في إحدى الغرف الدبلوماسية في العاصمة الصينية بكين، اجتمع ممثلو 14 فصيلًا فلسطينيًا، من بينهم قادة من حركتَي التحرير الوطني “فتح” والمقاومة الإسلامية “حماس“، وبحضور وزير الخارجية الصيني وانغ يي، لبحث المصالحة الفلسطينية لـ”المرة المليون” كما يحب الفلسطيني أن يصف هذه المسرحية خاوية المعاني كل مرة.
اتفقت الفصائل، أو بكلمات أخرى أعادت الاتفاق من جديد على البنود ذاتها التي اتفقت عليها في مكة عام 2007 والقاهرة في عامَي 2009 و2011، والدوحة عام 2012، والشاطئ عام 2014، ثم القاهرة مرة أخرى عام 2017، فالجزائر عام 2022، واتفقت على عنوان أساسي عريض: المصالحة الوطنية.
تمخّض عن الاجتماع بيان نصَّ على “تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة بتوافق الفصائل الفلسطينية، وبقرار من الرئيس بناء على القانون الأساسي الفلسطيني، على أن تبدأ بتوحيد المؤسسات الفلسطينية كافة في أراضي الدولة الفلسطينية، والمباشرة في إعادة إعمار قطاع غزة، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة بإشراف لجنة الانتخابات المركزية بأسرع وقت وفقًا لقانون الانتخابات المعتمد“.
وجاءت في الاتفاق ضرورة التركيز على توحيد الجهود الوطنية لمواجهة العدوان الصهيوني، ووقف حرب الإبادة الجماعية التي تنفّذها دولة الاحتلال وقطعان المستوطنين بدعم ومشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، ومقاومة محاولات تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ولإجبار الكيان الصهيوني على إنهاء احتلاله لقطاع غزة وسائر الأراضي المحتلة، والتمسّك بوحدة الأراضي الفلسطينية بما يشمل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
خطان متوازيان لا يلتقيان
ككُلّ مرة، لم يأتِ البيان الختامي بآلية التنفيذ والأدوات والمدة الزمنية لها، بل ترك الأمر مفتوحًا لسنوات من المفاوضات، والسؤال الذي يظلّ مطروحًا أن كلا الطرفين الأساسيين –فتح وحماس– لم تغيير رؤيتهما السياسية والاستراتيجية والنضالية خلال 17 عامًا من الانقسام، فلا حماس تركت سلاح المقاومة وتعاونت مع “إسرائيل”، ولا فتح والسلطة الفلسطينية حملت سلاح المقاومة وتوقفت عن التنسيق مع الاحتلال. فإذا لم تتغير المنطلقات التي كانت سبب الانقسام، ما الذي سيدفع إلى المصالحة؟
فقبل يومَين فقط من الإدلاء باتفاق بكين، كشف جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك” عن اعتقاله خلية في مدينة أريحا شمالي الضفة الغربية خططت لتنفيذ عمليات أسر لإسرائيليين، بفعل معلومات قدّمتها الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية، وفق ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” العبرية.
وذات يوم اللقاء وصدور البيان من شرق آسيا، شنّ الاحتلال اقتحامًا واسعًا لمدينة طولكرم شمال الضفة المحتلة، أسفرت عن ارتقاء 5 فلسطينيين على الأقل، منهم قائد كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في مخيم طولكرم، وقائد كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، والذي حلّته السلطة الفلسطينية وتبرّأت منه فتح.
وبعد إعلان اغتيالهما، خرج الاحتلال الإسرائيلي ببيانٍ مدافع عن السلطة الفلسطينية، ليؤكد أن كتائب شهداء الأقصى في طولكرم لا تتبع للسلطة الفلسطينية وغير منتمية إليها، إنما يتم تمويلها ودعمها من إيران.
وفي الوقت ذاته الذي كانت الصحافة تبحث عمّا وراء خبر اتفاق بكين وانعكاسه على أجواء المقاومة في الضفة، صادر الاحتلال صواريخ من طولكرم. وبحسب قناة “كان” العبرية، فإن مصادر بالأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية قالت للاحتلال إن حركة الجهاد الإسلامي حاولت لأول مرة إطلاق صواريخ من طولكرم تجاه المستوطنات القريبة منها قبل عدة أيام.
منظمة التحرير الفلسطينية: مقاومة أم إرهاب؟
في جميع الاتفاقيات، من مكة فالقاهرة فالدوحة إلى الجزائر ثم بكين، كانت إحدى النقط الأساسية التي تطالب فيها حركة فتح حركة حماس بالانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية واتفاقياتها، وهي التي رفضتها فصائل المقاومة حيث ينضوي تحت هذا الانضمام الاعتراف بـ”إسرائيل” كدولة لها أحقية الوجود على الأراضي المحتلة عام 1967، وبإدانة المقاومة واعتبارها إرهابًا.
هذه كانت نقطة الخلاف الأساسية بين حماس وفتح إبّان الانقسام الفلسطيني عام 2007: نحمل السلاح ضد المحتل أم نمدّ يدنا للسلام معه؟ نعترف فيه أم نطرده من أرضنا؟ و”الانقلاب الأسود” في مفهوم السلطة والحسم العسكري في مفهوم حماس هو خروج السلطة الفلسطينية من قطاع غزة، بعد أن قتلت من المقاومين ما قتلتهم، فخرج أبو عبيدة الناطق العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وتهديده السلطة علنًا ومن خلفه فصائل المقاومة، كما خرجت السلطة وأجنداتها لمنع المقاومة في غزة عبر نصب حواجز الاحتلال في الضفة الغربية.
ورغم مضي 31 عامًا على التغير في نهج حركة فتح من حركة نضالية إلى سلطة فلسطينية مع توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، إلا أن “طوفان الأقصى” جاء ليعرّي هذه الحقيقة بشكل أوضح ممّا قبل.
في الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى” اكتفت السلطة بإدانة استهداف المدنيين من “الجانبَين“، ومررت قرار اجتماع جامعة الدول العربية الذي عُقد في أعقاب السابع من أكتوبر، والذي أدان استهداف المدنيين من الجانبَين، فيما تحفّظت دول عربية عليه رفضت وضع الجلاد والضحية في الكفة ذاتها.
لاحقًا، أصدرت القيادة الفلسطينية بيانًا حمل اسمها ونُشر على وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية قالت فيه إن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، ثم جرى تعديل البيان لاحقًا بشطب كلمة حماس، واستبداله بأن الفصائل لا تمثل الشعب الفلسطيني، ومنظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد، أي أنها بكلمات أخرى أنكرت وجود حماس والتأييد الشعبي لها.
كما حاولت السلطة الفلسطينية إنقاذ نفسها، فأصدرت من خلال حركة فتح بيانًا هو الأول عن الحركة، عبّرت فيه عن موقفها من “طوفان الأقصى”، وربطت فيه مفهوم المقاومة بالويلات على الشعب، وردّت على استنكار حماس والفصائل تعيين حكومة جديدة في رام الله، وكان هذا الموقف الرسمي الأول من فتح الذي يدين “طوفان الأقصى” ويعتبره “نكبة” حلّت على الفلسطينيين.
وليس أن السلطة تخشى على الفلسطينيين أو أن صراعها مع حماس وفصائل المقاومة هو صراع سيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية، بل لأن “طوفان الأقصى” هدّد وجودها، ونقض كل ما حاولت السلطة تغييره من مفاهيم الواقع الفلسطينية، فكان الطوفان “نكبة” على السلطة، حين هدد المشروع السياسي الذي جاءت إثره السلطة الفلسطينية عام 1993.
الاعتقالات السياسية: مقياس المصالحة
قد يكون المؤشر الأكثر صدقًا على مدى نجاح وفعالية اجتماعات المصالحة، هو قضية المعتقلين السياسيين والمقاومين في الضفة المحتلة، الذين اعتقلتهم السلطة الفلسطينية في سجونها، وفي معظمهم هم أسرى محررون يتبعون لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، ويحقّق معهم في سجون السلطة نيابة عن التحقيق في سجون الاحتلال، ثم يفرج عنهم ويعيد الاحتلال هذه المرة اعتقالهم ويحقق في التهم نفسها التي وجّهتها إليهم السلطة.
خلال لقاء عام 2022، انتشرت صور لقيادات الفصائل الفلسطينية المجتمعة في العاصمة الجزائر متشابكة الأيدي، في دلالة على اتفاق مصالحة قادمة، لكنّ المثير للسخرية في ذلك الوقت أن السلطة الفلسطينية بينما شبكت يدها مع قيادة حماس، كان محققوها في سجن أريحا يتناوبون في تعذيب المعتقل السياسي أحمد هريش (أسير حاليًا في سجن الاحتلال)، والذي وُصف بأحد أكثر المعتقلين السياسيين تعذيبًا في تاريخ السلطة، وفق ما أدلت به مجموعة “محامون من أجل العدالة” حينها.
أما في لقاء بكين، فوقعت حادثة غير مسبوقة، وهو قرار تمديد توقيف فخري جرادات المرافق السابق للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لمدة 5 أشهر على تهمة الذم الواقع على السلطة، بعد أن خرج في مقابلة صحفية أدان فيها ملاحقة السلطة الفلسطينية العمل المقاوم في مخيم جنين، وتفكيكها العبوات الناسفة، وقرارها الاختباء على بُعد أمتار من آليات الاحتلال الإسرائيلي.
شعبيًا، لا ينظر الشارع الفلسطيني بأي نظرة أمل من اجتماعات المصالحة المتلاحقة هنا وهناك، خاصة أن الأحداث بعد السابع من أكتوبر أثبتت مدى تعمّق السلطة في مسار التعاون مع الاحتلال، حيث قتلت السلطة 10 فلسطينيين بينهم طفلة ومقاومان خلال مظاهرات خرجت لأجل غزة. فإذا صدر أمر إطلاق عنصر الأمن بالسلطة الرصاص على الفلسطيني المعارض خلال الطوفان كما لو كان الأمر أيام الانقسام عام 2007، فما الذي سيقنع الشعب أن مصالحة تلوح في الأفق؟