لم يخل حديث أي مسئول سعودي منذ إطلاق المملكة العربية السعودية لـ”رؤية 2030″ في أبريل/نيسان 2016، من الإشارة إلى سُبل تنويع مصادر الدخل، سواء كان ذلك بفرض ضرائب جديدة أو رفع الدعم، أو حتى الإعلان عن بيع كلي أو جزئي الخصخصة لإحدى شركات القطاع العام.
ولعل ما أعلنته المملكة السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم مؤخرًا عن حملة خصخصة في إطار إصلاحات اقتصادية أوسع نطاقا؛ بهدف تعزيز الكفاءة بما يخفف الضغط على المالية العامة، ويساهم في تنويع الاقتصاد المعتمد على النفط، أهم ما يستوجب الوقوف أمامه كثيراً.
السعودية على طريق الخصخصة
قبل الخوض في تفاصيل الخطة السعودية الجديدة التي تعوّل عليها الحكومة لبلوغ أهدافها، تجدر الإشارة إلى أن الخصخصة تُعرف بأنها عملية تحويل كلي أو جزئي لملكية رأسمال الشركات العمومية إلى القطاع الخاص، وذلك من خلال إما البيع المباشر أو عن طرحها في صورة أسهم في الأسواق المالية.
وبالنسبة للسعودية، فإن سياسة الخصخصة ليست مستحدثه، إذ أعلنت الحكومة في أغسطس/آب الماضي عن البدء في خصخصة 10 قطاعات حكومية في السعودية، عبر تشكيل لجان إشراف على القطاعات المستهدفة، وذلك بعد أن شكلت الإيرادات غير النفطية 38% من إيرادات الدولة في 2016، فيما حصة الإيرادات النفطية 62 %، وهي أقل من المعدلات التي اعتادت السعودية عليها سنوات طويلة، سيطر فيها النفط على قرابة 90% من الإيرادات.
ويأتي اتجاه السعودية لهذه السياسة لمواجهة تراجع أسعار النفط الذي يعد مصدر الدخل الرئيسي للبلاد، وسد عجز الموازنة، إذ تنتظر المملكة دعم الأوضاع المالية العامة من خلال هذه الخطوة الجديدة، إذ توقعت السعودية عجزًا بقية 52 مليار دولار في الموازنة العامة لسنة 2018، وذلك للعام الخامس على التوالي بسبب انخفاض أسعار النفط، في حين فاق العجز في موازنة 2017 المستوى المتوقع له.
تكمن خطة الخصخصة في صميم إصلاحات ولي العهد الاقتصادية التي تسعى إلى كسر اعتماد المملكة على عائدات النفط مع تخفيف القيود الاجتماعية للمملكة المحافظة
وفي أحدث حلقة من برامج الإصلاح الاقتصادي، أظهرت وثيقة نُشرت الثلاثاء الماضي أن السعودية تسعى إلى توليد إيرادات غير نفطية تتراوح بين 35 مليار إلى 40 مليار ريال (9-11 مليار دولار) من برنامجها للخصخصة بحلول عام 2020، وتوفير ما يصل إلى 12 ألف وظيفة، في وقت تعاني فيه من تعزيز دور القطاع الخاص الذي يعتمد على النفط.
وكشفت الوثيقة التي نشرتها وكالة الأنباء السعودية الرسمية أن المبادرة تستهدف استثمارات تتراوح بين 24 مليار إلى 28 مليار ريال في 14 عقدًا للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتتضمن تحويل الموانئ السعودية إلى شركات، وخصخصة بعض الخدمات في قطاع المواصلات وتحويل مركز مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث إلى منظمة غير هادفة للربح.
ووفقا للوثيقة، سيأتي جزء من المبلغ المشار إليه من بيع أصول في قطاعات مثل التعليم والمياه والاتصالات والرعاية الصحية، وقد تتم بعض عمليات البيع تلك عبر طروحات عامة أولية للأسهم، بينما قد تكون البقية في صورة عمليات تحويل مباشرة، ويتضمن المشروع بكامله أكثر من مائة مبادرة محتملة في أكثر من عشرة قطاعات، وفق ما نقلت وكالة رويترز.
ووفقًا لـصحيفة الفاينينشال تايمز البريطانية، فإن السعودية تخطط لخصخصة دوري كرة القدم في البلاد من خلال بيع النوادي الرياضية، وشركات مطاحن الدقيق التابعة للمؤسسة العامة لصوامع الغلال، وبعض المشاريع في المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بحلول عام 2020.
ونقلت الصحيفة عن الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للتخصيص ، تركي الحقيل، أن “الجزء الأكبر” من الأموال التي سيتم جمعها سيأتي من تحويل مصنع رأس الخير العملاق التابع لشركة “سالين ووتر ” إلى شركة خاصة.
جدوى الخصخصة في مواجهات التحديات
تكمن خطة الخصخصة في صميم إصلاحات ولي العهد الاقتصادية التي تسعى إلى كسر اعتماد المملكة على عائدات النفط مع تخفيف القيود الاجتماعية للمملكة المحافظة، إذ تكشف هذه الخطوة عن خطط بلاده للاعتماد على مصدرٍ جديدٍ للدخل، ربما يراه البعض أنه يتفوق على المصدر الأساسي “النفط خلال السنوات الثلاث القادمة.
وقد ظنّ البعض أن الإعلان عن طرح نسبة 5% من أرامكو للاكتتاب العام هو أخر الخطوط الحمراء التي ستكسرها الحكومة السعودية، إلا أنّ الاتجاه للخصخصة بات سياسة أساسية للإيرادات وطريقٌ جديد لتنويع اقتصاد البلاد، وذلك بعد تعثر نمو القطاع غير النفطي في المملكة العام الماضي.
تثار تساؤلات حول جدوى برنامج الخصخصة التي ستقوم به المملكة لسد عجز الموازنة
جاء هذا وسط جدل متواصل حول الجدوى الاقتصادية لعملية الطرح، وتأثرها بالعوامل السياسية، وبحسب موقع “ستراتفور” الأميركي للدراسات، فإن السياسات التي يتبعها محمد بن سلمان، قد تؤدي إلى ضياع واحدة من أهم ركائز الاقتصاد والسياسة في السعودية، إذ أن طرح أسهم شركة النفط العملاقة في الاكتتاب العام “قد يقوّض استقرارها”، كما أن خطط الإصلاح تلك قد تذهب بالاستقلالية التي تتمتع بها الشركة طيلة العقود الماضية.
لكن في أجواء التفاؤل التي تسود الأوساط السعودية في الوقت الراهن، تثار تساؤلات حول جدوى برنامج الخصخصة التي ستقوم به المملكة في سد العجز، وتساؤلات أخرى حول نطاق مبيعات الخصخصة نظرًا لتعقيد بيع مؤسسات الدولة التي يعمل فيها موظفون ذوو رواتب جيدة، وذوو دوافع ضعيفة وغير معتادين على المنافسة المفتوحة.
وعلى الرغم من الميزانية التوسعية هذا العام، أصبح المصرفيون يشعرون بالقلق إزاء ضعف النمو بعد أن قامت الحكومة بخفض الدعم وخفض الإنفاق الحكومي، وألقي البعض باللائمة أيضًا على اتجاه الكثير من المستثمرين إلى الانتظار والترقب نتيجة لحالة الضبابية بشأن تبعات التغير السياسي في المملكة، مما ساعد على دفع الاقتصاد إلى الركود في العام الماضي.
كما تأثرت مشاعر المستثمرين بسبب حملة ابن سلمان غير العادية على الفساد المزعوم، والتي شهدت احتجاز العشرات من أفراد الأسرة الحاكمة والوزراء السابقين ومسؤولين كبار أوائل نوفمبر تشرين الثاني الماضي.
ويعول على برنامج الخصخصة التي شرعت فيه المملكة وقف نزيف الأصول الاحتياطية الأجنبية لدى مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي)، إذ فقدت 31% من قيمتها منذ بدء هبوط النفط، في منتصف 2014، بما يقارب 214 مليار دولار.
ليس من السهل مواجهة قسوة الخصخصة
عندما كشف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن خطته للجماهير العام الماضي، جرى تقديم برنامج الخصخصة السعودي البالغة قيمته 300 مليار دولار على أنه عملية البيع الأكبر في القرن، لكن مصرفيين ومستثمرين ومحللين على دراية بالعملية يقولون إنها، بعد مرور 19 شهرًا، تسير ببطء السلحفاة.
وتتمثل المشكلات الأساسية التي يستندون إليها في البيروقراطية الشديدة وعدم كفاية الإطار القانوني وتغيير الأولويات من آن لآخر في إدارات الحكومة بالإضافة إلى حالة الإجهاد السائدة بين المستثمرين.
لكن المصرفيين والمستثمرين والمحللين يعبرون عن مخاوف من بينها ما يتعلق بغياب إطار تنظيمي يطمئن المساهمين المحتملين بشأن مدى السيطرة التي قد تحظى بها الشركات الأجنبية نتيجة لبيع حصص، بما في ذلك الحق في تسريح موظفين.
وبالنظر لتجارب أوروبية ودول مجلس التعاون الخليجي؛ فإن الخطوة الأولى لنجاح الخصخصة في السعودية، تستدعي تطوير الأعمال الحيوية وخدمات العملاء ومهارات جديدة أخرى من خلال التوظيف والتنمية الداخلية، بحسب تقرير لمركز “أكسفورد للاستشارات أكد أن السعودية ستحتاج إلى مليون رائد أعمال في غضون السنوات الخمس المقبلة، وإلى تطبيق برنامج تغيير الثقافة المستدام.
يرى الكاتب عبدالله الربدي أن أكبر عيوب الخصخصة؛ هو أن القطاع الخاص يهدف للربح بالدرجة الأولى
وفي هذا الشأن، يقول مصرفي سعودي عمل على صفقات لوكالة رويترز إن “الأمر سيستغرق وقتا أطول مما توقع كثيرون، وهناك عقبات ناتجة عن تغيير الأولويات في الحكومة السعودية وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي حيث أن هذه مؤسسات عتيقة لم يسبق لها أبدًا الاحتفاظ بدفاتر، وليس من اليسير عليها أن تصمد أمام المدى البعيد الخصخصة”.
ويرى الكاتب عبدالله الربدي أن أكبر عيوب الخصخصة؛ هو أن القطاع الخاص يهدف للربح بالدرجة الأولى، وهذا قد يؤدي إلى امتناع القطاع الخاص عن تقديم خدماته في قطاعات قد يراها غير مربحة، أو لخدماته في أماكن مثل القرى والهجر، مثل الرعاية الصحية لكبار السن أو ذوي الأمراض المزمنة؛ وهنا يجب أن تتدخل الحكومة لتحمي هذه الفئات من قصور الخدمات عنهم”.
من جهته، يرى الاقتصادي عبدالحافظ الصاوي أن العديد من دول المنطقة قد خاضت تجارب حول تنفيذ برامج الخصخصة، وغالبيتها ترك آثاراً سلبية على أداء اقتصاديات هذه الدول؛ مما يجعل النظام السعودي مطالَباً بتوخي الحذر تجاه تنفيذه لبرامج الخصخصة؛ حتى لا يقع في أخطاء التجارب الأخرى لدول المنطقة.
وأخيراً يرى الخبراء أن الخصخصة أينما طُبّقت؛ فلن تنجح دون تنفيذ حقيقي وحازم لإعادة هيكلة عدد من السياسات والإجراءات، ومكافحة الفساد بالرقابة والحوكمة، ومراجعة الأنظمة، ومدى صلاحياتها مع الرؤية، كما يجب أن تحضر القوانين الصارمة والشفافية ومنع الاحتكار من خلال الرقابة وتعزيز ثقافة المساءلة والتقييم المستمر، والهدف في النهاية تعزيز اقتصاد الوطن وخدمات المواطن ورفاهيته وعدم تضرره.