُترك فيها الموت لراحته وصمته الأبدي، ويبدو بشكلٍ جازم أن نسبة اعتقال أو اغتيال مطاردي الضفة الغربية تزداد بتسارع إبان مشاركتهم في جنازات رفاقهم.
يظهر ذلك نتيجة انكشافهم وسرعة تتبعهم بشريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا، وقد عرف التاريخ الفلسطيني الحديث استشهاد كُلٍ من أيسر عامر، وإبراهيم النابلسي، ورأفت أبو عقل، وبهاء لحلوح، وقسام أبو سرية، بعد مشاركة كلٍ منهم في حمل رفاقه وتوديعهم، والوعد بالانتقام لهم والمواصلة على دربهم.
أما بيوت العزاء وحرمتها، فتلك ميزة إسرائيلية يُلاحق فيها الشهيد بعد أن يلفظ أنفاسه، ويُطلق فيها الرصاص وقنابل الصوت والغاز السام في وجه المعزين، وتُكسر الكراسي واللوحات والصور ويُغلق العزاء ليُمنع أهل الشهيد من أي مشاركة مجتمعية لألمهم.
لكن الهجمة الإسرائيلية تغدو أكثر “استخباراتية” حين يُداهم الاحتلال بيوت العزاء بحثًا عن مطاردين، كما فعل حين اقتحم بيوت عزاءٍ في القدس خلال 2022، أو تنفيذًا لعمليات اعتقالٍ في أخرى، كما فعل حين داهم بيت عزاء الشهيد الطفل خالد الزعانين في بلدة بيت حنينا شمال القدس المحتلة، واعتقل الشاب أسامة عمرو من داخل بيت العزاء.
وما بين عزاءٍ وميلاد، وفرح وترح يحاول الفلسطينيون ما استطاعوا تلوين حياتهم بغير السواد، ويمنحونها شيئًا من الطبيعية ولو بشكلٍ مصطنع وبكثيرٍ من الخوف والترقب، لكنهم رغم ذلك يعرفون أن الآخر يترصد لهم في لحظات بهجتهم ودموع مقلهم لضربهم في الخاصرة، وإن كان درويش قد قال يومًا “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، فإنه لم يقل أن الفلسطينيين يصنعون الحياة من الألم وأن محتلهم يرى في حياتهم ما يستحق الترصد والانقضاض.