عرفت إفريقيا دخول الإسلام إليها منذ بداية البعثة المحمدية، إلا أن انتشاره القويّ والفعّال لم يكن إلاّ بعد وصوله إلى شمال القارة، فبعد تمكّن المسلمين الفاتحين من فتح شمال إفريقيا وإرساء دعائم دول حديثة قوية هناك، انتشر الدعاة والعلماء جنوب الصحراء وغرب القارة الإفريقية لنشر الدين الإسلامي بين السكان الأصليين في هذه المناطق.
فتبعهم عدد كبير من الأفارقة الذين وجدوا في الدين الإسلامي الرحمة والتسامح، وساعدهم في ذلك التجار المسلمين، وتشكّلت امبراطوريات كبرى لعلّ أهمها “امبراطورية سنغاي” التي امتدت لفترة طويلة على مساحة كبيرة من القارة السمراء.
إمبراطورية السنغاي ..بداية النشأة
اختلف المؤرخون بخصوص تاريخ بداية دخول الإسلام إلى هذه المنطقة، غير أن الثابت أن الفضل في ذلك يعود إلى علماء وتجار المسلمين الذين اختلطوا بشعب سنغاي الذي تكوّن في بدايات تاريخه حول نهر النيجر من ثلاث مجموعات متناحرة، هي: “سركو” أي صيادو السمك، و”غوي” وهم القناصون، و”الفري” وهم المزارعون، ويطلق عليهم – أيضا – “غاب غوي كي” أي الأيدي العاملة أو الممتهنين للمهن التي تحتاج إلى قوة بدنية.
وتفيد بعض المصادر التاريخية التي تناولت جزءا من رحلة السنغاي أنهم عاشوا – قبل عبور النيل إلى الغرب – في جزيرة فيلاي أو فيله جنوب أسوان عند الشلال الخامس ، حيث كانت المنطقة موطن الجماعات النوبية والأجناس السودانية الأخرى، قبل التشتت بعد عبور النهر، وهذه الجزيرة مليئة – الآن – بالهياكل ، والمعابد ، والتحف الأثرية ، وكان وجودها في الجزيرة سببا في عدم بناء السد العالي بين أسوان ووادي حلفا ، كما أن هذه الجزيرة تعد إحدى الجزر المشهورة كالهيسه ، وبيجا ، وعوارض ، الواقعة جنوب سد أسوان، وتقسم مجرى النهر إلى قسمين أو أكثر.
مرّت إمبراطورية السنغاي، بمرحلتين حتى وصلت إلى الإسلام
عاصمة إمبراطورية سنغاي
قبل دخول الإسلام إليها وتمكّنه من حكمها، تبادلت الجماعات الثلاث المذكورة السيادة في كوكيا العاصمة الأولى للإمبراطورية، غير أنهم توحدوا وضموا إليهم باقي شعوب المنطقة مع دخول الإسلام إلى هذه الربوع، وأنشأوا إمبراطورية السنغاي الإسلامية، التي شملت أغلب أجزاء غرب إفريقيا الحالية.
تأسيس هذه الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كان، حسب مراجع تاريخية كثيرة، سنة 1335 ميلادي على يد الملك “سنّي علي كولن”، بمساعدة أخيه “سليمان نار”، وذلك بعد التخلص من أسر ملك مالي منسى موسى، وهما ابنا “زا ياسبي”، الذين احتلوا المنطقة لسنوات طويلة.
يُذكر أن إمبراطورية السنغاي، مرّت بمرحلتين حتى وصلت إلى الإسلام، ففي المرحلة الأولى تشكّلت الإمبراطورية الأولى وذلك بداية القرن السابع قبل الميلاد، أو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، بناء على تحديد المؤرخين لما قبل التاريخ المكتوب بهذا العدد من السنوات. أما المرحلة الثانية وفي تشكّلت الإمبراطورية الثانية وذلك سنة 300 ميلادي أو القرن الأول ميلادي وفي ذلك اختلاف، وقد أسسها أسرة “زا”، وقد سقطت هذه الامبراطورية على يد الماليين قبل أن يفتحها المسلمون.
ساهم التجار والعلماء بقدر كبير في نشر الإسلام في المنطقة
هذا الفتح مكّن من بسط الإسلام سلطانه، وأن تذاع في الناس تعاليمه، وتنتشر بينهم راياته إذ كانت له دولة ترعاه، ففي غياب مثل هذه الدولة يغدو النكوث عن الإسلام إلى الديانات التقليدية هو البديل الماثل، وفي أحسن الفروض تكون المزاوجة بين الإسلام وتلك الديانات هي الطريق إلى تخليط يبقي من الإسلام اسمه، ويمحو معالمه وأثره، مثلما حصل في مناطق عدة من العالم.
امتدادها الجغرافي
في الفترة الأولى لهذه الإمبراطورية الإسلامية التي حكمت فيها أسرة “سنّي” وصل نفوذها معظم غرب القارة الإفريقية من المحيط غربا، وإمارات الهوسا شرقا، ووسط الصحراء شمالا، وبلا الموسى جنوبا، وقد استمرت هذه المرحلة حتى عام 1492 ميلادي، فدام حكمها أكثر من قرن ونصف (حوالي 157سنة).
عمل “محمد أسكيا الكبير” بمعونة العلماء والتجار على تنظيم شؤون المملكة الإدارية
وفي الفترة الثانية لهذه الإمبراطورية الإسلامية التي امتدّت بين 1492 ميلادي و1594 ميلادي، عرفت المنطقة أوج ازدهارها وضُمت إلى سلطة البلاد أراض جديدة في الشمال وعلى سواحل المحيط الأطلسي فاتسعت مملكة السونغاي في عهد “أسكيا محمد الكبير” لتمتد من مناطق قبائل الفولاني وحوض السنغال في الغرب إلى منطقتي أغادس (تقع اليوم في وسط النيجر) ودندي (تقع على نهر النيجر بين شمالي بنين وغربي نيجيريا). وحدود إمارات الهوسا في الشرق، ووسط الصحراء الجزائرية شمالا، وبلا الموسى جنوبا.
تنظيم إداري وازدهار ديني كبير
فضلا عن انتشارها الجغرافي الكبير، عُرفت هذه الإمبراطورية بتنظيم الإدارة وتجهيز جيش قوي، فقد عمل “محمد أسكيا الكبير” بمعونة العلماء والتجار على تنظيم شؤون المملكة الإدارية، فقد أقيمت إدارة موحدة في العاصمة تشمل وزارة المالية والعدل والداخلية والزراعة والغابات، ووزارة أخرى لشؤون البيض أو الأجانب من مواطني شمال إفريقية والطوارق الذين يقطنون أطراف الصحراء.
مثلت تمبكتو إحدى أهم مدن إمبراطورية سنغاي
وازدهرت أيضا العلوم والمراكز الفكرية بالمنطقة، فقد عمل الملوك على النهوض بالشؤون الدينية، وعرفت تمبكتو إحدى مدن هذه المملكة الهامة بأنها المركز العلمي والفكري للمملكة، ففي جامعاتها تدرس العلوم الدينية والشريعة الإسلامية والخطابة والنحو والأدب، ويقوم بالتدريس فيها أساتذة زائرون من القاهرة وغدامس علاوة على الأساتذة المحليين.