من قرية نجريج ببسيون بجوار مدينة طنطا عاصمة دلتا مصر انطلق حلم لطفل صغير يداعب الكرة بقدمه اليسرى في أن يصبح يومًا لاعبًا لكرة القدم يشار إليه بالبنان، ومن دوري بيبسي للمدارس إلى مقاولون طنطا ثم ناشئ المقاولون العرب بدأ الحلم يترعرع رويدًا رويدًا.
كانت البداية في مباراة ضد عملاق القاهرة الأهلي المصري في نهايات عام 2010 لتصل الكرة إلى ناشئ المقاولون ذي الثمانية عشر عامًا ليسدد بقدمه اليسرى محرزًا هدف التقدم لفريقه على المارد الأحمر؛ ليسمع مشاهدو الكرة في مصر لأول مرة اسم محمد صلاح، ولكنه اسمًا عاديًا يحمله الكثير من المصريين، فلا يعلق بالآذان كثيرًا حتى بدأت منافسات كأس العالم للشباب 2011 لتبرز بعض الأسماء الشابة في ذلك الوقت وتحتل عقول جماهير الكرة في مصر لبضعة أيام مثل أحمد الشناوي وأحمد حجازي وعمر جابر ومحمد النني ومحمد إبراهيم ومحمد صلاح.
محمد صلاح في دوري بيبسي للمدارس
لتضع تلك الأسماء أقدامها في الدوري المحلي وأوليمبياد لندن في العام ذاته، ولكن الكشافين في سويسرا وتحديدًا في بازل اتجهت أعينهم إلى ذلك الفتى النحيل ذي القدم اليسرى محمد صلاح، ورغم اندهاش الكثير من المصريين من اختيارهم له ليحترف بين صفوفهم، فإنه في العام الأول أثبت أنه لاعب من طراز فريد وحصد جائزة الأفضل في سويسرا مع أهداف لا تنسى في العملاق بيتر تشيك.
في العام ذاته التقى صلاح بالأسطورة الحية أبو تريكة في الملعب لأول مرة في أوليمبياد لندن ثم في المنتخب الوطني في تصفيات كأس العالم 2014 ليشكلا معًا ثنائيًا خطيرًا جدًا للأسف لم يدم سوى عام واحد .
في بداية عام 2015 تأتي الخطوة الفاصلة في تاريخ محمد صلاح وانتقاله إلى فيورنتينا الإيطالي على سبيل الإعارة
بدأت بعدها الأحاديث عن انتقال صلاح إلى ليڤربول وسط عدم تصديق كبير من المصريين ولسان حالهم يقول أيمكن لأحدنا أن يلعب في أحد فرق القمة في إنجلترا، ثم تأتي محادثة هاتفية من السبيشيال ون جوزيه مورينيو تحول طريق صلاح من الأنفيلد إلى ستامفورد بريدج معقل تشيلسي.
بدأ صلاح مشواره مع تشيلسي بهدف في أرسنال بعد نزوله للملعب مباشرة، ولكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، فمن مباراة للأخرى وموسم ينتهي إلى موسم يبدأ لا يشارك صلاح إلا لدقائق معدودة ويبدو على مورينيو عدم اقتناعه بقدرات صلاح.
في بداية عام 2015 تأتي الخطوة الفاصلة في تاريخ محمد صلاح وانتقاله إلى فيورينتينا الإيطالي على سبيل الإعارة ليبدأ مشواره بهدفين في مرمى يوفنتوس وتشهد تلك الفترة توهجًا غير عادي للاعب المصري مما يدفع العملاق الإيطالي روما للتعاقد معه ليصبح أحد زملاء توتي في الأوليمبيكو ويقدم موسمين جيدين جدًا بالنسبة للاعب مصري في الدوريات الأوروبية الكبيرة مسجلاً 34 هدفًا.
ليتجدد الحلم المؤجل منذ ثلاثة أعوام بالانتقال إلى ليڤربول وسط تشكيك الجميع من مصريين وإنجليز ومتابعي الكرة في قدرة محمد صلاح على تقديم ما فعله في إيطاليا مرة أخرى في البريميير ليج ووسط استنكار الكثير من مشجعي ليڤربول.
صورة لمحمد صلاح على إنستجرام وقت انتقاده في تشيلسي
شخص واحد فقط آمن بقدرة محمد صلاح وهو محمد صلاح نفسه الذي قبل التحدي وانتقل إلى ليڤربول بصفقة قدرها 42 مليون يورو.
هنا يجب التوقف عن الكلام فالصمت في حرم الجمال جمال
فما فعله صلاح ولا يزال يفعله في إنجلترا فاق حد الإعجاز ليس بالنسبة لنا كمصريين فحسب بل لمتابعي الكرة في العالم كله؛ فخلال موسم واحد في إنجلترا مع ليڤربول حطم صلاح الكثير من الأرقام القياسية الصامدة أعوامًا طويلة سواء بالنسبة للنادي أو في الدوري الإنجليزي أو اللاعبين الأفارقة في إنجلترا، متوجًا نفسه ملكًا على ملاعب إنجلترا وأجبر الجميع على ذكر اسمه دائمًا مقترنًا بالأسطورتين ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو وفي كثير من الأحيان متفوقًا عليهما.
ولكن يبقى سؤال.. لماذا وصل صلاح إلى هذا المستوى؟ وكيف أصبح من أهم لاعبي العالم؟
للإجابة عن السؤال يجب استعراض بعض الصعوبات التي واجهت محمد صلاح خلال مشواره:
طفل صغير من قرية تبعد عن طنطا نحو 25 كيلومترًا يسافر إليها يوميًا ذهابًا وعودة ليلعب في إستاد طنطا مع فريق مقاولون طنطا ليتم اختياره ليلعب مع المقاولون العرب في القاهرة، فتزيد مسافة السفر 90 كيلومترًا ذهابًا وعودة يوميًا مع زيادة تكاليف وأعباء السفر لأسرة فقيرة وارتياد خمس وسائل للمواصلات للوصول من بيته إلى النادي .
مواقف مثل هذه قد تجبر أي لاعب كرة في بداية مشواره خاصة لو كان مصريًا بالاقتناع بما وصل إليه واللعب في فرق الوسط
ظروف مثل هذه تجبر أي طفل صغير على ترك حلمه جانبًا والاستمتاع بطفولته واللعب مع الأصدقاء وتجبر أي أسرة على تجنب أعباءً مادية لتحقيق حلم لطفل قد يكون أو لا يكون.
رفض ممدوح عباس رئيس الزمالك في يوم من الأيام ضم محمد صلاح للقلعة البيضاء بحجة أنه لا يصلح، ففي مصر يعد اللعب لأحد القطبين أحد أحلام لاعبي الأقاليم أو الأندية الأخرى، ورفض انضمام لاعب لأحدهما بحجة أنه لا يصلح قد يكسر عزمه ويحبط إلى حد كبير أحلامه.
خروج محمد صلاح من تشيلسي من الباب الصغير وعدم اقتناع جوزيه مورينيو بقدراته في الدوري الإنجليزي بل ومبادلته بلاعب آخر مثل كوادرادو في مركزه.
موقف مثل هذا قد يجبر أي لاعب كرة في بداية مشواره خاصة لو كان مصريًا بالاقتناع بما وصل إليه واللعب في فرق الوسط .
كل هذه الصعوبات قادرة على نسف جبل كامل من الأحلام، ولكن لأن القدر له الكلمة الأخيرة ولأن الله وهب محمد صلاح إرادة حديدية استطاع اللاعب المصري تجاوز الصعوبات والعقبات واحدة تلو الأخرى حتى اعتلى عرش ملاعب إنجلترا.
محمد صلاح صغيرًا وبعد فوزه بجائزة أفضل لاعب في إنجلترا
بعض المحطات الفارقة في تكوين شخصية أفضل لاعب في الدورى الإنجليزي لموسم 2018/2017
– السفر يوميًا إلى القاهرة جعله مسؤولاً عن نفسه إلى حد كبير وجعله يتعايش مع غربة صغيرة مهدت الطريق للتعايش مع الغربة الطويلة فيما بعد، وهذا السبب تحديدًا من أكبر الأسباب التي تضيع أحلام الكثير من اللاعبين المصريين وتجبر بعضهم على العودة بعد الاحتراف.
– انتقاله إلى فيورنتينا أحد أندية الوسط بعد خروجه المحبط من تشيلسي ساهم في تحرر محمد صلاح من الضغوط التي واجهها في إنجلترا وساهم في تألقه ولفت الأنظار إليه.
– انتقاد سباليتي مدرب روما الدائم لمحمد صلاح كلما حانت له الفرصة؛ ففي أكتوبر 2016 بعد مباراة إنتر ميلان انتقد سباليتي صلاح ووصفه بأنه لا يستطيع إنهاء الهجمات بشكل جيد كما أنه ضعيف دفاعيًا وكان يجب استبداله، وفي مباراة أخرى في بدايات 2016 بعد خسارة روما أمام فيورينتينا وصفه بالضعيف وأداؤه محبط، وبعد الخروج الأوروبي في مارس 2017 وصف أداءه بالمخيب للآمال وبإمكانه تقديم الأفضل.
أهم العوامل التي شكلت شخصية صلاح في آخر عامين تحمله مسؤولية المنتخب المصري
كل هذه الانتقادات حولها صلاح لدوافع له ليصبح أكثر شراسة على المرمى ليصبح بعد عام واحد فقط هداف أوروبا ومنافسًا قويًا على الحذاء الذهبي.
– انتقاله لليڤربول في وجود يورجن كلوب الذي أعطاه الحرية الكاملة للإبداع في الملعب وعدم تقييده بواجبات دفاعية أو انتقاده إذا قدم مباراة سيئة.
– أهم العوامل التي شكلت شخصية صلاح في آخر عامين تحمله مسؤولية المنتخب المصري من بداية تصفيات كأس العالم 2018 مرورًا بمنافسات كأس الأمم الإفريقية في بدايات 2017 ثم قيادة المنتخب للصعود للمونديال.
تلك الضغوط والمسؤولية الملقاة على عاتقه من 100 مليون مصري جعلت من محمد صلاح قائدًا كبيرًا ولاعبًا ذا خبرات سابقة لعمره في وقت لم يكمل فيه عامه الـ26.
عوامل تكوين شعبية محمد صلاح في مصر وإنجلترا
أول عوامل تكوين شعبية صلاح في العالم وإنجلترا مهاراته وتحقيقه للأرقام القياسية واحدًا تلو الآخر وظهوره الدائم كالمنقذ في الأوقات الصعبة ثم مواقفه الإنسانية وتعامله بتلقائية مع الكبار والصغار في إنجلترا كما حدث عند إعطاء قميصه لأحد المشجعين الصغار بعد أن طلبها منه بعد مباراة لليڤربول.
ثم تعامله مع الطفل أوسكار الذي طلبت والدته من محمد صلاح زيارة طفلها، ثم أخيرًا موقفه من الطفل المريض بأحد الأمراض الجلدية النادرة وزيارته له مع بعض اللاعبين وكان الوحيد الذي يسلم عليه ويلامسه.
مواقف مختلفة لإنسانية محمد صلاح
أما في مصر فشعبية صلاح تعود للكثير جدًا منها
– كانت البداية في هروبه من مصافحة لاعبي الكيان الصهيوني في إحدى مباريات فريقه بازل الأوروبية في فلسطين المحتلة.
– عادة المصريين في البحث عن بطل لكي تدور الكرة المصرية في فلكه، فبعد حسن شحاتة فالخطيب فحسام حسن ثم حازم إمام وأخيرًا أبو تريكة كان لا بد من البحث عن نجم نتغنى به وكانت ضالتنا في محمد صلاح.
– مواقفه الإنسانية الكثيرة التي لا تعد مع أبناء قريته.
– أحد أهم عوامل شعبية صلاح في مصر عدم خروجه من عباءة الأهلي والزمالك، فعدم لعبه لأي من الفريقين جعله ملكًا للجميع وليس حكرًا على مشجعي نادي بعينه.
– أما أهم ما صنع شعبية صلاح هو تعاطف المصريين الدائم مع قصص النجاح والكفاح وما فعله محمد صلاح هو سطور واقعية لرواية جميلة لبطل مكافح مجتهد والأهم أن صلاح جعل الكثير من المصريين يؤمنون بأنفسهم أنهم يستطيعون وبإمكانهم تحقيق أحلامهم بالاجتهاد والالتزام.
فالمصريون بطبعهم يسخرون من أنفسهم ودائمو التقليل من شأنهم ويتفننون دائمًا في إحباط أي محاولة للحلم، ولكن وجود صلاح وسط الكبار جعل المصريون يتساءلون إذا كان بإمكان أحدهم أن يصبح وسط الآخرين الكبار فلماذا لا يستطيع الباقون.
المقاهي المصرية تمتلئ لمشاهدة مباريات ليفربول
ويكفي أن ترى الآن كيف غيّر صلاح من ثقافة الكرة في مصر ويكفيك أن ترى المقاهي المصرية وقت مباريات ليڤربول وكيف أصبح سائق التاكسي العادي والعامل البسيط يعرف أسماء لاعبي الدوري الإنجليزي وترتيب الفرق والهدافين .
صلاح صانع السعادة الجديد
أخيرًا وبعيدًا عن مزايدات الكثير ومحاولة التقليل من أهمية ما فعله محمد صلاح والحديث عن كون كرة القدم مجرد لعبة ولا يعون أنها أصبحت صناعة واقتصاد قائم بحد ذاته ويكفي قراءة سريعة لموارد الأندية الكبرى مثل ريال مدريد ومانشستر يونايتد وغيرهم لمعرفة أن الكرة لم تصبح مجرد لعبة وأنها لا تقل عن أي صناعة يمكن إدارتها جيدًا لتحقيق الموارد سواء لكيانات فردية مثل النوادى أم دولة بأكملها.
بعيدًا عن كل هذا فمحمد صلاح أصبح مصدر سعادة كبيرة للمصريين واستراحة قصيرة جميلة من ضغوط الحياة في مصر.
صلاح صانع السعادة الجديد في مصر
محمد صلاح حول حلمًا جميلاً إلى واقع يحياه ويعيشه معه ملايين المصريين، ولكن يبقى أصعب خطوات صلاح وأخطر مواسمه هو الموسم القادم حيث ينتظر منه مئات الملايين من مشجعي الكرة حول العالم تقديم موسم على الأقل مساويًا لهذا الموسم التاريخي وفي حالة تحقيق ذلك فسيصبح صلاح بالتأكيد أحد المرشحين للكرة الذهبية في نهايات العام.